الأرشيفكتاب وادباء

السطر الأخير والواقع المرير

من روائع الأديب الكاتب العملاق
السعيد الخميسى
* لقد خلق الله تعالى الخلق وترك لهم حرية الإيمان به فقال ” فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ” ثم ختم رسالات السماء برسالة محمد صلى الله عليه وسلم ولم يكره أحدا من خلقه أيضا أن يؤمن برسالة الإسلام كرها وإجبارا وبالقوة . فقال أيضا ” لا إكراه فى الدين ” يقول الشيخ الشعراوى رحمه الله مفسرا : ”  إن الإكراه هو أن تحمل الغير على فعل من الأفعال لا يرى فيه هو الخير بمنطق العقل السليم. ولذلك يقول الحق سبحانه: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين}. ومعنى هذه الآية أن الله لم يكره خلقه وهو خالقهم على دين، وكان من الممكن أن الله يقهر الإنسان المختار، كما قهر السماوات والأرض والحيوان والنبات والجماد، ولا أحد يستطيع أن يعصى أمره. لكن الحق يريد أن يعلم من يأتيه محباً مختاراً وليس مقهوراً، إن المجيء قهراً يثبت له القدرة، ولا يثبت له المحبوبية، لكن من يذهب له طواعية وهو قادر ألا يذهب فهذا دليل على الحب، فيقول تعالى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين} أي أنا لم أضع مبدأ الإكراه، وأنا لو شئت لآمن من في الأرض كلهم جميعاً. فهل الرسل الذين أرسلهم سبحانه يتطوعون بإكراه الناس؟. لا، إنّ الرسول جاء لينقل عن الله لا ليكره الناس، وهو سبحانه قد جعل خلقه مختارين، وإلا لو أكرههم لما أرسل الرسل، ولذلك يقول المولى عز وجل: {وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأرض كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنتَ تُكْرِهُ الناس حتى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} .
* إذا كانت المقدمة السابقة متعلقة بأغلى شئ فى الوجود ألا وهو الدين , فما بالكم بما هو أقل شأنا من الدين والعقيدة ؟ هل يجوز الإكراه فيه ؟ هل يجوز أن تجبرنى وتكرهني على أن  أسطر مقالا أمدحك فيه أو مقالا آخر أذم شخصا آخر إرضاء لك ؟ هل يجوز أن تجبر أى هيئة أو حكومة أو سلطة كاتبا أو مفكرا حرا أن يكون مواليا لها بالحق والباطل , يبرز حسناتها ويخفى سيئاتها ؟ إذا كان القاعدة تقول ” لا إكراه فى الدين ” فلماذا الإكراه فى أمور الدنيا المختلف فيها ؟ لماذا تلجأ بعض الحكومات فى عالمنا العربي إلى التصفية الجسدية لبعض من يخالفها الرأى ؟ أليست التصفية الفكرية أولى وأوجب من التصفية الجسدية ؟ أليست الدماء محرمة فى الشرع والقانون ؟ لماذا يكون السطر الأخير فى حياة الكاتب والمفكر الحر ملطخا بدمه ؟ لماذا يدفع الكاتب ثمن الكلمة الحرة التى لا يبتغى بها سوى وجه الله وإصلاح المعوج ؟ إن من ينادى بالحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان لم يرتكب إثما ولا ذنبا ولا معصية ؟ لم يدع إلى فوضى أو عنف أو إرهاب , وإنما دعا من بيدهم مقاليد الأمور أن يسمعوا فقط ويحسنوا السمع لعلهم يهتدون للحق  والحق أحق أن يتبع . إن السطر الأخير فى حياة الكاتب الحر أصبح يعبر بلا شك عن الواقع المرير الذى تعيشه وتحياه أمتنا العربية والإسلامية التى لم تعد تتحمل إلا مارحم ربك مجرد الكلمة , وكأن الكلمة صارت أثقل من الجبال الراسيات .
* إن الفاروق عمر ضرب المثل الأعلى
لحرية الرأى والتعبير , بل وفتح الباب على مصراعيه لمن يريد أن ينتقده مباشرة أو يوجه إليه لوما أو عتابا أو انتقادا مريرا يمس شخصه طالما ذلك للصالح العام وليس للتجريح والتشهير وتصيد الأخطاء . لقد قام ذات يوم يخطب فى الناس قائلا : أيها الناس، من رأى منكم فى اعوجاجاً فليقومه، فقام له رجل وقال: والله لو رأينا فيك اعوجاجا لقومناه بسيوفنا، فقال عمر: الحمد لله الذي جعل في هذه الأمة من يقوّم اعوجاج عمر بسيفه . وليس معنى قول هذا الرجل الشجاع إنهم سوف يقتلونه لو أخطا , لكن المغزى هنا أنه سوف يجد قوة تعارضه فى صده ورده عن الانحراف إن هو أراد أن ينحرف بالسلطة بعيدا عن مصالح الناس وحريتهم وأرزاقهم . ذلكم هو المعنى . وكان الفاروق رضي الله عنه  يقول: أحب الناس إلى من رفع إلى عيوبي، وقال أيضاً: إني أخاف أن أخطئ فلا يردني أحد منكم تهيبا مني، وجاء يوماً رجل فقال له على رؤوس الأشهاد: اتق الله يا عمر، فعقب بعض الحاضرين من قوله وأرادوا أن يسكتوه عن الكلام، فقال لهم عمر: لا خير فيكم إذا لم تقولوها ولا خير

فينا إن لم نسمعها .
  • ورغم اتساع رقعة دولته والمخاطر التى كانت تحيط بها من كل جانب , إحاطة السوار بالمعصم , لم يكن الفاروق رضي الله يقيد حرية الرأى والتعبير والاجتهاد الشخصي مالم يكن هناك نصا يقينيا صريحا . لقد قابل الفاروق رجلا فقال له : ما صنعت؟ قال: قضى علي وزيد بكذا، قال: لو كنت أنا لقضيت بكذا، قال: فما منعك والأمر إليك؟ قال: لو كنت أردك إلى كتاب الله أو إلى سنة نبيه صلى الله عليه وسلم لفعلت، ولكني أردك إلى رأي، والرأي مشترك ما قال علي وزيد، وهكذا ترك الفاروق الحرية للصحابة يبدون آراءهم في المسائل الاجتهادية، ولم يمنعهم من الاجتهاد، ولم يحملهم على رأي معين . كما انه لم يستغل سلطته السياسية بصفته ” أمير المؤمنين ” ليفرض آراءه ووجهة نظره على الصحابة أو حتى على عامة الشعب , إيمانا وتسليما منه بأن العمالقة يولدون فى مناخ الحرية , أما الأقزام والعبيد فيولدون فى مناخ الكبت والقمع ووأد الحريات , ولايمكن أن تبنى دولة مدنية حديثة على أكتاف العبيد والأقزام . إنه الفاروق عمر .. ومن يحاول للفاروق تشبيها…؟

*
يقول جورج واشنطن : إذا سلبنا حرية التعبير فسنصير مثل الدابة البكماء التي تقاد إلى المسلخ . ويقول المفكر الفرنسي فولتير: إنني مستعد أن أموت من أجل أن أدعك  تتكلم بحرية مع مخالفتى الكاملة لما تقول . ويقول أحد المفكرين : فى غيبة الحرية تسود القيم الوثنية وتمتد القداسة والحصانة لسادتنا وكبراءنا وما وجدنا عليه آباءنا . ويقول آخر هناك من يطالب بالحرية وهناك من يطالب بتحسين شروط العبودية . لا يمكن أن يتحول أصحاب الرأى والعقل والمشورة إلى مجرد ” كتبة ”  بكتبون  ما  يؤمرون به أو مجرد موظفين أرشيف يسجلون البيانات , وينفذون التعليمات وينتظرون التوصيات.  هؤلاء هم مرتزقة كل نظام , وخدمة كل فرعون , وحاشية كل سلطة . هؤلاء أساءوا للقلم ولرسالته ومكانته . انقلبوا على مواقفهم ومبادئهم السابقة كما ينقلب الليل على النهار . باعوا كل شئ بثمن بخس مقابل حفنة من المال الزائل . ليت شعرى لو أنهم يتذكرون قول القائل : وما من كاتب إلا سيفنى … ويبقى الدهر ما كتبت يداه . فلا تكتب بكفك غير شيء … يسرك في القيامة أن تراه . سيظل القلم مكرما لان الله عز وجل أكرمه ورفع من قدره عندما  ما أقسم به . وخاب وخسر من باع قلمه وتخلى عن شرفه وكرامته وحط من قدره . لا أسوا من خيانة القلم لان السيف الغادر قد يقتل أفرادا . أما القلم فقد يقتل أمما .
  * إنني حتى آخر نفس فى حياتي , متمسك بحقي فى الحرية , وحق بلادي فى الحرية . حريتي التي أفهمها لاتعنى أن افعل ما أريد , فهذه حرية الأنعام والدواب وأسماك القرش التى تستبيح لحوم الآخرين . . لكن حريتي التي أفهمها وأؤمن بها تعنى ألا يجبرني أحد فى العالمين أن أفعل ما لا أريد . حريتي تعنى أن أكون لى لسان واحد , ووجه واحد , وموقف واحد , وقول واحد .  حريتي لاتعنى أبدا أن أعيش بين الناس بلسانين , ووجهين , أعيش متلونا متحولا متغيرا كالحرباء حسب مقتضى الحال . الدعوة للحرية فى عالمنا العربى لاتعنى أبدا دعوة للانفلات والفوضى والهمجية والتعري والتحرش والاعتداء على الممتلكات والمنشآت العامة والأعراض والأنفس . الحرية قيمة وطنية وإسلامية وأخلاقية عظيمة تنبع من قاعدة ” أنت حر .. مالم تضر . ” . وكما قالوا : حرروا الحرية , والحرية تأتى لكم بالباقي .
  • إن استدراج الكتاب وأصحاب الرأى ثم قتلهم بدم بارد خارج حدود بلادهم لأمر يشيب من هوله الولدان . جريمة تعود بنا إلى عصر الجاهلية الأولى حيث لا شرع ولا قانون ولا دستور , وإنما هى شريعة الغاب البقاء فيها للأقوى وليس للأصلح . إن سمعة ديننا وبلادنا العربية والإسلامية تضررت كثيرا وتم وضع أكواما من تراب الخزى ووحل والعار فوق رأسها حتى صرنا مشوهين بين الأمم . لا بد أن يفهم ويقتنع من بيدهم الأمور فى عالمنا العربي أن الكلمة الحرة تبنى ولا تهدم , تصلح ولا تفسد , تعمر ولا تخرب , تقوى ولا تضعف . الكلمة الحرية القوية تنشئ أجيالا  من العمالقة الأفذاذ الأقوياء الذين يحملون الوطن فوق كاهلهم , والكلمة الضعيفة المرتعشة الجبانة لا تخلق إلا أجيالا من العبيد المناكيد الذين يحملهم الوطن فإذا وهن الوطن سقطوا وسقط معهم الوطن . اللهم احفظ  دماءنا وأعراضنا ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا . اللهم بلغت .. اللهم فاشهد . والله من وراء القصد والنية .
 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى