تقارير وملفات إضافية

الأكراد أم الأتراك.. كيف ينظر سكان شمال شرقي سوريا لتدخل أنقرة بمناطقهم؟

«نحن الآن خاضعون للاحتلال» كانت هذه كلمات مثقفين عرب في شمال شرقي سوريا، بالمنطقة التي تعتزم تركيا إقامة منطقة آمنة بها، قالوها لباحثين زاروا المنطقة، فماذا سيكون موقف سكان شمالي سوريا من التدخل التركي في ظلِّ خضوعهم في الوقت الحالي لحكم الإدارة الكردية.

وأعرب هؤلاء المثقفون للباحثين عن غضبهم من ممارسات الإدارة الكردية بمناطقهم، ولكن الأخطر أنهم حذروا من أن طريقتها سوف تؤدي لظهور داعش من جديد.

فهل يفضل عرب شمال سوريا التدخل التركي على الإدارة التي يهمين عليها الأكراد أم نظام بشار الأسد الذي اضطهدهم ونكل بهم على أساس طائفي؟.

وتهدف تركيا إلى إقامة منطقة أمنة في شمال شرقي سوريا على حدودها لتكون منطقة عازلة تمنع تسلل أي عمليات إرهابية وأن تعمل على إعادة جزء من اللاجئين السوريين الموجودين على أراضيها، والبالغ عددهم أكثر من ثلاثة ملايين لاجئ.

ويعتقد أن أنقرة ستعتمد على المعارضة السورية في إنشاء هذه المنطقة عسكرياً وإدارتها.

أتاح القضاء على تنظيم الدولة الإسلامية «داعش» ككيانٍ جغرافي، في مارس/آذار 2019، لقوات سوريا الديمقراطية (قسد)، التي تُشكّل مظلة للمقاتلين الأكراد والعرب، السيطرة على نحو ثلث الأراضي السورية، حيث يُقيم ملايين السوريين ومعظمهم من غير الأكراد، حسبما ورد في ورقة بحثية أعدها الباحثان  إليزابيث تسوركوف زميلة أبحاث في منتدى التفكير الإقليمي، المتخصصة في الشؤون السورية والعراقية، وعصام الحسن الباحث المقيم في دير الزور، متخصص في السياسة القبلية، ونُشرت في موقع مركز كارنيغي.

 ويُشكّل إنشاء الإدارة الذاتية لشمالي وشرقي سوريا، أي الهيئة المدنية التي تحكم المناطق الواقعة في شمال شرقي البلاد وشرقها، التطوُّر الأهم في المشروع السياسي لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي.

وأُنشئ حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي عام 2003، على يد عناصر سوريين في حزب العمال الكردستاني المسلح، المناهض للدولة التركية، الذي غالباً ما يشنّ هجمات من جبال قنديل العراقية، حيث مقرّ قيادة الحزب (والحزب مصنف حزباً إرهابياً في تركيا ومعظم الدول الغربية، ورغم الصِّلات المعروفة لحزب العمل بالاتحاد الديمقراطي الكردي السوري، إلا أن الدول الغربية تصر على الفصل بينهما، كما تعتبره حليفها الأول في سوريا).

تبنّت الإدارة الذاتية خطاب الحكم الذاتي القائم على «أخوة الشعوب»، وعملت على تعزيز التعايش والاعتراف المتبادل بين مختلف أبناء المنطقة. 

وفي الوقت نفسه، أبدت رفضها التخلّي عن أي سلطة فعلية في مجال صناعة القرار، وتسليمها إلى الجماعات الكردية أو إلى القيادة السياسية والعسكرية الاسمية للمشاركين العرب في الإدارة الذاتية و «قسد»، حسب التقرير.

يقول السكان المحليون في المدن ذات الأكثرية العربية الخاضعة لسيطرة «قسد» إنَّ تهميش العرب من آلية الحكم في مناطقهم يولِّد مشاعرَ استياء لدى العرب المثقَّفين والمتمرِّسين، الذين يعتبرون أنفسَهم غير معنيين بإدارة مناطقهم.

الواقع على الأرض في شمال شرقي سوريا يكشف أن الكومونات وغيرها من وحدات الحكومة المنتخبة هي بصورة أساسية عبارة عن وسيلة لتوزيع الخدمات وجمع المعلومات والسيطرة على السكان والإيحاء ظاهرياً بالمشاركة الشعبية، حسب التقرير.

 فصناعة القرار لا تزال مركَّزة في أيدي الكوادر، أي كبار العناصر في حزب العمال الكردستاني، من رجال ونساء، الذين تدرَّبوا في جبال قنديل وأدّوا دوراً ناشطاً في التمرد ضد تركيا، أو في التعبئة باسم حزب العمال الكردستاني في أوروبا.

هؤلاء الأشخاص معظمهم سوريون، لكنَّهم غادروا منازلَهم قبل عقود للانضمام إلى حزب العمال الكردستاني.

وفي أعقاب إنشاء إقليم روج آفا ذي الحكم الذاتي في شمال شرقي سوريا عام 2012، مع انسحاب قوات الأسد من المنطقة من أجل التصدّي لتقدّم الثوار في مناطق أخرى جاء (هؤلاء الأشخاص) من جبال قنديل.

على الرغم من البراغماتية التي يتحلى بها الكوادر واستعدادهم لتغيير سياساتهم ومقارباتهم وتكييفهم بحسب الاحتياجات، يُبدي هؤلاء رفضهم للتخلي عن السلطة.

فهم مَن يتولّون عادة اتخاذ القرارات الكبيرة والصغيرة في المناطق ذات الأكثرية الكردية والعربية على السواء.

وفي حين عُيِّن العرب في مناصب عسكرية ومدنية قيادية في جميع المناطق ذات الأكثرية العربية، يتّخذ الكوادر الحزبية الكردية الذين يوصَفون بأنهم «مستشارو» القادة العرب المحليين، معظمَ القرارات، ويتجاوزون أحياناً العرب المكلَّفين رسمياً بالمسؤوليات والمهام.

ويصف أحد النشطاء في دير الزور الكوادر الأكراد في الهيئات التي يتولى العرب رسمياً قيادتها، بأنهم «العلويون الجدد»، في إشارة إلى الطائفة التي ينتمي إليها آل الأسد، الذين يشغلون معظم المناصب النافذة في سوريا.

قال زعيم إحدى القبائل الكبيرة في دير الزور: «يأتون من الجبال (جبال قنديل) ويحاولون أن يحكموا مناطقنا التي لا يفهمون طبيعتها».

وفي أحد المجالس العسكرية الكبرى في مدينة ذات أكثرية عربية، سخر المقاتلون الأكراد الأدنى رتبة من رئيس المجلس المشترك، وهو رجل عربي، واصفين إياه بـ «البدوي».

 وفوجئوا عندما قال أحد كاتبَي تقرير كارينغي إنّ الرجل واسع الاطلاع وإنه أدلى بمعلومات مفيدة عن المنطقة، حيث أبصر النور وترعرع.

وقد تحدّثت الرئيسة المشتركة لأحد المجالس المدنية في منطقة ذات أكثرية عربية، عن نظرة شائعة لدى زملائها في المجلس: «نحن نثق بشريكنا الكردي، لكنه لا يثق بنا».

ولفتت في هذا الصدد إلى أن «كل قائد عربي يتبع لقائد كردي أعلى منه».

 تكشف المحادثات مع قياديين أكراد في قوات سوريا الديمقراطية أنهم ينظرون إلى العرب المقيمين في شرقي سوريا على أنهم شديدو التمسك بانتماءاتهم القبلية، وينقادون بسهولة إلى النزاع الداخلي، وبأنهم بعيدون عن المبادئ، وغير جديرين بالثقة.

بيد أن غياب الثقة في السكان يتجلّى أيضاً في المناطق الكردية. 

قال عضو سابق في حزب الاتحاد الديمقراطي في معرض حديثه عن الخلل الوظيفي في منظومة الكوميونات في القامشلي، مسقط رأسه: «لا يثق الحزب (حزب الاتحاد الديمقراطي) في المجتمع؛ لأنه يعتبر أن السكان جهلة وغير ضالعين في الأيديولوجيا».

في بعض المناطق ذات الأكثرية العربية، اختارت الإدارة الذاتية العمل عن طريق شيوخ القبائل، بدلاً من المهنيين المثقّفين. 

وقد رفض النشطاء والمهنيون العرب، على نطاق واسع، تسلُّم مناصب في مؤسسات الإدارة الذاتية التي يرون فيها أوراق تين لتغطية الأجهزة المركزية الحقيقية. 

ويعتبر هؤلاء أن قرار العمل مع الشيوخ هو سياسة متعمَّدة، الهدف منها تمكين الشيوخ الأكثر انقياداً وغير العقائديين عموماً، على حساب الشباب المتعلِّمين الأكثر «ثورية»، الذين هم أقل تقبلاً لسياسات الصفقات.

وقد أدَّى ذلك، وفقاً لسياسيين ونشطاء وشخصيات قبلية في دير الزور، إلى تجريد العرب في المحافظة من إمكاناتهم، الأمر الذي يُسهم بدوره في التجدد المقلق للهجمات التي تشنّها خلايا نائمة تابعة لتنظيم الدولة الإسلامية «داعش» في المنطقة.

داعش نشأ في العراق بسبب تهميش السنة العرب، وكثير من مناطق سنة العراق متاخمة لشمال شرق سوريا وهي متشابهون في الطباع.

وقد ينبعث التنظيم مجدداً من سوريا، بسبب تهميش العرب السنة في شمالي شرق البلاد.

وقد حذَّر الرئيس المشترك لأحد المجالس المدنية في شرقي سوريا من أن عودة الدولة الإسلامية في العراق مردّها إلى حرمان السنّة من حقوقهم، ومن أن السيناريو نفسه قد يتكرر في شرقي سوريا، بسبب حرمان العرب السنّة من حقوقهم.

غالب الظنّ أنَّ السكان المحليين الذين ينظرون إلى وجود «قسد» في المنطقة بأنه احتلال أجنبي، في ظل تمثيل حقيقي لأبناء المنطقة، حسب تقرير كارنيغي.

وعادة يفضّل العرب في المنطقة عدم المجازفة بالتعرض للثأر على أيدي الدولة الإسلامية، من أجل تزويد «قسد» بالمعلومات الاستخبارية التي من شأنها مساعدتها على التصدّي لخلايا الدولة الإسلامية في الصحراء الشرقية الشاسعة.

علّق شيخ قبيلة كبيرة في دير الزور: «إذا علمت أن نسيبي يعمل مع الدولة الإسلامية، هل أبلّغ عنه إدارة لا تمثّلني، مخالفاً بذلك التقاليد القبلية، أم ألتزم الصمت، وحتى إنني قد أساعده».

يرى التقرير (الذي كتب منذ عدة أشهر في خضم النقاش الأمريكي التركي بشأن إنشاء منطقة آمنة في شمالي سوريا قبل قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بسحب قواته من سوريا) أن التحالف الدولي الذي يحارب تنظيم داعش كان يجب أن يستخدم النفوذ الذي يتمتع به التحالف، وتشجيع حزب الاتحاد الديمقراطي لتمكين العرب والأكراد على السواء، والسماح لهم بتطبيق الإدارة الذاتية الفعلية.

يقول: «لقد أدَّى الكوادر ذوو الخبرات الواسعة دوراً أساسياً في إرساء منظومة الحكم على عَجَل، ودرء الهجمات من الثوار السوريين، ولاحقاً من داعش، غير أن سيطرتهم المستمرة على عملية صناعة القرار تمارس تأثيراً مناوئاً على الاستقرار في المنطقة».

ولكن يبدو أن القيادة الكردية تشكّك في قدرة العرب والأكراد على السواء، في شمال شرقي سوريا، على ممارسة الحكم الذاتي. فمما لا شك فيه أن الحكم البعثي القمعي الذي استمرَّ عقوداً وفرض حظراً على المجتمع المدني والحراك السياسي المستقل، بالإضافة إلى تردِّي النظام التعليمي في المنطقة، كان لهما أثرٌ سلبي على إمكانات الفرقاء المحليين.

بيد أن المناطق الخاضعة للإدارة الذاتية تضم أشخاصاً ذوي قدرات ومؤهلات، وعدد كبير منهم شباب ومطّلعون سياسياً، يمكنهم قيادة مجتمعاتهم نحو إدارة ذاتية فعلية.

لفهم ديناميكيات التفاعل العربي الكردي في شمالي سوريا، يجب فهم طبيعة هذه المنطقة واختلافها عن بقية سوريا.

منطقة شمال شرقي سوريا، أكثر قبلية من باقي البلاد، ولكن الأمر ليس كذلك فقط، فهذه المنطقة أقرب جغرافياً وبشرياً للعراق (خاصة محافظة الأنبار) من الشام، ويترتب على هذا اختلاف كبير في الشخصية.

ينحدر سكان هذه المنطقة من قبائل بدو محاربين لم يخضعوا كثيراً للدول المركزية بالمنطقة، تختلف طبيعتهم المحاربة عن الطبيعة البراغماتية الشامية التجارية التي تميز باقي سوريا، حسبما يقول مصدر لبناني مطلع على الشأن السوري لـ «عربي بوست».

لقد تحوَّلت الجزيرة الفراتية، ومنذ تخريبها على يد المغول إلى مرتع للقبائل، والتي تحوَّلت للبداوة، بعد أن كانت مستقرة في مدن الجزيرة، وقد عزَّز نمط الحياة هذا قدوم قبيلتين عربيتين من نجد في أواسط القرن السابع عشر، بدءاً من سنة 1640م، وهما شمر وعنزة، اللتان كانتا لا تزالان محافظتين على خشونة البادية واندفاع كبير نحو الغزو والقتال، الأمر الذي غيَّر إلى حدٍّ كبير توزيع بعض العشائر العربية في المنطقة، التي باتت مقسّمة بين العراق وسوريا بحدودهما الحالية.

يعني هذا أنه بينما يمكن أن يقبل سكان سوريا بروحهم التجارية البراغماتية الخضوع لحكم أقلية كالعلويين والأكراد تحت وطأة القمع، فإن الأمر يختلف مع سكان شمال شرقي سوريا الأكثر حدة في الطبع.

ظهر هذا واضحاً في العراق، لم يقبل سنة العراق الاحتلال الأمريكي ولا تعاون جزء من الطائفة الشيعية مع الأمريكيين، وسيطرتهم على الحكم الذي كان تقليدياً في العراق، في يد السنة لقرون، فانفجرت المقاومة في العراق أساساً في مناطق السنة، التي لم تلبث أن تحوَّلت إلى إرهاب اكتوى بناره العالم أجمع.

المعادلة التي خلقت داعش هي شعور بقايا البعثيين وقبائل شمال غربي العراق بالمهانة جراء الغزو الأمريكي، وما اعتبروه اضطهاداً شيعياً، عندما اندمج مع الأفكار المتطرفة الكامنة في قلب المجتمع العراقي، والوافدة مع العسكرة التي طبعت المجتمع العراقي بعد سنوات من الحروب.

داعش هي رد فعل متطرفة لشعور القبائل العربية المحاربة في منطقة الجزيرة الواقعة بين العراق وسوريا بالاضطهاد والتهميش.

 وهي نفس المعادلة القائمة حالياً في شمال شرقي سوريا، في ظل الحكم الكردي، رغم أنه أخفّ وطأة بالتأكيد من الاحتلال الأمريكي والحكم الطائفي الذي قاده رؤساء وزراء العراق الشيعة مثل نوري المالكي.

يزيد التوتر في هذه المعادلة أن كثيراً من عرب شمالي شرق سوريا ينظرون إلى الأكراد في مناطقهم على أنهم وافدون؛ إذ يرون أنهم هاجروا من تركيا بعد فشل ثوراتهم ضد حكم كمال أتاتورك، حيث فرّوا من تركيا إلى سوريا، بعد ثورة الشيخ سعيد سنة 1925م، حيث تحوّلت سوريا لملجأ للأكراد الفارّين من القمع كما يقول الزعيم الكردي عبدالرحمن قاسملو.

ويقدِّر ديفيد مكدول أعداد الأكراد القبليين الذين عبروا الحدود في فترة تهدئة القبائل بين عامي 1925-1928م هرباً من القوات المسلحة التركية بنحو 25 ألف نسمة.

ويوثق ذلك العلامة محمد كرد علي وزير المعارف السوري، الذي زار المنطقة سنة 1931م في رسالته التي أرسلها إلى رئيس الجمهورية السوري آنذاك، حيث ذكر المهاجرين من مختلف الإثنيات الذين «استوطنوا على الحدود وكانت جمهرتهم من الأكراد».

وقبل ذلك استوطنت بعض القبائل الكردية الرُّحل المنطقة منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، في سهول الجزيرة، إلى جانب القبائل العربية، ولكن التدفق الأكبر من المستوطنين جاء خلال العشرينات من القرن المنصرم، هرباً من القمع التركي كما يشير ماكدول، ومنها عشيرة الهفيركان، الذين استوطنوا الجزيرة السورية -منطقة قبور البِيضْ- عام 1927م، بقيادة حاجو آغا، بعد موافقة الفرنسيين، والذي تحوّل خلال بضع سنين إلى أحد كبار المُلاك في الجزيرة، التي وصلها خالي الوفاض وفق تسجيلات برونستن. 

إضافة لذلك، العشائر الكردية من نمط البدو الرحل التي كانت تترك هضبة الأناضول في موسم الربيع وتنزل إلى الجزيرة السورية إلى جوار القبائل العربية، وقد أصبحت منسجمة تماماً مع تقاليد أهل المنطقة وعاداتهم، من خلال استخدامها للزيّ العربي البدوي ونمط خيام البدو، فهي عشائر تحولت للبَداوة بهذا الشكل أو ذاك، لطول إقامتها في الحاضرة العربية، على حد تعبير ماكس فون أوبنهايم، في كتابه البدو.

ولقد رحَّبت سلطات الاحتلال الفرنسي بهجرات الأكراد لتغيير الطبيعة الديموغرافية للبلاد، وكدأب أي احتلال في العالم، حيث يحاول خلق أقليات في مواجهة الأغلبية، خاصة أن مناطق شمالي سوريا تحديداً شَهِدت ثورةً شهيرة بين قبائل المنطقة ضد الاحتلال الفرنسي.

إنَّ نزوح عشائر كردية بشكلٍ جماعي وكبير أحَدَث تغييراً كبيراً في ديموغرافية المنطقة.

ففي حين كان عدد الأكراد في سوريا لم يكن يتجاوز بضع عشرات من الألوف قبل عام 1925، قفز الرقم اليوم إلى 1.6 مليون (تعادل حوالي 8% من سكان سوريا)، كان لا يزال حوالي مليون منهم لا يحملون وثائق سورية، قبل أن يمنحها بشار الأسد لجزء منهم في بداية الثورة السورية، في محاولة لاسترضائهم وإبعادهم عن دعم الثورة.

ورغم تاريخ التعايش الطويل في المنطقة، فإن السيطرة الكردية الحالية حتى لو غُلفت بشكل ديمقراطي، تخلق شعوراً بالظلم لدى أبناء قبائل المنطقة، خاصة أن العرب السنة كانوا يتوقعون منذ بداية الثورة السورية أنَّ الأكرادَ؛ شركاءَهم في الوطن والمذهب والمظلومية سيشاركونهم في الثورة ضد النظام، ولكن الأكراد جرَّهم حزبُ الاتحاد الديمقراطي الكردي للتعاون مع النظام الذي اضطهدهم ضد المعارضة السورية.

كانت سوريا هي موطن القومية العربية الأول، التي نشأت في مواجهة الدولة العثمانية، وبالأكثر في مواجهة التيار القومي التركي المتطرف العلماني، الذي مثَّله ضباط الاتحاد والترقي، الذين سيطروا على الدولة العثمانية في أواخر عهدها.

ونما الشعور القومي العربي في سوريا في مواجهة القومية التركية المتطرفة، التي قادها ضبّاط الجيش العثماني الذين همَّشوا السلطان، وفرضوا سياسة التتريك، وتغذّى السوريون لعقود عبر التعليم ودعاية البعث على استذكار هذا العداء، حيث كانوا يتردد على أسماعهم دوماً مظالم جمال باشا حاكم الشام الذي أعدم المثقفين العرب في دمشق وبيروت بعد أن اتهمهم بالخيانة خلال الحرب العالمية الأولى.

ولكن الواقع أنه منذ تولي حافظ السلطة في نهاية الستينات عبر انقلاب عسكري فإنّ الأغلبية السكانية في سوريا تعلم أن مضطهدها لم يعد القوميين الأتراك، بل النخبة البعثية المستندة إلى الأقلية العلوية، بينما تركيا هي حليف المعارضة التي تتشكل في الأغلب من العرب السنة، الفئة الأكبر في السكان في سوريا.

ومجازر بشار الأسد ووالده حافظ التي راح ضحيتها مئات الآلاف وخلقت أكبر أزمة لجوء في العالم تتضاءل إلى جانبها مجازر جمال باشا أو حتى ما فعله تيمور لنك بدمشق.

كما أن تركيا تستضيف أكثر من ثلاثة ملايين لاجئ سوري، ينالون كثيراً من الحقوق مثل الصحة والتعليم، رغم معاناة البلاد من أزمة اقتصادية مؤخراً.

وخلق هذا الوضع ضغطاً على حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا، الذي يُعتقد أنه خسر انتخابات إسطنبول بسبب تحريض حزب الشعب الجمهوري على اللاجئين السوريين، بل إن هذا الحزب رحّل بعض اللاجئين السوريين غير المسجلين في إسطنبول من المدينة فور توليه الحكم.

وهي مفارقة غريبة حسب ياسين أقطاي، مستشار رئيس حزب «العدالة والتنمية» التركي الحاكم، الذي قال إن «الحزب المعارض بكل دول العالم يعتبر حزباً يسارياً، ويكون دوماً مع حقوق اللاجئين، لكن في تركيا وقفت الأحزاب المعارضة ضد اللاجئين، وحرَّضوا الناس بطريقة شعبوية عليهم، وفي النهاية نحن دولة ديمقراطية تلتزم آراء شعبها».

وبالتالي في مواجهة الشعور بالاضطهاد من قبل الأقلية العلوية والتهميش من الأكراد، فإنَّ جزءاً كبيراً من العرب السنة الذين يشكلون أغلب سكان سوريا ينظرون لتركيا أنها حليفهم الطبيعي الذين وقف معهم في مواجهة نظام طائفي مدعوم من إيران التي تقود المشروع الشيعي في المنطقة وخاصة في ظل تذبذب مواقف الدول العربية وتركها للسوريين في مواجهة آلة الأسد العسكرية.

وتبدو محاولات إحياء الخلافات التركية العربية والمظالم العثمانية التي وقعت لعقود قليلة ومنذ قرن من الزمان روايات تاريخية لا تقارن بالواقع المرير الذين يعيشونه والذين تعرضوا فيه لعملية إبادة وتطهير طائفي من قبل أبناء جلدتهم من العرب العلويين.

كما أنَّ التدخل العسكري التركي في سوريا كان يفترض أن يثير ردَّ فعل شعبياً سورياً وعربياً في الأحوال العادية، ولكن الأمر مختلف في ظلّ تدخل إيراني وروسي أوسع نطاقاً، تسبَّب في تدمير البلاد، وآخرها حلب، وكذلك تدخل أمريكي وغربي وأحياناً سعودي وإماراتي.

يتبقى أن موقف عرب شمال شرقي سوريا سيتطور بشكل أكبر بناء على طبيعة العمليات العسكرية، ومن سيُدير المنطقة الآمنة التي تعتزم تركيا إنشاءها. 

فكلما زاد دور المعارضة السورية وأثبتت قدرة على إقامة كيان يحمي حقوق العرب السنة، ويعبر عنهم مع محاولة التعايش مع الأكراد، كلما كان السكان أكثر تقبلاً للواقع الجديد، ومهّد ذلك لعودة أكبر عدد ممكن من اللاجئين السوريين.

أما إذا واصلت المعارضة السورية تشرذمها وخلافاتها الفصائلية، فإنّها تضيع آخر فرصة لإنقاذ البلاد والحفاظ على هويتها الديموغرافية، بعد أن تسبب عمليات التهجير الواسعة للعرب السنة التي قام بها النظام إلى تحويلهم أقلية في بلادهم وأكبر مجتمع لاجئين في العالم.

 

المصدر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى