الأرشيف

القطار رقم832

القطار رقم832

سلطان إبراهيم

 بقلم الكاتب الروائى الشاعر

             سلطان إبراهيم عبد الرحيم             

كانت الساعة تقترب من الواحدة ليلا حين كان محمود  يسرع بكل قوته ليدرك القطار رقم832 وهو يتحرك لمغادرة رصيف محطة رمسيس تشبث بالباب كاد أن يسقط لولا أن أمتدت إليه الأيدي . حشر جسده بصعوبة بالغة بين الأجساد وهو يغض الطرف عن كلمات اللوم والتأفف وملامح الإشمئزاز والإمتعاض البادية على وجوه من يحشر نفسه بينهم . لم يلم أحدا فهو ممتعض داخل نفسه من نفسه. ولولا دخول عيد الأضحى ورغبة أمه المريضة التي ألحت عليه في العودة ليقضي هذا العيد  معها ووسط أهله وأولاده ولا سيما أنه لم يقض عيد الفطر معهم لما سافر في مثل هذا القطار .  حاول  أن يجد مكانا له وبمشقة بالغة وقف على أطراف اصابعه  مستندا بجزء من جسمه على الكرسي المجاور  للباب وما كاد يستقر حتى دفعه بائع المثلجات وارتطم الدلو الذي يحمله البائع و الممتلأ بالماء والزجاجات برأس  محمود سقط الماء على ملابسه وقبل ان يتكلم فوجىء بلسعة في ذراعه من لمسة براد الشاي الذي يحمله بائع الشاي وهكذا ظل محمود   في مكانه تتجاذبه الأيدي وتركله الأرجل وبين لحظة وأخري تتزايد معاناته . فكر في النزول في محطة الجيزة للهروب من هذا الزحام  فعلى الرغم من أن المسافة بين  محطتي رمسيس والجيزة ليست بالبعيدة إلا  أنه أحس وكأنها طول  الدهر.وما إن اقترب القطار من محطة الجيزة حتى وجد من على الباب  يتعاونون فيما بينهم ويستحثون بعضهم على غلق الباب والنوافذ حتى لا يستطيع أحدا الدخول .لم يدر هل يلومهم أم يشكرهم  ولم يستطع أن يبوح لهم برغبته في النزول . وحين وصل القطار إلى رصيف محطة  الجيزة فوجىء بالأعداد الهائلة التى تنتظر القطار . فالكل يرؤيد أن يدرك العيد والقطارات  كلها مزدحمة ولا وسيلة للغلابة غيرها . حمد الله أنه أدرك مكانا  بين أكوام اللحم المتراكم فوق بعضه وكلها ساعات وتنتهى المأساة ويلتقي بالأحبة بعد طول غياب. وما زال غيره  يتنظر على المحطة . ويصارع للحصول على مكان  فهذا يستجدي الواقفين على الأبواب أن يفتحوا له وثان  يتشاجر معهم وثالث  يسبههم  وآخر قد يئس فأسرع يحاول الركوب من باب آخر . مرت اللحظات وانطلق القطار وبدأ من هم على الباب يجاهدون مرة أخرى لينظموا فتح الباب  فرغم أن الساعة قد اقتربت من  الثانية  ليلا إلا أن الأعداد الكبيرة كانت تطلب فتح الباب لتجديد الأنفاس .لم يكن يعلم أن من استطاع الركوب في محطة الجيزة سيؤثر على العربة التي يركبها إلا حينما انفتح باب العربة المجاورة وفوجئ بسيل من البشر يضغطون على العربة حتى كاد أن ينسحق تحت الأقدام .ارتفعت الأصوات مرةأخرى في الظلام  بالسب والشتم  وبوصف البعض بالعمى والآخر بقلة الذوق  بينماأصوات أخرى تهدىء الغاضبين موصية بالصبر  والتحمل وقد خفتت الأصوات مرة أخرى على صوت شجي لشاب يشدو بموال حزين :

قالوا الصبر وصبرنا وبعد الصبر فيه ايه تاني                               حرام يا ناس بعد الصبر نعيد الصبر من تاني                                          يا تاجر الصبر ايه اقوى من الصبر ورينى
صابر على وحدتى والفكر مالينى
بتعدى عليا الليالى ودموعى على خدى بتكوينى 

 وكأن الموال قد لامس شجونهم فتجاوبوا معه. وقد أحس الشاب القابع فوق الرؤوس في مكان الأمتعة بتجاوب الناس مع صوته الشجي الحزين فبدأ كانه يُسلي نفسه ومن حوله فانطلق يغردبصوته الصعيدي الشجي :
يا وابور الساعة تنعشر يا مسافر ع الصعيد

خد مني سلام وتحيه ورح للأهل فيوم العيد
قلهم جاي و واصل مش ناسي جميلكم  واصل
راح افوت الغربه واجيلكم مش افوتكم تاني واصل

تجاوبت العربة رغم الزحام على أصداء النغم الشجي الملامس لشجونهم جميعا وبدأ الجميع يردد خلف الشاب مرت محطة العياط  والشاب ينتقل من موال لآخر يستزيده الركاب وكأنهم وجدو سلى لهم يخفف عنهم عبء ماهم فيه أخذ القطار ينهب الأرض وقد اقترب من قرية ميت القائد   وفجأة  يُسمع صوت انفجار مدوي       و يصيح جمع من الركاب  في صوت واحد: حريق حريق

وفي ثوان معدودة يشاهد محمود النار  ..الجحيم …الهول في جزء من الثانية تختزل ذاكرته مشهد النار وهي تلتهم الأجساد والأمتعة والأحلام ويشاهد الشاب الذي كان يشجى الجموع وهو يقذف بنفسه من النافذة وهو يحترق.الكل يحاول الهروب من الموت الى الموت  تحت عجلات القطار أو غرقا في ترعة الإبراهيمية . وجد محمود نفسه وسط موجة من البشر تقفذ من الباب .وهو يردد : أشهد أن لا إله الا الله وأن محمدا رسول الله

                                   2

             فتح عينه ليجد نفسه وهو نائم على سرير أبيض ويلف جسده  الشاش والقطن الأبيض وأمام عينيه تتراقص صورة لفتاتين تلبسان الثياب البيض. طاف بذهنه خاطر أنه قد دخل الى الجنة فها هو بعدما رأى النار رأي العين يرى بياضا في بياض ويتوهم أن الفتاتين الواقفتين بالقرب من سريره  اثنتين من الحور العين  . حاول لمس إحداهن فلم يستطع .سمعها تنادي :الحق يا دكتور إنه ما زال حيا .  نعم  ما زال حيا 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى