تقارير وملفات إضافية

الفرصة ربما تكون مواتية لعقد صفقة «نووية» أفضل مع طهران، فهل يغتنمها ترامب؟

لَطالما أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أنَّ هدفه من سياسة الضغط القصوى ضد إيران هو في النهاية توقيع اتفاق أفضل مع طهران، من ذلك الذي وقَّعه سلفه باراك أوباما، وعلى الرغم من كل ما جرى فربما تكون الفرصة الآن مواتية لتحقيق ذلك، فهل يغتنم ترامب الفرصة قبل فوات الأوان؟

الإجابة عن هذا السؤال جاءت في تقرير لمجلة فورين أفيرز الأمريكي بعنوان: «صفقة إيرانية أفضل في المتناول»، تناوَل الأسباب التي دفعت ترامب للانسحاب، واستراتيجيته لتحقيق ما يسعى إليه مقابل ردود الفعل الإيرانية.

في الوقت الذي صعَّدت فيه إدارة ترامب حملة «أقصى قدر من الضغط» في مايو/أيار الماضي، بهدفها المعلن المتمثل في خفض صادرات النفط الإيرانية إلى الصفر، سارعت طهران بالرد بتصعيدها هي. ففي الأشهر التي تلت تلك الحملة، أوردت تقارير أنَّ إيران هاجمت خطوط أنابيب، وناقلات نفط، وواحدة من أكبر منشآت معالجة النفط في العالم في السعودية، ما أدى إلى تصاعُد أسعار النفط والمخاوف إزاء اندلاع حرب جديدة في الشرق الأوسط أيضاً. وفضلاً عن ذلك، خرقت إيران كثيراً الشروط الأصلية للاتفاقية النووية لعام 2015 -المعروفة باسم خطة العمل الشاملة المشتركة- التي كانت تهدف إلى الحدّ من الأنشطة النووية للبلاد، والتي انسحبت منها إدارة ترامب عام 2018.

يحتمل أن هذه التحركات من جانب طهران كانت متعمَّدة لإقناع الولايات المتحدة بإعادة النظر في حملة العقوبات التي فرضتها عليها، ولتشجيع الأطراف الأخرى في خطة العمل الشاملة المشتركة على حثّ واشنطن على التراجع. وربما شعرت إيران لفترة من الوقت أن استراتيجيتها تكلَّلت بالنجاح، إذ حاول كل من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ورئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون ترتيب صفقة تعيد فيها إيران الامتثال لاتفاق خطة العمل الشاملة المشتركة، في مقابل تخفيف العقوبات.

وأوردت تقارير أن هذه الصفقة تعطَّلت في اللحظة الأخيرة، في سبتمبر/أيلول، حين طالبت إيران بتخفيف العقوبات قبل اجتماع مقترح بين ترامب والرئيس الإيراني حسن روحاني، في الجمعية العامة للأمم المتحدة. لكن ربما تخطت إيران الحدود من حينها. ففي 9 نوفمبر/تشرين الثاني، أعلنت عن خططها لاستئناف تخصيب اليورانيوم في مخبأ تحت الأرض، وزيادة سرعة التخصيب في أماكن أخرى. ورداً على ذلك، هدَّد المشاركون الأوروبيون في خطة العمل الشاملة المشتركة بإعادة فرض العقوبات.

وفيما تختبر إيران حدود الصبر الأوروبي، لدى الولايات المتحدة الفرصةُ لتشكيل جبهة موحدة مع شركائها الأوروبيين السابقين، ودفع إيران للعودة إلى طاولة المفاوضات. ويجب عليهما معاً تقديم اقتراح مباشر: التعاون البنّاء، وإيقاف بعض العقوبات ريثما يتم التفاوض على صفقة جديدة. أما إذا استمرَّت إيران في توسيع أنشطتها النووية ورفض إجراء مفاوضات جديدة تهدف إلى تعزيز خطة العمل الشاملة المشتركة، فسوف تنضم أوروبا إلى الولايات المتحدة في إعادة فرض العقوبات التي رُفعت بموجب الاتفاق.

في السنة الأولى التي تلت انسحاب الولايات المتحدة من خطة العمل الشاملة المشتركة، بدا أن إيران تفضل الانتظار حتى تنتهي فترة إدارة ترامب. ولكن إيران، رداً على تصاعُد الضغط الأمريكي، حاولت إقناع الدول الأوروبية بتحدي العقوبات الأمريكية الثانوية، التي عاقبت الشركات الأجنبية التي تتعامل مع البنوك الإيرانية، لكنها سمحت لها ببيع النفط الإيراني لفترة من الوقت. وحالما أصبحت الولايات المتحدة جادة في سعيها للقضاء على صادرات النفط الإيرانية بالكامل، غيّرت إيران استراتيجيتها.

خلال الأشهر الستة الماضية، اتَّخذت طهران أربع خطوات تدريجية لتوسيع أنشطتها النووية، كل منها يهدف إلى خرق واحد أو أكثر من الشروط الأصلية لاتفاقية العمل الشاملة المشتركة. ففي 8 مايو/أيار، أعلنت إيران أنها لن تلتزم بعد الآن بالحدّ الوارد في الصفقة لمخزونها من اليورانيوم منخفض التخصيب. ثم في 7 يوليو/تموز، أشار مسؤولون إيرانيون إلى أنهم سيخصبون اليورانيوم إلى 4.5%، وهي نسبة تتجاوز الحد المسموح به في الصفقة البالغ 3.67%. وفي 6 سبتمبر/أيلول، أشار المسؤولون الإيرانيون إلى أنهم سوف يسرعون وتيرة البحث والتطوير لأجهزة الطرد المركزي المتقدمة، التي قد تمكِّن إيران في نهاية المطاف من تخصيب اليورانيوم بشكل أسرع، وباستخدام أجهزة طرد مركزي أقل -وبالتالي في منشآت صغيرة يسهل إخفاؤها- مما تستخدمها حالياً. وأخيراً، في 9 نوفمبر/تشرين الثاني، أعلنت إيران أنها استأنفت تخصيب اليورانيوم في موقع فُردو تحت الأرض.

وفي البداية، بدا أن تصرفات إيران تهدف إلى الحفاظ على خطة العمل الشاملة المشتركة وليس تقويضها. والتصعيدات الثلاثة الأولى التي اتَّخذتها إيران لم يكن من الممكن التراجع عنها فحسب، بل كانت مقيدة أيضاً، ما أدى إلى تقليص «فترة تجاوز العتبة النووية» -أي الوقت اللازم لإنتاج اليورانيوم المستخدم في تصنيع الأسلحة بكمية تكفي لصنع سلاح نووي واحد- لحوالي أسبوعين فقط، وفقاً لمعهد العلوم والأمن الدولي.

لكن التصعيد الإيراني الأخير في برنامجها النووي أطلق المزيد من أجراس الإنذار. إذ إن موقع فُردو لتخصيب اليورانيوم مثير للجدل، لأنه مصمم ليكون بعيداً عن كشفه والهجوم عليه. وبعد أيام قليلة من إعلان إيران أنها ستستأنف التخصيب هناك، أكد مسؤول إيراني أن طهران تخلّت عن تعهُّدها في خطة العمل الشاملة المشتركة بتحويل المنشأة إلى مركز لأبحاث الفيزياء.

وهدَّد هذا المسؤول أيضاً بأن إيران قد توقف جهودها للحدّ من مخاطر صنع الأسلحة النووية التي يشكلها مفاعلها النووي الذي يضم ماءً ثقيلاً في مدينة آراك. وفضلاً عن ذلك، تشير المعلومات التي نشرتها الوكالة الدولية للطاقة الذرية إلى أن معدل تخصيب اليورانيوم في إيران -الذي كان أعلى من الحدِّ المنصوص عليه في خطة العمل الشاملة المشتركة ولكن الأقل بكثير من قدرة إيران- قد زاد، مما قلص من زمن تجاوز العتبة النووية الذي قدَّرته إيران من ما بين 8 و12 شهراً، إلى ما بين 6 و10 أشهر، وفقاً لمعهد العلوم والأمن الدولي أيضاً.

ومع ذلك، يبدو أن الهدف من تصرفات إيران ليس إنتاج سلاح نووي فعلي في هذه المرحلة، وإنما لفت انتباه الولايات المتحدة وأوروبا. إذ تسعى طهران إلى الضغط على الأولى لتخفيف حملة الضغط الأقصى التي تشنها عليها، وكسب دعم الأخيرة لتأكيد رسالتها إلى واشنطن. وهذا يعني، إلى حد ما، افتعال أزمة لانتزاع تنازلات للعودة إلى الوضع السابق فحسب، وهي مناورة تدركها حكومة كوريا الشمالية جيداً.

تشير استراتيجية طهران إلى أنها ترى أن خطة العمل الشاملة المشتركة تخدم مصالحها، وبالتالي فهي جديرة بالحفاظ عليها. لكنها لا تشير إلى أن طهران ملتزمة بضبط النفس أو الشفافية في برنامجها النووي. إذ كشف عملاء المخابرات الإسرائيلية، على مدى العامين الماضيين، عن «أرشيف» لبحوث الأسلحة النووية الإيرانية، بالإضافة إلى منشأة غير معلنة في تورقوزآباد، يُزعم أن إيران خزَّنت فيها مواد نووية.

ولم يكن أي من الموقعين معروفاً للوكالة الدولية للطاقة الذرية. وعلى النقيض من انتهاكاتها الواضحة المتصاعدة تدريجياً لشروط خطة العمل المشتركة الأصلية، لم ترفض إيران الاعترافَ بهذه الأنشطة فحسب، بل أوردت تقارير أنها سعت لإخفائها فور أن كشفت إسرائيل عن وجودها. وتشير تقارير المراقبة الصادرة عن الوكالة الدولية للطاقة الذرية إلى أن تعاون إيران مع تحقيق الوكالة في هذه المسألة لم يكن مرضياً.

لم تفعل الأطراف الأوروبية في خطة العمل الشاملة المشتركة -الاتحاد الأوروبي والثلاثي فرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة- الكثيرَ رداً على الاستفزازات الإيرانية المتكررة، عدا إدانتها. ويعود هذا جزئياً إلى أنهم يلقون باللوم على الولايات المتحدة في إشعال الأزمة بانسحابها من خطة العمل الشاملة المشتركة، ويعود جزئياً أيضاً إلى أنهم يأملون إنقاذ الاتفاق، ويخشون من أن تدفع معاقبة إيران إلى مزيد من التصعيد. لكن هذه الحسابات قد تتغير، ففي أعقاب التصعيد النووي الإيراني الأخير حذَّر الاتحاد الأوروبي من أن المزيد من الاستفزازات قد تؤدي إلى «آلية حل النزاعات» في خطة العمل الشاملة المشتركة، وهي الخطوة الأولى في عملية قد تنتهي بإعادة فرض العقوبات.

ورغم هذه التحذيرات، من غير المرجح أن تحول إيران مسارَها، لأن هدفها هو تغيير السياسة الأمريكية. وإنما من المرجح أن تستمر في الضغط على واشنطن باستراتيجية التصعيد التدريجي التي تتبعها، على الأقل حتى يتضح ما إذا كان ترامب سيتولى الرئاسة لفترة ثانية أم لا. فإذا فاز ترامب بولاية ثانية، واستسلمت إيران في نهاية المطاف لمفاوضات جديدة مع إدارته، فقد تصعّد إيران بدرجة أكبر بكثير، ربما بإعادة مستويات برنامجها النووي إلى ما قبل خطة العمل الشاملة المشتركة، لافتعال شعور بضرورة التحرك العاجل واكتساب نفوذ قبل المحادثات.

إلا أن نفاد الصبر المتنامي لأوروبا تجاه إيران يوفر فرصة للولايات المتحدة. فقد فرضت إدارة ترامب ضغوطاً اقتصادية كبيرة على إيران، إذ يتوقع صندوق النقد الدولي أن ينكمش الاقتصاد الإيراني بنسبة 9.5% عام 2019. لكنها لم تفعل سوى القليل نسبياً لزيادة الضغط الدبلوماسي؛ بل سعت حثيثاً إلى عقد قمة بين ترامب وروحاني من المستبعد أن تتحقق، ولكنها تقدم إغراءً لإيران.

وبعد إعلان إيران الأخير حول نشاطها النووي يتعيَّن على الولايات المتحدة محاولة تشكيل جبهة دبلوماسية مشتركة مع شركائها الأوروبيين، وحشد دعم إضافي من شركاء في آسيا وأماكن أخرى. ويجب عليهم معاً أن يعرضوا على إيران محادثات جديدة عن صواريخها وأسلحتها النووية، لا تبدأ بمؤتمر قمة، بل بمناقشات بين مبعوثين عاديين. ويجب أن يعرضوا تجميد بعض العقوبات مؤقتاً إذا تعاونت إيران بشكل بنّاء وأوقفت تصعيد أنشطتها النووية، وأن يهددوا بتصعيدها إذا رفضت طهران.

ومثل هذا النهج سيوفر مساراً واضحاً للاتفاق الجديد الذي تريده إدارة ترامب. ومن شأنه أيضاً أن يُسهم في إنهاء الخلاف بين الولايات المتحدة وحلفائها، الذين استغلتهم إيران وصرفت انتباهَهم عن أولويات استراتيجية أكبر، مثل روسيا والصين.

وفي حال بدء مفاوضات جديدة ينبغي على الولايات المتحدة وأوروبا التعامل معها بالدروس المستفادة من العامين الماضيين، إذ أصبح من الواضح أن أجهزة الطرد المركزي الإيرانية القديمة، ومنشآت تخصيب اليورانيوم المعلنة هي العصيّ التي تهدد بها الغرب؛ إذا كانت إيران تحاول استخدامها فعلياً لتجاوز العتبة النووية وإنتاج سلاح نووي، فإن خطر ضبطها -وربما مهاجمتها- سيكون مرتفعاً. ولذا فإن إنتاج سلاح نووي فعليّ يتطلب من إيران أن تفعل ذلك سراً، الأمر الذي يتطلب استخدام أجهزة طرد مركزي أكثر تطوراً، ومنع عمليات التفتيش في المواقع المعنية، وتطوير تكنولوجيا الصواريخ، وتأمين أنشطتها في مجال التسلح بالكامل.

إن ما كُشف عنه خلال العامين الأخيرين يشير إلى أن إيران قد أرست الأساس لمثل هذا البرنامج السري، وفي الوقت نفسه سمحت بعمليات التفتيش لبرنامجها النووي المعلن، ويجب أن يكون ترتيب أي اتفاق جديد بهدف الكشف عن أي برنامج سري ومنعه.

لقد انسحب ترامب من خطة العمل الشاملة المشتركة، آملاً في اتفاق أكبر وأفضل مع إيران، لكن لم تبدأ أي مفاوضات جديدة، رغم الضغط الاقتصادي الهائل، إذ تمنح استفزازات إيران المتكررة إدارة ترامب فرصةً لزيادة الضغط الدبلوماسي عليها كذلك، وحشد الدعم الأوروبي لجولة جديدة من المحادثات. وإذا لم تغتنم إدارته هذه الفرصة، فإن ترامب سينهي فترة رئاسته الأولى ليس بقيود أكبر على برنامج إيران النووي، وإنما بتوسيع إيران لأنشطتها النووية، وتقليص جدولها الزمني لتجاوز العتبة النووية، في مواجهة معارضة دولية متشرذمة.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى