الأرشيفكتاب وادباء

الرجوع للحق خير من التمادى فى الباطل .

من روائع الأديب الكاتب
السعيد الخميسى
* هناك بشر تتضخم نفوسهم  وتتورم وتنتفش كريش الطاووس ولا يقبلون المراجعة أو المواجهة وتذكيرهم بأنهم بشر يصيبون ويخطؤون . وإذا استجمعت شجاعتك وتجرأت وذكرت أحدهم بأخطائه ونزواته وانحرافاته  , تراه ينتفض غاضبا كالثور الهائج وكأنه ملك نزل من السماء لا بعرف الخطأ إلى طريقه سبيلا .  وهؤلاء موجودون فى كل مكان , فى الشأن العام , فى السياسة , فى الأسرة الواحدة , فى المواصلات , فى المصالح الحكومية , فى دور العبادة , لا يخلو منهم زمان ولا مكان .   والحقيقة الخالدة الباقية بقاء الدنيا أن كل بنى آدم خطاء مهما بلغوا من العلم والثقافة والدراية إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم .
فنحن البشر لسنا معصومين من الخطأ والخلل والنقص . لأننا لسنا بأنبياء منزهين , ولا بملائكة مقربين لايعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون . انطلاقا من قول المعصوم صلى الله عليه وسلم :” كل بنى آدم خطاء , وخير الخطائين التوابون ” فالخطأ واقع لا محالة ,والكمال من كل عيب ونقص حالة فيها استحالة . والخطأ عن غير عمد لا يعيب المرء ولا ينقص من قدره , وإنما العيب كل العيب هو الاستمرار فى الخطأ بل وتبريره من غير بينة أو سند أو حجة أو برهان . والأدهى منه والأمر , الدفاع عن الخطأ بالحق والباطل استعلاء واستكبارا . وما نزلت بنا النكبات , وما حلت بنا النكسات التى قصمت الظهور وعرضتنا للظلم والجور إلا بسبب التمادي فى الخطأ وعدم الاستجابة للنصح والتوجيه والتصحيح . والحق عز وجل يقول ” بل الإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره ” . فاختلاق المعاذير يعطل المسير ويلغى ثقافة الاعتراف بالتقصير. إن الاعتراف بالخطأ هو أول خطوة على الطريق الصحيح . هذا الاعتراف قوة وليس ضعفا , عزة وليس ذلا , كرامة وليس مهانة . والإصرار على الباطل هو جرثومة من جراثيم الاستكبار تغلغت فى أعماق النفس البشرية فأفسدتها وقتلتها . أسقط كلامي حيث يذهب بك خيالك الواسع على كل مكونات المجتمع من أفراد ومسؤولين وعلماء ودعاة ومفكرين وجماعات وأحزاب وهيئات ومؤسسات وحكومات. فكلنا ياسيدى خطاؤون ولسنا من الزلل والعثرات والهفوات والخطأ معصومين .
* سيظل عملاق الإسلام أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضى الله عنه علامة بارزة ونجما ساطعا لايأفل أبدا فى التاريخ الإسلامي . لقد ضرب المثل الأعلى فى الصراحة فى الحق وكتمان السر والاعتراف بالخطأ والإنصاف من النفس وملكها عند الغضب . سمع رجلا يقول :” اللهم أجعلني من الأقلين..!” . فقال عمر: يا عبد الله  وما الأقلون..؟ فقال الرجل : أما سمعت قول الله تعالى : ” وقليل من عبادي الشكور ” وقوله تعالى ” وما آمن معه إلا قليل ” فقال عمر : كل أحد أفقه منك يا عمر..! . وعندما نهى عن المغالاة فى المهور  , ذكرته امرأة من قريش بقول الله تعالى ” وآتيتم إحداهن قنطارا فلاتأخذوا منه شيئا ” فقال رضى الله عنه : أصابت امرأة وأخطأ عمر , كل الناس أفقه منك يا عمر..! . هذا العملاق الفذ الذى لا يوجد على الأرض اليوم من مليارات البشر من يناظره فى عبقريته أو يشابهه فى قوته , أو يماثله فى رزانة عقله وصواب رأيه ورجاحة فكره , يعترف متواضعا وبكل ثقة فى نفسه بقوله : أصابت امرأة وأخطأ عمر.  قال عنه شاعر النيل مادحا تلك العبقرية  العمرية  : فمن يبارى أبا حفص وسيرته… أو من يحاول للفاروق تشبيها . إن الفاروق عمر رضى الله عنه لم يشعر بنقص فى نفسه أو عجز فى عقله أو خلل فى رأيه أو انتقاص من مقام أمير المؤمنين حاكم أكبر دولة إسلامية طلعت عليها الشمس وشهدها التاريخ أن يعترف اعترافا  على الملأ أمام امرأة من قريش أنه أخطأ وأنها أصابت من باب الرجوع للحق خير من التمادى فى الباطل . وهذا شأن العظماء العمالقة الأفذاذ الذين يعلمون قدر أنفسهم ويحترمون قدر الغير حتى ولو كانت إمرة ضعيفة من قريش لايعرفها كثير من الناس . فإن كانت المرأة لايعرفها أحد فعمر رضى الله عنه يعرف نفسه أكثر مما يعرفه الآخرون وهذا من صفات العمالقة الكبار الأبرار .
* إن مشكلة الذين يرتكبون الأخطاء ثم يكررونها مرارا وتكرارا , صباحا ومساء  فى كل يوم مرة أو مرتين, أنهم يظنون أنهم على صواب وحق . وذلك لسببين رئيسيين : أولها الغرور والاستكبار والتعالي والثقة الزائدة بالنفس . ثانيهما أنهم لم يجدوا من يراجعهم ويصوب ويصحح لهم تلك الأخطاء , إما خشية من سلطتهم ونفوذهم , وإما من باب التقرب زلفى إليهم لكسب مغانم رخيصة  . يقول احد الحكماء البلغاء : ” لقد استفدت من أعدائي أكثر مما انتفعت بأصدقائي ، لان أعدائي كانوا يعايرونني و يكشفون لي عن عيوبي ، و بذلك أتنبه إلى الخطأ فاستدركه ، أما أصدقائي فإنهم كانوا يزينون لي الخطأ و يشجعوني عليه .. فاللهم أحفظني من أصدقائي . ”  وهذه مشكلة فى حد ذاتها . إن الذين يورطونك ويزينون لك الأخطاء ليسوا شياطين الجن , وإن كان ذلك واقع فى حقهم , بل فى المقام الأول شياطين الإنس المقربون الذين يزينون لصاحبهم سوء العمل فيراه حسنا جميلا وهو فى الأصل قبيح ذميم . هل تتذكرون قصة ملك فى قديم الزمان خرج عاريا على قومه ليختبر مدى وعيهم وولائهم وسكوتهم عن الخطأ واعتباره صوابا ؟ خرج ذلك الملك ذات يوم عاريا كيوم ولدته أمه على قومه قائلا لهم : كيف ترونى اليوم ؟ قالوا : ما أجملك ! نراك اليوم فى أبهى حللك وكامل زينتك , باستثناء طفل صغير صرخ فى القوم مستنكرا جهلهم وخوفهم قائلا : يا قوم : إني أرى الملك عاريا ..! المنتفعون والعبيد لا يرون أخطاء أسيادهم لأنهم أولياء نعمتهم , إنما يراها الذين لا مصلحة لهم ولا ناقة ولا جمل .
* لا كبيرة مع الاستغفار , ولا صغيرة مع الإصرار . هذا هو شان الخطأ , يكبر مع الاستمرار فيه مهما كان صغيرا . ويصغر مع التوبه منه مهما كان كبيرا . إن الحكماء لهم محطات رئيسية وجوهرية يراجعون فيها قراراتهم ومواقفهم بحيادية وموضوعية بعيدا عن الضوضاء والغوغاء . وليس عيبا أن يتخذ المرء قرارا ثم يكتشف خطاه فيما بعد فيتراجع عنه . لان كلام الله المقدس هو الذي لايقبل الزيادة والنقصان لأنه منزل من رب العالمين . لقد جاء في وصية عمر رضي الله عنه لأبي موسى الأشعري حينما ولاه القضاء : ” لايمنعك قضاء قضيت فيه اليوم فراجعت فيه رأيك فهديت فيه لرشدك إن ترجع فيه للحق . ”  إن مراجعة المواقف فضيلة من فضائل الإسلام وليس أجمل من موقف الصديق والفاروق حين اختلفا فى مسالة جمع القران بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم . رويَ أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَكَانَ مِمَّنْ يَكْتُبُ الْوَحْيَ قَالَ : أَرْسَلَ إِلَيَّ أَبُو بَكْرٍ مَقْتَلَ أَهْلِ الْيَمَامَةِ وَعِنْدَهُ عُمَرُ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّ عُمَرَ أَتَانِي فَقَالَ إِنَّ الْقَتْلَ قَدْ اسْتَحَرَّ يَوْمَ الْيَمَامَةِ بِالنَّاسِ وَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَسْتَحِرَّ الْقَتْلُ بِالْقُرَّاءِ فِي الْمَوَاطِنِ فَيَذْهَبَ كَثِيرٌ مِنْ الْقُرْآنِ إِلَّا أَنْ تَجْمَعُوهُ وَإِنِّي لَأَرَى أَنْ تَجْمَعَ الْقُرْآنَ ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ : قُلْتُ لِعُمَرَ كَيْفَ أَفْعَلُ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ عُمَرُ : هُوَ وَاللَّهِ خَيْرٌ , فلم يزل عمر يراجعنى فيه   ,   حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ لِذَلِكَ صَدْرِي وَرَأَيْتُ الَّذِي رَأَى عُمَرُ  .” إنها نعمة المراجعة وفضيلة الرجوع للحق . فان مكانة أبو بكر الصديق بصفته أمير المؤمنين لم تمنع عمر من أن يرجعه لأنه رأى الخير والحق فى جمع القران فى مصحف واحد .
*إن الاعتراف بالخطأ  من أى  إنسان كائنا من كان , صغيرا كان أم كبيرا حاكما كان أم محكوما هو أحد مفاتيح صلاح أى مجتمع غرق فى مستنقع الفساد . وبداية للتغيير الحقيقي .  إننا نعانى اليوم من سوء الإدارة  فى بعض هيئات ومؤسسات وأحزاب  ومكونات المجتمع  , وتفشى بعض جوانب الفساد فى التعليم والاقتصاد والسياسة والدين، فلنعد إلى إحياء ثقافة الاعتذار وفضيلة الاعتراف بالحق . ولنتذكر قول أبى بكر الصديق رضي الله عنه عندما أصبح خليفة المسلمين: إن أصبت فأعينوني وإن أخطأت فقومونى، وقول عمر بن الخطاب رضى الله عنه: رحم الله امرأ أهدى إلى عيوبى، وليبدأ كل فرد بنفسه  مهما كانت مكانته ووظيفته . إننا نسمع كل يوم عن مسؤولين كبار فى بلاد الغرب يخطؤون فيعتذرون فيستقيلون من أعمالهم   .  أما فى عالمنا الثالث فالخطأ يوجد له ألف تبرير وألف تفسير لنفى شبهة التقصير ومن ثم تغيب عنا ثقافة الاعتذار . لن تتقدم مجتمعاتنا إلا بنشر ثقافة الاعتراف بالخطأ ثم تصويبه وتصحيحه . يقول الشاعر الحكيم : إذا كانت النفوس كبارا … تعبت فى مرادها الأجساد . أنت كبير باعترافك بخطئك .. وصغير بإصرارك على أنك ملك لا تخطا .  فلبراجع كل منا نفسه وليحاسبها قبل أن تحاسب بميزان الله الذى قال عنه : ومن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره .
اللهم بلغت .. اللهم فاشهد .
 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى