آخر الأخباركتاب وادباء

القبائل البدوية غرب اسكندرية “الحلقة الأولى”حبل الغسيل

من ذاكرة اسكندرية

سلسة مقالات الأسكندرية من روائع الأديب الكاتب

المهندس/ محمود صقر

في الأربع سنوات التي سكنتها في منطقة العجمي من بداية عام 1990 لنهاية 1993، والتي سبقت الانفجار المرعب فيما بعد، توثقت العلاقة بيني وبين جيراني من القبائل البدوية وكان منهم عم “سيد” من أهل البدو الساكنين في المنطقة منذ القِدَم، وهو كبير العائلة التي تسكن الفيلا الملاصقة لمسكني الجديد، وبلكونة شقتي تطل عليها مباشرة، توثقت المعرفة بيني وبينه مع الالتقاء اليومي بيننا في مسجد أسفل أحد العمارات الجديدة.

تعرفت عن قرب على مجتمع عرب البادية، مجتمع له تقاليده ونمط عيشه وفنونه التي تختلف كليا عن أهل المدينة، عايشتهم عن قرب ولمست فيهم الصفات العربية الأصيلة، فهم أهل كرم ونخوة وشجاعة، ويرعون الجوار، ويتكافلون فيما بينهم، ويحلون مشكلاتهم أيضا فيما بينهم.

والانتماء القبلي قد يُنظَر له على أنه خروج عن قواعد الدولة الحديثة ذات السلطة المركزية، ولكن له بُعد آخر في الشعور الجماعي لدى أفراد القبيلة بمسئوليتهم عن سمعة قبيلتهم، وما يولده ذلك من انضباط سلوكي من أفراد القبيلة، وضبط سلوكي من زعمائها لعموم أفرادها.
وبالطبع هذا لا يمنع من شذوذ البعض عن السلوك العام، شأنهم شأن أي تجمع بشري.

منذ السبعينات تغيرت أوضاع البدو في غرب اسكندرية بصدور قانون توفيق أوضاعهم من واضعي يد على الأرض التي يسكنون فيها أو التي يزرعونها إلى مالكين لها، وبدأ كثير منهم يزداد ثراء سواء ببيع الأراضي، أو العمل بالسمسرة.

كان عم “سيد” ممن اكتفى بالعيش وفق نمطه القديم، متزوج من أكثر من زوجة ويسكنون جميعا في بيت عربي فسيح، البيت عبارة عن مباني متفرقة من دور واحد يحيط بها سور وحولها ساحات واسعة تتكاثر فيها أشجار التين والزيتون والجوافة والليمون ونخيل البلح وبعض الخضروات ويربون فيها الماعز والطيور بمختلف أنواعها.

لا أدري إن كانت هذه المباني المتفرقة مخصصة لسكن مستقل لكل زوجة أم لا، ولكن حياتهم اليومية بكافة أنشطتها بما فيها الأكل ولعب الأولاد والأعمال المنزلية كلها تتم في الساحة، والنساء حتى وهن في هذه الساحة يكونون بكامل لباسهن الذي يغطيهن من الرأس وحتى القدم، وكانت معظم العائلات البدوية يتوقفون في تعليم البنات عند المرحلة الابتدائية، ودون أي اهتمام باستكمال الذكور لمراحل تعليمهم، سوى من يجتهد منهم في ذلك اجتهادا شخصيا.

كان عم “سيد” في أحاديثه معي يبدي استشعاره للخطر الداهم الزاحف عليهم بتزايد عدد السكان القادمين من المدينة، والذي سيؤثر على عاداتهم وتقاليدهم، فبينما كنت أسير بجواره متجهين من المسجد إلى حيث يسكن كل منا، نظر إلى أعلى وأشار إلى أحد بلكونات العمارة التي أسكنها والتي تطل على فيلته، وقال لي: انظر إلى هذه البلكونة.

فنظرت لها فوجدت ملابس منشورة على حبل الغسيل في منظر مألوف بالنسبة لي ولم أتوقع أنه المنظر المقصود بلفت نظري.
ولكنه أردف قائلا:
شايف هذا الغسيل المنشور، هذا الغسيل أفسد علينا نساءنا.!
اندهشت من كلامه، وطلبت منه تفسيرا لما يقول.
دخل في تفاصيل الغسيل المنشور من قمصان نوم نسائية وحمالات صدر، وما شابه من ملابس داخلية نسائية، وقال لي: (نسواننا الحين بيطلبوا يشتروا الملابس المسخرة دي من السوق بدل من حياكة ملابسهن بأنفسهن.)

وقتها حاولت أن أكتم الضحك، ولكن حين أسترجِعُ كلامه اليوم أجده أبعدُ مني نظرا، وأدقُ ملاحظة، وأكثرُ استشرافا لمستقبل تغيرت فيه عاداتهم وطريقة عيشهم، والتي حاول البعض منهم حفاظا عليها بالهجرة المستمرة من الزحف العمراني الذي ظل يلاحقهم حيثما انتقلوا.
ومازال للحديث عن عرب البادية بقية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى