ثقافة وادب

اكتشف البنسلين صدفة وحاز جائزة نوبل.. تعرف على أليكسندر فليمنج الذي غيّر التاريخ

في كثير من الأحيان، يقف العلماء حائرون أمام فهم آلاف الأوبئة التي تفتك الإنسان، وكيفية مواجهتها وإيجاد لقاح لها، ولكن يحدث أن الطبيعة تتدخل لمد يد المساعدة لهم، ليجدوا ضالتهم التي يبحثون عنها لإنقاذ أرواح ملايين من الناس، وهذا تمامًا ما حدث مع عالم الأحياء والطبيب الأسكتلندي أليكسندر فليمنج، صاحب مقولة: “الطبيعة هي التي صنعت البنسلين، أنا وجدته فقط”.

يُعتبر الاكتشاف الذي اكتشفه فليمنج -عن طريق المصادفة البحتة-، والذي نال عليه جائزة نوبل؛ واحد من أعظم اكتشافات القرن العشرين في الطب العلاجي، إذا لم يكن الأعظم على الإطلاق، حيث أنه اكتشف “البنسلين” ليبدأ بعده اكتشافه بداية عصر المضادات الحيوية.

وقبل اكتشاف البنسلين والمضادات الحيوية، لم يكن هناك علاج فعال للعدوى مثل الالتهاب الرئوي أو الإسهال أو السيلان، وكانت المستشفيات مليئة بأشخاص أصيبوا بتسمم في الدم بعد أن خضعوا لعملية جراحية أو خدش، ولم يكن بوسع الأطباء أن يتعاملوا مع هذه الحالات بشكل كبير.

وُلد ألكسندر فليمنغ، في 6 أغسطس (آب) عام 1881، في ريف لوكفيلد، شرق مدينة آيرشاير في أسكتلندا، لعائلة ميسورة الحال وتقليدية، فكان والديه مزارعين، وكان ألكسندر واحدًا من أربعة أطفال، كما له أربعة أخوة غير أشقاء من زواج والده الأول.

ومنذ طفولته، اهتم فليمنج بمراقبة وملاحظة ما يجري في الطبيعة من حوله، وكان يحلم بدراسة الطب، التحق بمدرسة لودن موور، ثم انتقل إلى مدرسة دارفل وبعدها في أكاديمية كيلمارنوك في أسكتلندا، إلى  قرر أن ينتقل إلى لندن عام 1895، للعيش مع أخوه الأكبر، توماس فليمنج الذي كان طبيبًا، وإكمال حياته هناك.

في بادئ الأمر، عمل فليمنج في مكتب شحن مدة 4 سنوات، وبفضل حصوله على منحة دراسية، وعلى نصيبه من ميراث عمه المتوفي، استطاع فليمنج الالتحاق في كلية سانت ماري الطبية بجامعة لندن العريقة،  وهناك حصل على الميدالية الذهبية لعام 1908 كأفضل طالب في الطب، وأصبح محاضرًا في الكلية حتى عام 1914.

كان فليمنغ يخطط بأن يسير على خطى شقيقه ويصبح طبيبًا جراحًا، إلا أن تعيينًا مؤقتًا له في قسم التلقيح في مستشفى سانت ماري غير طريقه نحو علم الجراثيم، الذي كان مجالًا جديدًا في ذلك الوقت، فضلًا عن قوة تأثير مشرفه السير آلمورث إدوارد رايت عليه. 

وكان رايت عالمًا في الأحياء الدقيقة والمناعة، له أبحاثه الفريدة التي جذبت تفكير فليمنج لها، حيث رأى فليمنج أن أفكار مشرفه جديدة وثورية في عالم اللقاح العلاجي، وأن العمل في هذا المجال سيحدث نوعًا جديدًا ومختلفًا في المعالجة الطبية.

خدم فليمنج في الفيلق الطبي للجيش الملكي البريطاني خلال الحرب العالمية الأولى، وعمل كعالم للجراثيم والأحياء الدقيقة، مختصًا في دراسة التهابات الجروح في مختبره المؤقت الذي أنشأه مشرفه رايت في مستشفى عسكري يقع في مدينة بولوني سور مير شمالي فرنسا.

لاحظ فليمنج أثناء خدمته هناك، أن عددًا من الجنود لم يتوفوا بسبب الجروح التي أصيبوا بها في المعركة، إنما توفوا بسبب العدوى التي انتشرت بينهم، ولم يستطع أحد السيطرة عليها، وكانت الوسيلة الوحيدة لمكافحة العدوى هي المطهرات، ولكنها لم تنفع، بل زادت الأمر سوءًا.

وخلال بحثه عن هذا الأمر، اكتشف أن المطهرات القوية تسبب ضررًا أكبر على الجروح، إذ تفوق قدرتها على تقليص تأثيرات عوامل الجسم المناعية قدرتها على تدمير البكتريا الضارة بكثير، لذا كان العديد من الجنود يموتون نتيجة العلاج بالمطهرات، بدلًا عن موتهم من الالتهابات التي كانوا يحاولون التعافي منها.

وعلى أثر ذلك، أوصى فليمنج أوصى فليمنج المعالجين بأن تبقى جروح المصابين جافة ونظيفة من أجل، لتلتأم من تلقاء نفسها وبالتالي الحصول على نتائج أكثير فعالية، إلا أن توصياته لم تؤخذ بعين الاعتبار، واعتُبرت على أنها غير منطقية. 

بعد إنتهاء الحرب عام 1918، عاد فليمنج مرة أخرى إلى كلية سانت ماري، وهناك تولى منصبًا جديدًا، حيث أصبح مساعد مدير قسم التلقيح في مستشفى سانت ماري، وكثف أبحاثه في علم الأوبئة والأحياء الدقيقة، نظرًا لملاحظاته التي سجلها خلال خدمته في الحرب العالمية الأولى.

في عام 1921، اكتشف فليمنج أولى اكتشافاته العلاجية أطلق عليها اسم “الليزوزويم” وهو إنزيم مطهر بشكل معتدل موجود في سوائل الجسم، وحدث ذلك أثناء متابعته لمريض زكام، سقطت من أنف المريض نقطة من السائل المخاطي على مستنبت جرثومي، وبعد مزج المخاط بالمستنبت، اعتقد فليمنج بأن المخاط سيحدث تأثيرًا ما على النمو الجرثومي.

اعتقد فليمنج أنه توصل لأعظم اكتشافاته كعالم، بعد أن اكتشف “الليزوزويم”، التي قضت على بعض أنواع البكتيريا، ولكن اتضح له فيما بعد انعدام تأثير الإنزيم على معظم أنواع البكتيريا والجراثيم القاتلة الأخرى.

قبل حوالي 91 عام، تسببت الطبيعة في إحداث صدفة، ساعدت فليمنج على اختراع سينقذ ملايين الأرواح فيما بعد، ففي عام 1928، بعد فترة وجيزة من تعيينه كأستاذ للأحياء الدقيقة في جامعة لندن، أخذ فليمنج إجازة لمدة شهر قضاها مع عائلته، تاركاً مختبره الذي لم يقم بترتيبه.

وفي 3 سبتمبر عام 1928، عاد فليمنج إلى مختبره، ولاحظ هناك تلوث مستعمرة من المكورات العنقودية الذهبية (وهي فصيلة من البكتيريا تشمل عدة أجناس، وبها أنواع ممرضة)، موجودة على شكل عفن نما على أحد أطباق البتري الملوثة (هو وعاء أسطواني غير عميق، مصنوع من الزجاج أو البلاستيك، ومزوَّد بغطاء، يستعمله علماء الأحياء لاستنبات الخلايا، كالبكتريا والفطريات)، التي نسي غسلها قبل تركه للمختبر. 

كان نمو العفن على أطباق البتري غير المغطاة أمراً اعتاد عليه علماء الأحياء، إلا أن الأمر الذي لاحظه واستغربه فليمنغ أثناء إمالة الطبق في حوض الغسيل، كان موت المستعمرات البكتيرية المحيطة بهذا العفن، بسبب المضاد الحيوي “السائل” الذي ينتجه فطر البنسليوم نوتاتيوم، والذي أطلق عليه لاحقاً اسم البنسلين.

علق فليمنج فيما بعد عن هذه الصدفة التاريخية، بقوله: “حين استيقظت فجر الثامن والعشرين من سبتمبر عام 1928، لم أخطط بالتأكيد لإحداث ثورة في عالم الطب بأكمله باكتشاف أول المضادات الحيوية في العالم، أو قاتل البكتريا، ولكني أفترض أن هذا ما قمت به تماماً”. 

استمر فليمنج في أبحاثه بعدما تأكد أن البنسلين مضاد حيوي، وهو أول المضادات الحيوية المكتشفة، وأدرك أنه ووجد أنه فعال ضد جميع مسببات الأمراض كالحمى القرمزية، والالتهاب الرئوي، والسيلان، والتهاب السحايا، والخناق. 

في حقيقة الأمر، إن عملية التطور العلاجي للبنسلين يتطلب عملًا جماعيًا متعدد التخصصات، وهذا ما أدركه فليمنج، وحاول التعامل معه، فقد استأجر باحثين شبين للعمل معًا على تثبيت البنسلين وتنقيته، ولكنهم فشلوا في ذلك، إلا أن فليمنج لفت الانتباه إلى القدرات السريرية للبنسلين، بالشكلين الموضعي والحقن، وذلك في حال تم تحسينه على النحو المناسب.

على الرغم من أهمية البنسلين الذي تحدثه عنه فليمنج كثيرًا، إلا أنه لم يجد الدعم من المجتمع العلمي ليستخرج كميات كبيرة منه، ولكن في عام 1940، أعلن فريق من الباحثين من جامعة أوكفسورد الإنجليزية، بقيادة عالم الأحياء البريطاني إرنست تشين، والصيدلي الأسترالي هاوارد فلوري، أنهم سيعملوت على عزل البنسلين وتنقيته، وتمكنوا من إنتاجه بكميات كبيرة لاستخدامه خلال الحرب العالمية الثانية.

ساهم البنسلين في إنقاذ حياة أكثر من 200 مليون شخص، حيث تم استخدام كميات كبيرة من البنسلين لعلاج الإصابات التي عانى منها الجنود الجرحى والمرض، أهمها الغرغرينا، كذلك منع تفشي الأوبئة والعدوى البكتيرية فيما بينهم.

وبسبب هذا الدواء العظيم، تم منح كل من فليمنج وفلوري وتشين جائزة نوبل في الطب عام 1945، إلا أنهم اختلفوا حول من هو صاحب الفضل الأكبر والذي ينبغي أن ينسب له البنسلين بالدرجة الأكبر، ولكن الصحف كانت تؤكد دومًا أنه فليمنج له الدور الأكبر في هذا الاختراع.

وبكل تأكيد، قدم فليمنج للبشرية هدية عظيمة، باكتشافه للبنسلين، فقبل اكتشاف المضاد عام 1928، كان مرض الإسهال، الذي يعتبر من أبسط الأمراض الآن، وأمراض عدوى الجهاز الهضمي، ثالث أكبر أسباب الوفاة في الولايات المتحدة الأمريكية، وبعد اكتشافه اختفى الإسهال من قائمة العشرة الأوائل للوفيات.

حصل فليمنج على العديد من الجوائز والتكريمات لاكتشافاته، فقد انتخب زميلًا في الجمعية الملكية عام 1943، وتم ترفيعه إلى رتبة أستاذ فخري في علم الجراثيم في جامعة لندن عام 1948، وحصل على دكتوراه فخرية من أكثر من 30 جامعة أوربية وأمريكية، وكان يتم وصفه بفارس بريطانيا من قبل منظومة الشرف البيرطاني، وفي عام 1999 صنفته مجلة تايم كواحد من أهم 100 شخص في القرن العشرين.

المصدر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى