آخر الأخباركتاب وادباء

النظر بزاوية منفرجة

بقلم الأديب الكاتب

مهندس / محمود صقر

08/10/2020
بعد انتهائي من قراءة مذكرات “هدى شعراوي” انتابتني نفس الدهشة التي شعرت بها بعد انتهائي من قراءة “كتاب تحرير المرأة” لقاسم أمين.
دهشة من زاوية النظر الحادة التي اعتادت بيئتنا الثقافية والاجتماعية على الوقوع في أسرها، زاوية حادة تخفي من الصورة أكثر مما تكشف، وتكشف من الصورة ما يوافق هوى الناظر ويساير عاطفته حبًّا أو كرهًا، دون مراعاة للموضوعية والإنصاف.
زاوية العلمانيين ترفع “قاسم أمين” و”هدى شعراوي” إلى أعلى سلم رواد تحرير المرأة ومناصرة حقوقها، وزاوية الإسلاميين تضعهما كليهما تحت مقصلة اقتران دعوتهما بالسفور، والذي يوجهون معناه نحو انحلال المرأة وتفسخ الأسرة وتغريب المجتمع.. كلا الفريقين نظر من الزاوية الحادة المعتادة، كل بحسب هواه يظهر من الصورة ما يحب ويخفي مالا يحب.
نادى “قاسم أمين” بالسفور عام 1899 وطبقته “هدى شعراوي” بعد عشرين عاما، كان “قاسم” واضحا جدا في كتابه “تحرير المرأة” من أن دعوته للسفور لا تعني مطلقا خلع المرأة لحجابها وقال في كتابه نصاً: “ربما يتوهم ناظر أنني أرى الآن رفع الحجاب بالمرة، لكن الحقيقة غير ذلك، فإنني لا أزال أدافع عن الحجاب وأعتبره أصلا من أصول الأدب التي يلزم التمسك بها، غير أني أطلب أن يكون منطبقا على ما جاء في الشريعة الإسلامية”.
ولا يمكننا الآن فهم الدعوة للسفور إلا بوضعها في إطار ملابساتها التاريخية في بداية القرن العشرين؛ ففي هذا الوقت كانت المرأة حبيسة البيت ومحرومة من التعليم ومن حقها في المشاركة المجتمعية، وكان مفروضا عليها تغطية وجهها حال خروجها من المنزل، ومن هنا كانت الدعوة بالسفور (بمعنى الظهور) تعني حق المرأة في أن تكون جزءا فاعلا ومشاركا في المجتمع، وهو الذي بدا جليا في مشاركة المرأة فيما بعد في ثورة الشعب المصري عام 1919 ضد المحتل الإنجليزي، والذي شاركت هدى شعراوي في مقدمة صفوف النساء.
هدى شعراوي هي الأخرى لم تكن دعوتها لتحرير المرأة من قيودها الاجتماعية دعوة للتمرد على قواعد الشرع وهي التي قالت نصا في مذكراتها:
“إن أهم ما يشغلنا اليوم في الوصول بالمرأة إلى المركز اللائق بها ليس هو السعي لتغيير القوانين أو قلب الشريعة؛ فلله الحمد لم نجد في هذه ولا تلك من الأحكام ما يحملنا على التذمر والشكوى. بل كل ما نسعى إليه هو حسن تطبيق هذه القوانين بما يطابق غرض الشارع وحكمه وكل المطالب التي طالبنا بها الحكومة ترجع إلى تحقيق هذا الغرض لتحسين حال العائلة وهنائها”.


وحين دعا الكاتب سلامة موسى إلى مساواة المرأة بالرجل في الإرث، تصدت “هدى شعراوي” لدعوته وردت عليه في الصحف معلنة رأيها: “أنا لست من الموافقين على مساواة المرأة بالرجل في الإرث، ولا أظن أن النهضة النسوية في هذه البلاد لتأثرها بالحركة النسوية بأوروبا يجب أن تتبعها في كل مظهر من مظاهرها، وذلك لأن لكل بلد تشريعه وتقاليده وليس كل ما يصلح في بعضها يصلح في البعض الآخر”.
وكان للاتحاد النسائي الذي ترأسته دور وطني بارز في مقاومة الاحتلال، وقادت من خلاله حملة مقاطعة للإنجليز وبضائعهم، وكان لها تأثير بارز في بعث الروح الوطنية المناهضة للاحتلال.
والمتأمل في الدور الاجتماعي الذي قامت به لا يجد فارقا واضحا بين مطالباتها الاجتماعية في العشرينيات وبين مطالبات الإخوان المسلمين في الثلاثينيات والأربعينيات؛ حيث تمثلت دعوة “هدى شعراوي” ولجنتها النسائية في عدة نقاط:
(نشر التعليم الابتدائي في جميع أنحاء القطر بصفة إلزامية – إدخال التعليم الديني والخلقي في عموم المدارس – إنشاء الجامعة المصرية – تشجيع الصناعة الوطنية – محاربة المخدرات والمسكرات وإغلاق دور البغاء صيانة للأخلاق وحفظا للنسل – محاربة البدع والخرافات والضرب على أيدي الدجالين …)، وتمايزت عن الحركة الإسلامية في المطالبة بتقييد الطلاق وتقييد تعدد الزوجات.
خلاصة الأمر أن دعوة “قاسم أمين” و”هدى شعراوي” لتحرير المرأة، كانت دعوة لتحريرها من قيودها الاجتماعية وليس من القيود الشرعية، ولو نظرنا بإنصاف لوجدنا أن كلا الفريقين من علمانيين وإسلاميين أخفوا هذا المعلم الرئيس في قضية تحرير المرأة، وأظهروا ما يروق لهم.
نعود ونقول: إن بيئتنا الثقافية تحتاج لإعادة النظر في تاريخنا وتراثنا بزاوية منفرجة تتسع فيها الرؤية وتزداد فيها مساحة المشترك الذي يجمع عقلاء الأمة ومثقفيها، بدلا من تلك المعارك الوهمية المصطنعة التي تسوق خلفها جمهورا عريضا لا يقرأ ويكتفي ببناء رأيه على قراءة غيره.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى