تقارير وملفات إضافية

الفشل عنوان سياسة واشنطن الخارجية وبشار وكيم وبوتين أكبر الرابحين

شهد العالم تغيرات جذرية على مدى العقود الثلاثة الماضية، لكن السياسة الخارجية للولايات المتحدة لا يبدو أنها تدرك ذلك التحول ما جعلها تتخذ مواقف وسياسات لا تجدي نفعاً، وأبرز الأمثلة على ذلك هو الملف السوري والكوري وضم روسيا لشبه جزيرة القرم، فما هي القصة؟

مجلة ذا ناشيونال إنتريست الأمريكية نشرت تقريراً حول القصة بعنوان: «ثلاثة أفكار سياسات خارجية مجنونة تنتهجها الولايات المتحدة، ويجب أن تتخلص منها».

ربما تكون السياسة الخارجية وأعمالها مجال عمل لا يضمن تحقيق الرضا، إذ إن أمثل الخيارات تكون دائماً بعيدة المنال كل البعد، وفي مناسبات عديدة تتعلق أفضل النتائج بمنع أسوأها من الحدوث، ولدى العالم طريقة غريبة في أن يجعل أكثر السياسات دراسة وتدقيقاً تبدو حمقاء، وفي أن يحوَّل بعضاً من أكثر المسؤولين الحكوميين خبرةً وتمرساً إلى مجرد هواة.

ومع ذلك، لا يسهّل مجال السياسة الخارجية الأمور على نفسه؛ فالوضع الراهن يخنق العملية السياسية مثلما تفعل الثعابين العاصرة، ويقال دوماً إن تغيير أي شيء في واشنطن دي سي يشبه خلع الضرس: فهو يسبب ألماً لا يطاق، ويسيل معه كثير من الدماء. لذا فإن المسار الأنسب سياسياً أن يبقى الوضع على ما هو عليه، أو بحسب ما يقال في السياق الشعبي: «وجه تعرفه ولا وجه تنكره».

والحقُّ أن السياسة الخارجية الأمريكية تمتلئ بهذه الأنواع من الوجوه، فهي سياسات تبدو مألوفة أو جيدة على الورق، لكنها في الواقع العملي يستحيل ترجمتها إلى نجاح ملموس، ومع ذلك، تبقى هذه السياسات وتستمر في أطوار حياتها الخاصة، وثمة كثير من مثل هذه السياسات التي يصعب إحصاؤها، ولكن إليكم ثلاثة سياسات كبيرة منها استطاعت أن تبقى وتصمد أمام تجارب الزمن.

لا يتفق الديمقراطيون والجمهوريون كثيراً هذه الأيام، لكنهم جميعاً يؤيدون الهدف الرامي إلى إجبار روسيا على إلغاء قرارها بضم شبه جزيرة القرم التي تنتمي إلى أوكرانيا، ولا يمكن الدفاع عن غزو موسكو الخاطف وإعلان ضم القرم في 2014، وهو السبب الذي جعل العقوبات الأمريكية والأوروبية نتيجة حتمية، فكانت مجموعة تدابير العقوبات مصممة لتكون استجابة عقابية على ما وصفه الغرب بأنه «انتهاك للقوانين الدولية».

وبعد خمسة أعوام من بدء سريان العقوبات، صار من الواضح جداً بمرور الوقت أن العقوبات المالية لن تجبر الروس على تسليم شبه الجزيرة المطلة على البحر الأسود إلى الأوكرانيين، ولا يمكن تصور أن يفعل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين هذا الأمر، ويعزا هذا إلى سببين: أولاهما أن بوتين كان الأب الروحي لقرار الضم في الأساس، والثاني أن إعادتها سيشجع الرؤساء الأمريكيين المستقبليين على مضاعفة رهاناتهم من خلال التلويح ببطاقة الضغوط الاقتصادية.

بيد أن السياسة الأمريكية لا تزال كما كانت دائماً: ستبقى العقوبات ما لم تتراجع موسكو عن قرار ضم القرم. لذا فإن العلاقات الأمريكية الروسية تبدو في وضع معلق، إضافة إلى أنها مثقلة بهدف خيالي. وسواء أحببنا الأمر أم كرهناه، صارت القرم الآن جزءاً من الأم روسيا، وستبقى هكذا ما دامت واشنطن وحلفاؤها الأوروبيون لا يتبعون نهجاً ابتكارياً في إطار بحثهم عن حل دبلوماسي.

ظلت سياسة الولايات المتحدة تجاه كوريا الشمالية دون تغيير لعقود من الزمان. وكان مفادها كالتالي: إذا أرادت بيونغيانغ تطبيعاً سياسياً واقتصادياً كاملاً مع الولايات المتحدة وجيرانها، فستكون في حاجة إلى التخلي عن برنامج الأسلحة النووية الخاص بها وإمداد المجتمع الدولي بكامل الشفافية دون إعاقتها. وحتى تأتي مثل هذه اللحظة التي يتخذ خلالها نظام الرئيس كيم ذلك القرار الاستراتيجي، سوف تبقى العقوبات، وبكل تأكيد سوف تبقى مشددة بحسب ما تقتضيه الضرورة.

بدأ ترسيخ هذه السياسة في بدايات التسعينيات، عندما كان البرنامج النووي الكوري الشمالي في مهده، ففي ذلك الوقت، لم يكن لدى بيونغيانغ سلاح نووي واحد في مخازنها، ولكن إذا كان نزع السلاح النووي احتمالاً مجدياً قبل ثلاثة عقود، فإنه يشبه الآن لو أن رجلاً يصعد قمة إيفرست بلا شيء ما عدا ملابسه الداخلية. إذ إن العام 2019 ليس مثل العام 1991؛ فمع مرور كل عام منذ ذلك الحين، حقق نظام كيم تحسينات إضافية على إمكاناته المتعلقة بالتخصيب وإنتاج البلوتونيوم وزاد من قاعدته المعرفية. وفي عام 2006، أجرت بيونيغانغ أول تجربة نووية تحت الأرض، وهي علامة رمزية ترسخ كوريا الشمالية بها أقدامها بوصفها دولة تمتلك سلاحاً نووياً. وبعد إجراء خمس تجارب نووية ومرور 13 عاماً، صار مخزون السلاح النووي لكوريا الشمالية يضم 60 رأساً حربياً على وجه التقريب. ومع ذلك، لا يزال موقف الولايات المتحدة متشبثاً بالماضي، كما لو أن العالم ما زال عالقاً في عهد بائد.

ليس من المنطقي تجميل ما لا يمكن تجميله: فلا شك أن بشار الأسد مجرم حرب، ومرتكب انتهاكات منهجية لحقوق الإنسان، وديكتاتور متآمر كان عازماً على تدمير بلاده من أجل استمرار بقائه في القصر الرئاسي. تشبه سوريا ثقباً أسود يعج بغياب المحاسبة، واللاجئين، والأرواح المفقودة، وبما أطلق عليه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب «الرمال والموت». تتكلف إعادة إعمار سوريا مبلغاً يتراوح بين 250 ملياراً و400 مليار دولار، والأرجح أنه أكبر من هذا. فقد كلفت الحربُ الاقتصادَ 300 مليار دولار بين عامي 2011 و2018. إذ إن مدناً بأكملها صارت تشبع مدينة برلين في أعقاب معركة برلين، وصار نصف سكان سوريا إما نازحين داخلياً أو فارين من البلاد.

لكن الأسد انتصر في الحرب، بالرغم من بشاعته. فمنذ أن تدخلت روسيا بقوتها الجوية في 2015، صار الموقف العسكري جيداً بالنسبة للنظام. وصارت مناطق تمركز السكان في سوريا، وموانئها، ومطاراتها، وغالبية طرقها السريعة تحت سيطرة دمشق. أما المعارضة المسلحة، التي كان يفصلها أميال عن مقر الأسد في العاصمة السورية، فصار وجودها مقصوراً على إدلب المحاصرة بين شقي الرحا: إذ تحاصرها من السماء الطائرات الروسية والسورية، ويحاصرها على الأرض الجهاديون المرتبطون بتنظيم القاعدة. وللمرة الأولى منذ عام 2012، صار للقوات الحكومية السورية وجوداً في المناطق الكردية الموجودة في شمال شرقي سوريا.  وبينما يحاول النظام ومبعوثو المعارضة الاتفاق حول دستور جديد، لم يعد أمام الأسد سبب يجبره على السعي من أجل التوصل إلى تسوية سياسية، فالاستقالة خيار غير مطروح على طاولة المفاوضات.

ومع ذلك، لا تزال سياسة واشنطن في سوريا موجهة نحو تغيير النظام في دمشق، وترتبط المساعدة الأمريكية في إعادة الإعمار ارتباطاً مباشراً باعتزام الأسد إجراء إصلاح سياسي. وقد أُعيد توجيه القوات الأمريكية إلى دير الزور من أجل ضمان استمرار عدم سيطرة النظام على حقول النفط السورية، إذ تقول النظرية إن الأسد سيصبح في نهاية المطاف في حاجة ماسة إلى هذه الموارد لدرجة أنه إما سيتعاون في أي عملية انتقالية سياسية أو أنه سيترك المشهد من أجل ضمان تقاعد سعيد، ولا تزال واشنطن متشبثة بإمكانية انبعاث ديمقراطية برلمانية سورية من تحت الرماد. لكن ما يبدو أمامنا يشير إلى أن الواقع سيتوجب عليه الانتظار ليوم آخر.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى