تقارير وملفات إضافية

انتزع صلاحيات أمن الدولة.. كيف حول السيسي مهمة المخابرات العامة من حماية الأمن القومي إلى التجسس على الشعب؟

كيف تحول جهاز المخابرات العامة المصري من جهاز أمني يراقب شبكات التجسس الخارجي ويكشفها، إلى جهاز للتجسس على المصريين؟ وأين دور جهاز الأمن الوطني في السياسة الداخلية؟

فقد كشفت إحدى كبرى شركات الأمن السيبراني بالعالم عن هجمات إلكترونية تشنها الحكومة المصرية، وتستهدف بها المعارضين للنظام الحاكم في مصر، تبين أنها تنطلق من مقر المخابرات العامة، لتؤكد مخاوف المعارضين المصريين من تحوُّل هذا الجهاز من مؤسسة معنيَّة بالأمن القومي في مواجهة التهديدات الخارجية إلى آلة لتصفية المعارضة الداخلية.

إذ تحدثت شركة «تشيك بوينت سوفتوير» الأمريكية المتخصصة بالأمن السيبراني عن تسبب الهجمات في اعتقال عديد من المعارضين، لم يكن هذا الكشف سوى خيط رفيع ضمن حبل سميك ملفوف حول رقاب كل المصريين، وليس فقط المعارضة.

تجلى دور المخابرات المصرية العامة مؤخراً في التجسس على المصريين مع صعود محمود السيسي، نجل الرئيس المصري، إلى قمة الهرم القيادي داخل هذا الجهاز عقب سلسلة من الإجراءات يمتد تاريخها إلى عام 2011، حينما كان السيسي الأب مديراً للمخابرات الحربية.

فبعد انهيار الشرطة المصرية عشية 28 يناير/كانون الثاني 2011، انتهى وجود وزارة الداخلية المصرية فعلياً على الأرض، في ذلك الوقت كان جيش من أفراد «التحريات العسكرية» التابعين للسيسي الأب، مدير المخابرات العسكرية آنذاك، يتغلغل في ميادين مصر كلها، لدراسة واقع الثورة والثوار.

وخلال الأيام الثمانية عشر قبل تنحي مبارك، برز الخلاف الحاد بين الجيش متمثلاً في جهاز المخابرات الحربية،  والمخابرات العامة، وأمن الدولة (الأمن الوطني حالياً التابع للداخلية)، حول كيفية إدارة الأزمة، ولكن خرج أمن الدولة من المشهد عقب اقتحام الثوار مقراته وتسليم ملفاته إلى ضباط الجيش آنذاك، وبالطبع وقعت في يد السيسي.

وتمت تنحية عمر سليمان، نائب رئيس الجمهورية ورئيس جهاز المخابرات العامة، عن المشهد عقب الخطاب الذي ألقاه وأعلن فيه تنحي مبارك.

وسرت شائعات كثيرة عن محاولة اغتياله، لأنه بحسب مصادر أمنية خاصة تحدثت لـ «عربي بوست»، كان يمتلك تسجيلات مهمة لكبار قادة المجلس العسكري، ومن ضمنهم الرئيس الحالي لمصر عبدالفتاح السيسي.

وعقب تولي السيسي رئاسة الدولة بعد عزل الرئيس المنتخب محمد مرسي في 3  يوليو/تموز 2013، بدأت عملية إضعاف جهاز المخابرات العامة، وسحب جميع الملفات السياسية من بين يديه.

وتحول جهاز المخابرات العامة المصري إلى جهاز خاص لحماية السيسي وعائلته وتثبيت أقدامه في الحكم، وانتهى دوره في حماية الأمن القومي المصري وكشف شبكات التجسس لصالح العدو الاستراتيجي لمصر، وهو إسرائيل، حسبما قالت مصادر لـ «عربي بوست».

قبل هذا التحول جرت بالنهر مياه كثيرة، تمثلت في تنفيذ مخطط لإعادة هيكلة الجهاز بعد تفكيكه عقب تعيين اللواء عباس كامل، مدير مكتب السيسي، مديراً للجهاز وتصعيد  نجل السيسي الأكبر ليصبح نائباً لرئيس الجهاز، في غضون 4 سنوات.

امتلك السيسي الملفات الكاملة الخاصة بإدارة البلاد بعد تنحي مبارك، وإزاحة عمر سليمان من المشهد بمساعدة ودعم المشير محمد حسين طنطاوي وزير الدفاع ورئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة آنذاك.

كان السيسي يخطط منذ هذا التاريخ لإحكام قبضته على جهاز المخابرات العامة لإضعافه، بحسب ما قاله مصدر وثيق الصلة بتلك الأجهزة تحدث لـ «عربي بوست».

وأضاف المصدر أن «الأمن الوطني (أمن الدولة) كان سيد الأجهزة قبل عدة سنوات من تنحي مبارك، في أثناء تولي اللواء حبيب العادلي وزارة الداخلية، والذي اعترف بأن الجهاز كان يتجسس على المعارضين، في تحقيقات النيابة معه في أثناء محاكمته.

وبعد انهيار الداخلية ونزول الجيش إلى ساحات الميادين، خلال ثورة يناير/كانون الثاني 2011، أصبح عبدالفتاح السيسي الذي كان رئيساً للمخابرات العسكرية، هو اللاعب الرئيس بين جميع أجهزة الدولة، والمحرك لغالبية أعضاء المجلس العسكري بناء على معلومات جهاز المخابرات العسكرية والاستطلاع الذي كان يرأسه».

وبحسب المصدر، فإن «عملية الاختراقات للمعارضين والتجسس على هواتفهم ليست وليدة اليوم، ولكنها تتم منذ عام 2011، وتم نشر عديد من التسجيلات لشباب الثورة المسجون معظمهم حالياً مثل زياد العليمي، هيثم محمدين، وعلاء عبدالفتاح، وشادي الغزالي حرب».

المفاجأة أن من يحرّك المخابرات العامة الآن هو جهاز المخابرات العسكرية، رغم  سيطرة محمود السيسي وعباس كامل على مفاصل جهاز المخابرات العامة، حسب المصدر.

وهذا ما أقلق قيادات المخابرات العامة، وتحديداً رجال عمر سليمان، فتم التخلص منهم، وزرع السيسي نواة للصراع الداخلي في المخابرات العامة بين الجديد والقديم، وهو ما شكَّل مصدر تهديد للأمن القومي المصري، وترتب عليه إهمال قضايا تهدد الأمن المصري.

وقبل الثورة كانت المخابرات العامة وجهاز أمن الدولة (الأمن الوطني حالياً) هما من يقدمان المعلومات ويصدران تقارير رصد الحالة وتقدير الموقف، وكان هذان الجهازان يطرحان رؤية سياسية على الرئيس بناء على تلك المعلومات، ومن هنا كانا يستمدان قوتهما.

ولكن كما قال المصدر: «مع وجود الرئيس السيسي بخلفيته العسكرية وطبيعة عمله في جهاز الاستطلاع، انتقل مركز المتابعة والرصد من المخابرات العامة والأمن الوطني إلى المخابرات العسكرية، وأصبح جهاز المخابرات العامة مجرد واجهة لا قيمة لها، خاصة بعد إزاحة 119 قيادة منه».

وكما يوضح المصدر، فإن «المخابرات العسكرية ليس لديها رؤية المخابرات العامة أو الأمن الوطني نفسها، لذا تلاحظ حملة القمع والاعتقالات السائدة بين المعارضين، فطبيعة القائد العسكري لا تعرف التفاوض، وتتعامل بعنف مع من يخالفها» .

وأكد المصدر أن «دور المخابرات العامة مثلاً كان تقديم النصح للقيادة السياسية، ولكن الآن أصبح هذا دور جهاز المخابرات العسكرية، وفي الوقت ذاته أصبحت المخابرات تقوم بمهمة انتهاك الخصوصية في صفوف المعارضة وليس فقط مراقبة الهواتف، وهذه طبيعة النظم الشمولية».

وخلال السنوات الأربع الماضية، كانت المخابرات العسكرية تعمل عبر واجهة المخابرات العامة بجهد حثيث على شقين:  الأول يتعلق بالملفات السياسية الداخلية، والثاني تطوير تقنيات التجسس على المعارضة المصرية، والتدخل في شئون الإعلام، حتى أصبح بعض رؤساء التحرير ببعض الصحف والقنوات الفضائية يضجون من هذا التدخل من قِبل ضابط المخابرات العسكرية من خلال جروب «الواتساب» في سياساتهم التحريرية.   

شواهد اختراق الهواتف وتعقُّب المعارضين كثيرة من قبل المخابرات بنوعيها «العسكرية والعامة» خلال السنوات الخمس الماضية كثيرة، وأبرزها ما رصدته تلك الأجهزة من تدفق أموال للجمعيات الأهلية والخيرية ومنظمات المجتمع المدني المعنية بحقوق الإنسان، والتي على أثرها تم منع عديد من نشطاء هذه المنظمات من السفر، وتلفيق قضايا تلقي أموال من الخارج  تحت زعم الإضرار بالأمن القومي المصري، كان من أبرزهم الناشطان الحقوقيان جمال عيد ونجاد البرعي.

بمرور الوقت اتضح أن الغرض من عمليات التنصت، خاصة على نشطاء الثورة المصرية من الشباب، هو نشر تسجيلات لهم في وسائل إعلام مصرية من خلال برامج «توك شو» خلال السنوات التي أعقبت ثورة يناير/كانون الثاني، لتحطيم صورة هؤلاء الشباب لدى الرأي العام المصري، وحلقات الإعلاميين «أحمد موسى، وعبدالرحيم علي، ومصطفى بكري»، الشهيرة عن إذاعة مكالمات الثوار والبرادعي وغيره كانت خير مثال على ذلك.

وكان الهدف إظهار هؤلاء الشباب بأنهم يعملون على إثارة الفوضى، حتى يتم تشكيل الرأي العام وحشده للخروج على أول رئيس شرعي للبلاد بعد أول انتخابات رئاسية حرة.

إن قراءة تاريخ جهاز المخابرات العامة، الذي أُنشئ في عام 1955 لحماية الأمن القومي المصري، تؤكد أن مهمته الأساسية تقديم معلومات وتقدير موقف فقط.

ولكن مع بداية حكم مبارك تمت عمليات اختراق كبيرة للأحزاب المصرية المعارضة، يُعتقد أن المخابرات كان لها دور بها. 

وتم استئناس أكثرها شراسة في المعارضة مثل حزب التجمع التقدمي، ونجحت في تفكيك حزب العمل الاشتراكي وتقسيم «حزب الغد» الذي أسسه المعارض الليبرالي المعروف أيمن نور في عام 2005.

وأخضع مبارك حتى أعضاء حكومته تحت مجهر التجسس من خلال وحدة «البحوث والتقنية » التي أسسها الرئيس الراحل أنور السادات داخل جهاز المخابرات العامة.

كان من أبرز الملفات التي كانت تعمل عليها المخابرات العامة المصرية ملف الجماعات الإسلامية والعنف.

ولكل ظل كثير من المعارضين المصريين ينظرون بشكل مختلف إلى الجيش والمخابرات العامة مقارنة بالأمن الوطني التابع للداخلية والذي كان يلقى عليه اللوم في انتهاكات النظام.

وافترض هؤلاء المعارضون أن الجيش والمخابرات ينظرون إلى المعارضة باعتبارها معارضة داخلية وطنية تختلف مع النظام وليس الدولة والوطن، وليس بالطريقة نفسها التي يتعامل بها الأمن.

ولكن تطورات ثورة يناير/كانون الثاني، أظهرت أن الجيش والمخابرات لديهما أهدافهما الداخلية التي ترتبط بصراعهما على السلطة ومصالحهما أكثر من ارتباطها بالأمن القومي للبلاد.

ومع صعود السيسي إلى سدة الحكم انتقل ملف التعامل مع المعارضة إلى المخابرات العسكرية، علماً أنه خلال فترة حكم المجلس العسكري بدأ السيسي نفسه كحلقة وصل بين الجيش والمعارضة والنشطاء السياسيين.

كان نقل الملف إلى المخابرات العسكرية لإضعاف مكانة المخابرات العامة، لم تعُد تلك الأخيرة هي عكاز المعلومات كما في السابق، حتى لو كان على رأس هذا الجهاز مدير مكتب السيسي، ونجل الأخير، فالهدف والخطة هما إضعاف ذلك الجهاز، حتى لو تم تعظيمه بأحدث أنواع التقنية.

«آخر ما كانت تعمل عليه المخابرات المصرية العامة هو استخدام تطبيقات مخفية لاختراق الهواتف»، حسبما يقول مصدر آخر عمِل مع المخابرات العامة مؤخراً.

وأضاف أنه «إذا أرادت المخابرات اختراق هاتفك وتحميل بياناتك كافة عن طريق هذه التطبيقات، فهي تستطيع بفضل استعانتها بمطورين في مجال التكنولوجيا والبرمجيات، وهم بالمئات في مصر.

إذ تقوم بإنزال تطبيقات على هاتفك دون أن تدري حتى، فعبر الضغط على رابط أغنية مثلاً أو فيلم عبر رسالة تأتيك في صيغة إعلان، إذا ضغطت على هذا الرابط يتم تنزيل التطبيق المخصص لاختراقك بشكل مخفيّ دون أن يظهر على شاشة الهاتف، وبذلك تتحقق عملية الاختراق، وأيضاً بمجرد حصولها على رقم هاتفك تستطيع الدخول على مكالماتك كافة ومع من تحدثت، وأين مكان وجودك في أثناء المكالمات».

وقال مصدر قيادي سابق في المخابرات العامة لـ «عربي بوست»، إن «برامج التجسس على الهواتف من أدوات أي جهاز مخابرات، وهي أساليب معروفة وقديمة نستخدمها  في الجهاز».

وأوضح أنه «حتى وقت قريب كانت هذه الاستخدامات محددة في كشف الخلايا الخارجية للتجسس على مصر وليس المصريين أو حتى المعارضة، وذلك من أهم أسباب الخلاف بين المخابرات العامة والحربية، والذي ظهر مؤخراً مع صعود الرئيس عبدالفتاح السيسي إلى قمة القيادة في المخابرات الحربية»، على حد قوله.

وأضاف المصدر أنَّ عمل المخابرات العامة كان فقط رصد نبض الشارع المصري وتقديم تقارير إلى الرئاسة، وأيضاً «العمل على كشف مخططات أمريكا فيما أطلق عليه في منتصف 2005 الفوضى الخلاقة، وضغوطهم على مصر لخصخصة الصحافة والإعلام»، على حد تعبيره.

وذكر أنه تم إصدار تشريعات في مصر تسمح بتأسيس صحف خاصة، فصدرت مثلاً صحيفة «نهضة مصر»، وهي رغم كونها أُسست كشركة مساهمة مصرية فإن إدارتها كانت تتم من واشنطن. وفي المقابل أصدرت المخابرات المصرية صحيفة خاصة يمولها رجال أعمال مصريون، لكنها في الحقيقة كانت بتوجيهات من المخابرات العامة وأُعطيت لها جميع الصلاحيات، والحرية في تناول الشأن الداخلي مع الحفاظ على الأمن القومي، على حد قوله.

وتابع المصدر أنه حينما تدخل جهاز المخابرات العامة في الإعلام، كان تدخله «بمعايير محددة تهدف إلى الحفاظ على الأمن القومي، وهو أمر موجود في أعتى الدول الديمقراطية وليس كما يحدث الآن من تدخُّل فجٍّ جعل الرأي العام يفقد ثقته بالإعلام»، على حد وصفه.

أما عن التقنيات المستخدمة في عمليات التنصت على الهواتف، فيشرح المصدر قائلاً إن الأمر تطور مؤخراً، وأصبح بالإمكان التنصت على محادثات الهدف حتى لو كان الهاتف مغلقاً.

وأضاف: «المهم هو تثبيت هذه البرامج على الهاتف، لأنه غالباً لا يتحدث من يريد الإضرار بالأمن المصري أو يخطط لشيء ما مثلاً، في هاتفه فيغلقه، وهم لا يتحدثون أيضاً على وسائل التواصل الاجتماعي، فقط إذا تم تثبيت البرنامج نستطيع رصد كل المحادثات».

مؤخراً بحسب المصدر، «سحبت إحدى شركات المحمول أرقام هواتف قيادات الشركة من الصف الأول والثاني، لاكتشافها عملية اختراق لهذه الأرقام من جهة أمنية داخل البلاد».

أيضاً ليست ببعيدة، محاولات المخابرات المصرية الشراكة مع شركة «أوبر» للمواصلات الذكية لتتبُّع العملاء، ويتردد أن الحكومة المصرية توصلت إلى اتفاق ما مع هذه الشركة.

أما عن كيفية تنفيذ ذلك الاختراق، فيتم عبر إدارة «التقنيات والمعلومات» داخل المخابرات العامة المصرية، وهي من أهم الإدارات، وتتمتع بميزانية غير محدودة.

وكانت صحيفة The New York Times قد ذكرت الخميس 3 أكتوبر/ تشرين الأول 2019، بعض التفاصيل عن تقرير ستنشره شركة «تشيك بوينت سوفتوير»، حول طريقة استهداف معارضي الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، من خلال تطبيقات على الهواتف المحمولة.

ووصفت الصحيفة الهجمات التي تشنها الحكومة لاستهداف باحثين، ومحامين، ومعارضين، وناشطين حقوقيين بأنها «متطورة».

ولم تعد المخابرات العامة المصرية تؤدي مَهمتها الأساسية في تقديم المعلومات حول الشأن الداخلي، بل أصبحت متلقية لهذه المعلومات لنقلها إلى المخابرات العسكرية.

أي إنه قد انتهى دورها تقريباً لصالح المخابرات العسكرية، التي تتعامل بالمنطق والمنهج العسكريَّين، وهي طبيعة ملاصقة لنظام شمولي، وأصبح المصريون يعيشون تحت قبضة التجسس. 

المصدر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى