الأرشيفكتاب وادباء

اللبلابيون حين يتسلقون الأسوار…!

من روائع الأديب الكاتب 
السعيد الخميسي
* اللبلابيون نسبة إلى نبات ” اللبلاب ” المتسلق فوق الجدران والأسوار والأشجار لكي ينمو ويتكاثر ويزدهر ويتصدر واجهات المباني والعمارات . نبات ” اللبلاب ” لايمكن أن يرتفع إلا على عريش من الخشب أو تثبيته على الجدران بخيوط رفيعة حتى يعلو ويكبر . كذلك بعض المتسلقين من البشر لايمكن لهم أن يرتفعوا أو يكبروا إلا على أكتاف الآخرين وجهدهم . هذا النوع من البشر لا ينمو إلا  متكئا على قامات الآخرين لتحقيق غاياتهم وأهدافهم . هؤلاء المتسلقون ضعاف الشخصية والبنية الأساسية غير أنهم يجيدون الزحف نحو القمة بمساعدة قوم آخرين . كذلك نبات اللبلاب المتسلق لا يمكن أن يرتفع للسماء ليستنشق نسمات الهواء إلا بالتوائه على فروع الأشجار وجدران الأسوار . كذلك المتسلقون لا يرتفعون إلا بسياسة الإلتواء والإلتفاف والدوران حتى يحققوا بغيتهم فى الوصول زحفا إلى الأعتاب لكى يقبلوها ويعلنوها صراحة أنهم من أصحاب ” الحضرة ” ضمانا للولاء ولا يهم فى ذلك أحسن من أحسن وأساء من أساء . هؤلاء أخطر على المجتمع من أعداء الخارج لأنهم كالحرباء متلونون ومتحولون ومتحركون مثل كثبان الرمال تتحرك مع اتجاه الريح وليست ثابتة كالجبال . إنهم اللبلابيون حين يتسلقون أعالى الأسوار لتصدر الواجهات وقطف بل وخطف الثمرات .
* لقد أبتلى الوطن بصفة عامة والمجتمع بصفة خاصة بمثل هؤلاء المتسلقين الوصوليين الذين لايهمهم غير مصالحهم الشخصية . لا يشغلهم على أي أكتاف يرتفعون , أوعلى أي أسوار يتسلقون , وأى أجندة يتبنون , وأى وجهة يتجهون . الفرد اللبلابي المتسلق
الوصولي يفعل أي شيء ليصل إلى ما يريد ،  ولو على حساب دينه ووطنه ومبادئه إن كان له مبدأ أو موقف من الأصل . دائما هذا النوع من البشر لا يدع فرصة إلا ويستغلها لصالحه . ينافق ويراوغ  ويكذب ويتجمل ويغير لغة لسانه وملامح وجهه فى الصباح والمساء حسب مقتضى الحال . هو ثورى إن كان هناك ثورة , بل يعلن أنه لولا عبقريته وحركته ما قامت الثورة , وأنه هو مفجرها ومنشأها وبادئها , وأن الآخرين ركبوها وسرقوها . ثم هو فى نفس اللحظة شخص هادئ متزن يدعو إلى الاستقرار والأمن والأمان بل وتكفير الثورات إن حدثت متغيرات وانتكست الثورة وهزمت وتراجعت . فهو مع هؤلاء ومع هؤلاء , يعلم من أين تأكل الكتف . شاهدنا بأعيننا وسمعنا بآذاننا عن مثل هؤلاء القوم . منهم صحفيون وكتاب معرفون , ومنهم خبراء ومفكرون ومحللون وسياسيون  . لايستطيعون الثبات على مواقفهم ومبادئهم والدفاع عنها فضلا عن محاولة إقناع الآخرين بها . بل على العكس تماما يتحولون تحول الليل والنهار ويهتكون كل الأسرار ويتسلقون فوق  كل الأسوار , أي أسوار تضمن لهم البقاء والنمو والارتفاع .

* هؤلاء المتسلقون من البشر يشبهون القرود التى تحاول أن تقفز من غصن شجرة إلى أخرى . تأكل من كل شجرة حتى إذا جردت الشجرة من أوراقها وثمرها وجعلتها جرداء جدباء كالوتد بالت عليها , ثم انتقلت إلى شجرة أخرى تفعل بها كما فعلت بالأولى . هؤلاء المتسلقون مثل القرود تماما إن تشاجروا أهلكوا الزرع , وإن تصالحوا أكلوا المحصول . هم ينتقلون من نظام إلى نظام , ومن حزب إلى حزب , ومن جماعة إلى جماعة , ومن هيئة إلى هيئة , ولديهم قدرات فائقة على المداهنة والمراوغة وتضليل الرأي العام ولى عنق الحقيقة حتى يطوعوها حسب رغبتهم . إن تحدثت عن الأخلاق فهم الذين للناس علموها  ,وإن تحدثت عن السياسة فهم الذين رسموها, وإن تحدثت عن الوطنية فهم الذين أوجدوها , وإن تحدثت عن الثورات فهم الذين أشعلوها , وإن تحدث عن الدولة فهم الذين حفظوها وبنوها . المتسلقون كالشعراء تراهم فى كل واد يهيمون , ويقولون مالا يفعلون وما لا يفهمون , إنهم كذابون كابرا عن كابر وأبا عن جد . هم  لا يستطيعون العيش في الحياة إلا متسلقين على أكتاف الآخرين , يحصدون ما يزرعه الآخرون ، ويجنون ثمار ما تعب فيه الناس وبذلوا في سبيله كل غال ورخيص . إنهم كالنباتات المتسلقة لا تستطيع أن تشق طريقها إلى السماء إلا اعتمادا على غيرها  . فتلك النباتات المتسلقة ترتفع مع الأشجار العالية والنخيل الباسقة والأسوار الشاهقة ، إنهم رجال كل نظام وحواري أي حكومة والناطق الرسمي لأى سلطان فى أى زمان ومكان .
* لا ينسى التاريخ ذلك المتسلق المشهور الذي كان يدعى ” أبو دلامة الأسدى” العبد الحبشي ويروى انه كان مولا لبنى أسد . وقد شهد الرجل ردحا من عصر الدولة الأموية التي لم يكن له فيها نباهة ذكر , حيث لم يكن للموالي مكانة عند الأمويين، فلما جاءت الدولة العباسية انضم إليها وصار من رجال  “المنصور”، ويبدو أن صيته بدأ في الانتشار بالتزامن مع صعود أبي جعفر المنصور الخليفة العباسي الثاني الذي اتخذه من ضمن حاشيته فعلا شأن ” أبو دلامة ” لفصاحته وبلاغته وتسلقه . وأصبح الرجل بين عشية وضحاها ممن يشار إليهم بالبنان حتى سمى  “بهلوان”  الخليفة .
قال له الخليفة ذات يوم سلني حاجتك  . فقال له أبو دلامة “أريد كلب صيد” فقال الخليفة أعطوه إياه، فقال أبو دلامة وأريد دابة أتصيد عليها، فقال الخليفة أعطوه إياها، فقال أبو دلامة وغلاماً يقود الكلب ويصيد به، فقال الخليفة أعطوه غلاماً، قال وجارية تصلح الصيد وتطعمنا منه، فأمر الخليفة له بجارية. فقال أبو دلامة هؤلاء يا أمير المؤمنين عبيدك، فلا بد لهم من دار يسكنونها . فقال الخليفة أعطوه دارا تجمعهم، فقال أبو دلامة وإن لم يكن لهم ضيعة فمن أين يعيشون، فقال الخليفة قد أقطعتك عشر ضياع عامرة .وهكذا استغل أبو دلامة الموقف لصالحه أفضل استغلال حتى سمى بقناص الفرص . وهكذا استطاع أبو دلامة أن ينتزع من الخليفة مايريد بحلو لسانه وتزلفه له , وهكذا المتسلقون حين يطوعون أى نظام لمصالحهم الشخصية وليس لمصلحة الوطن .
*  أما قمة التسلق والنفاق فكان الحوار الذى حدث بين الأمير بشير الشهابى وطباخه .فيروى أن الأمير بشير الشهابي كان لديه طباخ ماهر
 ووصولى ومتسلق  اسمه  “سرور” و في يوم من الأيام قدم له طبقا من الباذنجان المتبل فأعجبه جدا و قال له : ما أطيب هذا الباذنجان  . فقال له الطباخ سرور : إن الباذنجان يا سيدي هو أفضل المآكل و ارفعها قدرا ، فان أكلته متبلا بقي طعمه تحت لسانك و إن أكلته مقلياً أكلت أصابعك معه ،و إن أكلته مكبوساً فهو أشهى المكابيس و إن أكلته محشياً فهو شيخ المحاشي . فانفتحت شهية الأمير و التهم الطبق كله و عند المساء استدعى سرور و قال متألماً ما هذا الباذنجان المنحوس فأنا اشعر بانتفاخ في بطني و ألم في رأسي . فقال سرور : الباذنجان يا سيدي طعام رديء ،فإن أكلته متبلا تسبب بانتفاخ بطنك و ان أكلته مقليا تسبب لك في تضخم المصران و ان أكلته مكبوساً  سبب لك غشيانا في النظر و إن أكلته محشوا سبب لك أحلاما مزعجة . فقال له الأمير صائحاً : ويحك  أيها المرائي منذ ساعة جعلت الباذنجان أفضل المآكل و الآن تذمه و تجعله سبب كل العلل  ؟ فأجاب سرور : العفو سيادتكم فأنا عبد سعادتكم لا عبد سعادة الباذنجان و لذلك فأنا أتكلم بما يلائمكم ، لا بما يلائم مصلحة الباذنجان ! أرأيتم تسلقا ونفاقا اكبر من هذا ؟ . إنهم السادة الباذنجيون !
*  إن وجه الشبه بين نبات اللبلاب والمتسلقين من البشر تبدو جليا فى أنهم لا  يستطيعون الظهور والارتفاع إلا بمساندة الآخرين . فنبات اللبلاب يحتاج إلى من يسنده ويدعمه ويرعاه حتى يكبر ثم يتطاول على الجدران والأسوار التى حملته ضعيفا هزيلا حتى كبر وارتفع . كذلك المتسلقون لا يخجلون أنهم كانوا قى يوم ما نكرة أقزاما لا يعرفهم أي إنسان ولا يشار إليهم بالبنان . لا يرحمون عزيز قوم ذل , ولا يعترفون بعلاقات قديمة ولا بصداقات حميمة , هم أبناء اللحظة الى تسلقوا وارتفعوا فيها  . هم ينظرون للآخرين من عل ويرون ما دونهم صغارا , كالدخان يعلو بنفسه لطبقات الجو وهو وضيع ولكنه لايعرف وضاعته وخسته ودناءته وحقارته . لكن هؤلاء الأقزام الذين تسلقوا على أكتاف الآخرين ورضعوا من ثدى النفاق ونبتت لحوم أجسادهم من الحرام , سرعان ما ينكشفون ويتعرون وتسقط عنهم ورقة التوت التى سترت عورتهم ردحا من الزمن . ساعتها يسقطون ولاسيما عندما يزبل الزرع ويجف الضرع ويطردهم أسيادهم من بلاط الخدمة ليبحثوا لهم عن أسوار قوم آخرين يتسلقوها . ألم أقل لكم إنهم كالقردة ينتقلون من غضن إلى غضن , ومن فرع إلى فرع , ومن شجرة إلى شجرة . إنهم ساء ما كانوا يعملون . يجب الحذر منهم وفضحهم وكشفهم على رؤوس الأشهاد حماية للبلاد والعباد .
والله من وراء القصد والنية .

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى