كتاب وادباء

أحزان غزاوي على أرض الصمود

أحزان غزاوي على أرض الصمود

سلطان إبراهيم

بقلم  الشاعر سلطان إبراهيم عبد الرحيم

– غزة مدينة من أعرق وأقدم مدن العالم ، فقد أنشئت قبل الميلاد بثلاثة آلاف سنة ، يصفها الرحالة الفرنسي س . ف . فولني أثناء رحلته التي قام بها لمصر والشام في سنتي 1784 و 1785م ، بعد وصف صمودها أمام التقلبات وحملات الأعداء والأحداث العظام ، وبعد وصف منازلها العامرة وأسواقها الغنية وتربتها السوداء الخصبة وبساتينها التي يرويها الماء العذب وفواكهها وتمرها اللذيذ ، يقول : ” ومدينة غزة مؤلفة من ثلاثة أحياء ، أحدها قلعة خربة يشغل قصر الأغا جانبا منها وهو متداع كقصر الرملة ، ولكنه يطل على من حوله إلى أبعد مدى ، ومنه يرى البحر الذي يفصله عن البر ساحل من الرمال عرضه ربع فرسخ ، فهذه البقعة تشبه مصر بشكلها المنبسط والنخيل القائم عليها ، فتربتها وهواؤها يماثلان هواء مصر وتربة شواطئ النيل ، حتى ان السكان هم مصريون بقوامهم وعاداتهم ولهجتهم ولون بشرتهم أكثر مما هم سوريون ” .

– لم نكن بحاجة اليوم إلى كلام الرحالة الفرنسي القديم لنثبت ارتباط غزة بمصر ؛ فهذا أمر مسلم به تاريخيا وجغرافيا ؛ فغزة هي امتداد سيناء ، وهى المحطة الأولى للآتين من مصر ووجهتهم الشام ، وهى محطة لكل قادم من الشام ووجهته مصر .

– وغزة كانت من أجمل مدن العالم وأروعها ، حيث تجد فيها عبق الماضي والبيوت التاريخية القديمة والأحياء والأزقة الضيقة ، وتجد أيضا لمسات الحاضر والبيوت الحديثة والمباني العصرية الجميلة .

– وقد استوطنها المصريون فترة من الزمن كما استوطنها غيرهم ، وتركوا فيها بصمتهم وبعض العادات والتقاليد المصرية التي مازالت قائمة حتى اليوم .

– وتاريخ غزة هو تاريخ فلسطين وهو أيضا تاريخ مصر، وهى أكثر المدن الفلسطينية صمودا وتضحية وفداءً على طول تاريخ المقاومة الطويل ، لذا نجد الإسرائيليين في أسفارهم يكرسون عبارات اللعن والشتم والخراب للفلسطينيين عامة ، ويخصون أهل غزة المناضلين الفدائيين بالمزيد من لعناتهم ودعواتهم بالخراب ولأهلها بالشتات والأمراض.

– ارتباط مصر والمصريين بغزة ليس فقط ارتباط جغرافيا وتاريخ ، ولكنه ارتباط عقيدة وإخوة فى الدين ، وتاريخ بذل المصريين وعطائهم وجهادهم على ربى غزة الطاهر يحتاج لمجلدات لتسطيره.

– هذه العلاقة الوثيقة بين مصر والمصريين وغزة وأبطالها البواسل لن تقدر على التأثير فيها أو إضعافها محاولات الوقيعة الدائمة من العدو الصهيوني الغاشم وعملائه ؛ فالقضية – لو يعلمون –  قضية انتماء لمكان ولتاريخ ولأرض ، وقضية ولاء على دين وعقيدة ومقدسات ، وقد فشلت محاولاتهم قديما لفك هذا الارتباط وإضعاف هذه الصلة بين مصر وغزة ، وستفشل على الدوام لسبب بسيط جدا وواضح ، ستجدوه بين سطور هذه القصيدة الرائعة وستعيشونه بين معانيها وأوجاعها  .

– شاعرنا المرهف سلطان عبد الرحيم شاعر مصري صميم ، ولأنه مصري فهو لا ينسى أبدا أهله فى غزة ولا يتخلى عنهم ، وكيف ينسى والمشاعر واحدة والعقيدة واحدة والأرض واحدة والقضية واحدة والمصير واحد .

– في واحدة من أروع قصائده صاغ سلطان تفاعله مع مجزرة غزة البشعة بطريقة تعكس مدى الارتباط الروحي بين المصري والغزاوى ..

– لن أعلق على القصيدة ، ولكنى سأترككم مع أبياتها الرقيقة الراقية المفعمة بالأحاسيس والمشاعر ، وما ستخرجون به من هذه القصيدة الجميلة هو نفسه ما أردت التأكيد عليه في هذه التقدمة : أن المصري والغزاوى شئ واحد ، كيان واحد ، روح واحدة … نفس المشاعر ونفس الأحاسيس ونفس الهموم ونفس الأحزان ونفس الذكريات  ، ولا عزاء لمن أراد أن يفرق بيننا .

والآن مع رائعة الشاعر سلطان  إبراهيم عبد الرحيم.   

يا حزن مالك قد حللت بأضلعي        أنى ارتحلت أراك يا حزني معي

أمضيت تظعن في المربع باحثا        حتى استقر بك المقام بمربعي

أجعلت من قلبي الممزق مسكنا        تأوي إليه لكي تؤرق مضجعي

أعشقت روحي والجوانح يا أسى        أأخذت عهدا أن تثير تفجعي

أنسجت بيتا في حنايا مهجتي        لعناكب سود تزيد توجعي

فإلى متى تشوى الحشايا باللظى        وتقرح الأجفان تجرى أدمعي

والى متى تفرى العظام تدكها        وأراك يا جيش الهموم مروعي

أو ما كفى إغراق أرضى بالبلا        أو ما كفى قد تفرق مجمعي

بيتي الذي جمع الأحبة قد غدا        كالقبر أوحش في فلاة بلقع

أين الطيور الشاديات بروضنا        بلحونها تشجى فؤاد المولع

أين الشموس الضاحكات بحينا        تهدى البهاء مع الضياء الأسطع

أين الجداول باللجين تدفقت        عذبا فراتا من طهور المنبع

أين البساتين البديعة زهرها        خلابة بعبيرها المتضوع

وحقولنا الخضراء تنطق بهجة        ونسيمها سبحان ربى المبدع

كانت ملاعبنا بأيام  الصبا        ومسارح الحب البرئ الأنصع

ضمت أمانينا العذاب جميعها        نغدوا نروح على رباها الممرع

وإذا المساء يضمنا كانت لنا        أسمار أنس في المفيد الأنفع

مع والدي نهر المحبة والصفا        يسقى القلوب بفيضه المتدفع

ويحيطنا برعاية أكرم بها        فهو المربى والأديب الألمعي

يحكى الطرائف والأقاصيص التي        هي مستراح الروح قبل المسمع

يزجى الأحاجي كي نحل غموضها        ويكافئ الأذكى يحيى اللوذعي

هو أسوة فى قوله وفعاله        ونراه أهل كرامة وترفع

والبيت مزدان برونق شمسنا        أمي تشع النور عند المطلع

من كفها إن عض جوع بالحشا        كل اللذائذ والشهي المشبع

وإذا دنا خوف ضئيل نحونا        فهي الخبير بطرح ذاك المفزع

مع إخوة متراحمين تراهمو        كنظيم در فى العقود مرصع

تحلو الحياة بهم ويرغد عيشنا        والعمر يمضى فى نظام ممتع

ما عكر الدنيا سوى أوساخ من        عشقوا الدمار وأقبلوا بالمدفع

همج ومن صلد الصخور قلوبهم        جلبت وقدت من خبيث المنزع

قدموا كقطعان الذئاب تؤزهم        نيران أحقاد وجمر المطمع

عاثوا فسادا فى البرى لم يتركوا        فى موطني من نبتة أو مصنع

دكوا بيوتات العشيرة كلها        فوق الرؤوس على الشيوخ الركع

قتلوا أبى مع إخوتي لم يرحموا        أمي وقد شربوا دماء الرضع

قد كنت ساعتها أراقب جرمهم        من مكمن خلف الصخور ولا أعي

وجريت من هول المصيبة ليتنى        شاركت أهلي ورد ذاك المصرع

كم مرة ذقت المنية بعدها        وشربت من سم الحياة الأنقع

وبقيت منفردا لأجرع غصتي        وأكتم الحسرات بين الأضلع

أجتر ذكرى من أحب وأعيني        تبكى لحلم نازف ومضيع

وأطوف بالبيت المهدم علني        أشتم من عبق الرفاق الأضوع

وهناك أصغى للرياح لعلها        تنمى إلى صدى لصوت الهجع

وفؤادي الملتاع أعلن ثورة        وسأمتطى فرس الجهاد الأسرع

حقا عرفت الآن درب كرامتي        وخلعت ثوب الخانع المتخشع

تغلي دماء الثأر بين جوانحي        وتؤزنى نحو الفداء الأروع

لا للحياة وفى بلادي طغمة        قد دنسوا بالرجس أطهر موضع

فأنا لهم متربص لن يفلتوا        أنى مضوا لن يبعدوا عن مدفعي

وأنا لهم لأذيقهم غصص الردى        وليجرعوا كأس العذاب المترع

وأنا لهم لغم يدمر جمعهم        وسأدفن الحمقى بهذا الموقع

روحي تزغرد حيث أشلائي غدت        حمما على جند العدا المتدرع

رغد الحياة هناك في الجنات إن        أخلصت للرحمن فيما أدعى

يا حزن فلترحل فإني راحل        عن دار أحزانى بقلب طيع

بحواصل الأطيار تهنأ مهجتي        بين الأحبة في الرحاب الأوسع

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى