الأرشيفتقارير وملفات

أينما تكونوا يدرككم الموت…!

من روائع الأديب الكاتب
السعيد الخميسى
** لا أدرى لماذا ذكرتني حوادث الطرق والقطارات وآخرها   حادث تصادم القطارين المروع والمؤلم بالإسكندرية  والذى راح ضحيته العشرات بين قتيل وجريح بالخنساء شاعرة الجاهلية وهى ترثى أخاها ” صخرا “ وهى تقول : تذكرت صخرا إذ تغنت حمامة … هتوف على غصن من الأيك تسجع .
فظلت لها أبكي بدمع حزينة …. وقلبى مما ذكرتنى به موجع .
فإذا كان قلب الخنساء موجع على أخيها , رغم وجود زوجها وأبنائها بجوارها وذلك لشدة حبها لأخيها , فإن قلوبنا نحن المصريين ممزق وموجع أيضا على هذه الأرواح البريئة التى قتلت نتيجة الإهمال  الشنيع والفظيع . وإذا كانت الخنساء قد تذكرت تلك الحمامة وهى على غصن من الأيك تسجع , فإننا أيضا نتذكر ولا ننسى دماء المصريين على قضبان الحديد وغيرها وهى تسيل وتلمع . نعم تلمع , ولكنه ليس لمعان السراب الذي يحسبه الظمآن ماء , ولكنه لمعان الحقيقة المؤلمة التى تكاد أن توقف نبضات القلب من هول الصدمة العصبية والنفسية  التى تنتابنا ليس بسبب هذا الحادث فحسب , ولكن بسبب الدماء التى تراق كل يوم بسبب وبلا سبب , بتحقيق وبدون تحقيق , بذنب وبدون ذنب . أصبحت لغة الدماء هى اللغة الرسمية المعترف بها رسميا وبلا منافس لها من أى لغة أخرى ! . ذكرنى هذا الحادث الأليم بمصائبنا التى تتوالى كل طلوع شمس وكل غروب , كما كان يذكر ذلك الخنساء بأخيها صخر . يذكرني طلوع الشمس صخرا … وأذكره لكل غروب شمس . ولولا كثرة الباكين حولى…. على إخوانهم لقتلت نفسي . ولكننا لن نقتل أنفسنا , لكننا سوف نعزيها ونواسيها على ضحايانا كل لحظة وكل دقيقة وكل يوم .

* وحق لنا أن نتساءل جميعا فى حسرة ولهفة : هل صرنا نعيش فى عصر الدماء ؟ هل صارت دماء المصريين لا قيمة لها ولا ثمن ولا وزن ؟ هل نصبح مع إشراقة شمس كل صباح على مشاهد مروعة لجثث المصريين بعضها فوق بعض؟ هل نمسى كل ليلة على سماع أنباء مؤسفة ومحزنة ومقلقة عن قتلى هنا وجرحى ومصابين هناك ؟ ألم يأن بعد لنزيف الدماء أن يتوقف؟ ألم يأن بعد لهذا الشعب أن يستريح ؟ولما لا ؟ وفى كل لحظة يشاهد فلذات كبده بين قتيل ومصاب وجريح. إن مستشفيات الطوارئ لم يعد بها ولا فيها متسعا لهذه الطوابير التى تنتظر دورها الذى قد لايأتى أبدا إلا بعد طلوع الروح وصعودها إلى بارئها , وساعتها فقط قد يحين دور الضحية ..!.
أما آن لهذا الليل الأسود أن ينجلى؟ متى يأمن المواطن على روحه وحياته فى هذا الوطن؟ متى يشعر المواطن أن حياته ليست سلعة رخيصة لاتساوى عند المسؤولين جناح بعوضة.؟ هل صرنا جميعا نصطف فى طوابير طويلة ننتظر الموت فى بيوتنا إن جلسنا، وفى الشوارع إن خرجنا، وفى وسائل المواصلات إن سافرنا؟ هل أصبح الشعار الرسمى أينما تكونوا يدركم الموت؟ فأنت أيها المواطن عليك أن تعد نفسك من الموتى فى الطرقات أو بين عجلات السيارات أو بين قضبان القطارات. هل سيقدم سائقا القطارين للمحاكمة ومعهما عامل المزلقان وتنجو الرؤوس الكبيرة التى تمزق شبكة القانون بأنيابها كأسماك القرش المفترسة ؟ يبدو أننا فى الطريق لذلك .

* عشرات  الضحايا  سقطوا بسبب مسؤولين فشلة يتبوأون مقاعدهم فى وزارة النقل والمواصلات وغيرها من الوزرات وهم غير مؤهلين علميا وفنيا لتلك الوظائف.وهذا ليس أول حادث والمؤكد أنه ليس الأخير. لقد ضيع هؤلاء الأمانة ولم يؤدوا الرسالة وأخلوا بمقتضيات الواجب الوظيفى. صحيح أن كل شئ قضاء وقدر لكن لايجب أبدا أن نعلق تلك الكوارث على شماعة القضاء والقدر وحدها.يقول الشيخ محمد الغزالى رحمه الله: “والأمانة فى نظر الشارع واسعة الدلالة، وهى ترمز إلى معان شتى، مناطها جميعًا شعور المرء بتبعته فى كل أمر يوكل إليه وإدراكه الجازم بأنه مسئول أمام ربه، على النحو الذى فصله الحديث الشريف: «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته،”  ثم يقول أيضا: ” من معانى الأمانة  تولى المناصب والوظائف العامة.فقد روى عن أبى ذر – رضى الله عنه – أنه قال: يا رسول الله: ألا تستعملنى؟ قال: فضرب بيده على منكبى ثم قال:  “ يا أبا ذر: إنك ضعيف، وإنها أمانة وإنها يوم القيامة خزى وندامة إلا من أخذها بحقها وأدى الذى عليه فيها” وحذر الإسلام أن يتولى العمل إنسانا وهناك من هو أفضل منه وأقدر على أدائه. ولذلك يقول رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ” من استعمل رجلا على عصابة وفيهم من هو أرضى لله منه، فقد خان الله ورسوله وجماعة المسلمين “ ويقول أيضًا  صلى الله عليه وسلم:  ” من ولى من أمر المسلمين شيئًا فأمر عليهم أحدًا محاباة فعليه لعنة الله، لا يقبل منه صرفًا ولا عدلاً حتى يدخله جهنم “ لذا أقول أن أرواح المصريين معلقة فى رقاب المسؤولين الذين أهملوا أعمالهم وتركوا الشعب يموت تحت عجلات السيارات والقطارات بلا حرمة للدماء.إن كبار المسؤولين هم الذين يجب أن يقدموا للمحاكمة  وليس صغار الموظفين البؤساء ؟

* هل ينسى المصريون حادث قطار الصعيد عام 2002 ومصرع أكثر من 350 شخصاً وإصابة نحو 90 آخرين بحروق خطيرة في القطار رقم‏832‏ المتجه من القاهرة إلي أسوان‏ ؟ وهل ينسى المصريون حادث قطار قليوب عالم 2006 ومصرع 58 شخصًا وإصابة 143, وقع الحادث بمدينة قليوب، عندما اصطدم قطاران كانا يسيران على نفس الخط أحدهما قادم من المنصورة وآخر من بنها. ؟  وهل ينسى المصريون حادث قطار العياط 2009 ومصرع أكثر من 30 شخص وإصابة 58 آخرين إثر حادث اصطدام القطار القادم من القاهرة إلى أسيوط بقطار الفيوم القادم من الجيزة. ؟ وهل ينسى المصريون حادث قطار منفلوط عام 2012 مصرع نحو 48 تلميذاً وإصابة 18 آخرين على قضبان مزلقان قرية المندرة التابعة لمركز منفلوط بمحافظة أسيوط إثر اصطدام قطار رقم 165 القادم من أسيوط إلى القاهرة بحافلة مدرسة دار حراء الخاصة, كانت تمر على شريط القطار في نفس لحظة مرور القطار.  ؟ وهل ينسى المصريون حادث قطار البدرشين الحربي 2013 ومصرع 19 شخصًا وإصابة ما لا يقل عن 117 آخرين، في الساعات الأولى من صباح الثلاثاء, إثر خروج العربة الأخيرة من قطار مجندين عن القطبان عند مزلقان أبو ربع بالبدرشين, محافظة الجيزة. ؟

* إن هذا الشعب المنكوب والمنهوب على مدار تاريخه لم يجد  حتى اليوم مسؤولين أكفاء صغارا كانوا أم كبارا , يرحمون هذا الشعب ويعملون من أجل راحته  ومصلحته ومستقبله بجد واجتهاد وإخلاص , أو حتى يحاسبهم ويحاكمهم إن هم  أهملوا وأخطأوا  وكأنهم أبناء البطة البيضاء  , ونحن الشعب أبناء البطة السوداء التى لا دية ولا قيمة ولا وزن لها  .  إن أى كارثة أو مصيبة تسقط على رؤوس أبناء هذا الشعب , فاعلم أن وراءها  مسؤولين كأهل الكهف أيقاظ  نيام لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا ولملئت منهم رعبا , لايعنيهم دماء ولا يقلق مضاجعهم  عويل و لا بكاء وليس فى وجوههم من الأصل قطرة حياء .  إذا رخصت الدماء فى أى مجتمع وسالت , انهارت الدولة  وتزلزلت ومالت , وساعتها لاينفع بنيانها المتصدع ترميم  ,ولا ثوبها المهلهل ترقيع  , ولا جسدها المريض دواء الطبيب . من فضلكم : حصنوا بلادكم بالعدل وارفعوا عن كاهل هذا الشعب الظلم والقهر والطغيان والإهمال حتى لايطوينا الزمان فى مقابر النسيان ..! .

والله من وراء القصد والنية .

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى