تقارير وملفات إضافية

بعدما وضعت السلطة كل أوراقها بيد أمريكا وحلفائها العرب.. هل يكرر الفلسطينيون تجربة الصين الشعبية؟

عندما كان نتنياهو يوقع اتفاق التطبيع مع وزيري خارجية الإمارات والبحرين، أُطلِق 15 صاروخاً من قطاع غزة على إسرائيل، وردَّت إسرائيل بمهاجمة أهداف عسكرية مختلفة بالقطاع، كان ما حدث بالبيت الأبيض تجسيداً درامتيكياً يُظهر فشل تحالفات السلطة الفلسطينية التي تعود لثلاثة عقود.

ولكن المفارقة أن الرد جاء من منافسيها الذين يسيطرون على غزة، أما الفلسطينيون في الضفة الغربية حيث تسيطر السلطة، فردُّهم كان أكثر هدوءاً على أنباء التقارب الإسرائيلي مع الإمارات والبحرين، وفقاً لستيفن هوفنر، الذي يرأس مكتب مؤسسة كونراد أديناور الألمانية هناك. 

وقال هوفنر إنَّ احتجاجات صغيرة شارك فيها نحو 150 شخصاً نُظِّمَت في مدينة رام الله، بينما خرج مئات إلى الشوارع في جميع أنحاء الأراضي الفلسطينية. 

وأضاف هوفنر: “تنبأ معظم الفلسطينيين بتوقيع هذا الاتفاق. إذ يزداد شعورهم بأنَّ العالم العربي يفقد اهتمامه تدريجياً بالشعب الفلسطيني”، حسبما ورد في تقرير لموقع إذاعة Deutsche Welle الألمانية.

ففي الاجتماع الأخير لمجلس وزراء الخارجية العرب التابع لجامعة الدول العربية، على سبيل المثال، كان هناك خلاف حول ما إذا كان يجب إدانة التقارب بين إسرائيل والإمارات أم لا، على الرغم من مناشدة الفلسطينيين المنظمة فعل ذلك. وقال هوفنر: “زاد هذا من إحساس الفلسطينيين بالعزلة”.

على الجانب الآخر، هاجم الرئيس الإيراني حسن روحاني بشدةٍ اتفاقية التطبيع. وتساءل مؤخراً موجِّهاً حديثه للإمارات والبحرين: “أين عروبتكم، وأين اهتمامكم بالجرائم [الإسرائيلية] في فلسطين، وأين تعاطفكم مع إخوانكم الفلسطينيين؟”.

لكن ما تعتقده إيران لا يهم جميع من في الأراضي الفلسطينية. وأوضح هوفنر: “في الضفة الغربية، لم يُوَلَ اهتمامٌ كبير لمثل هذه التصريحات القادمة من إيران. لكنها ضربت على وترٍ حساس لدى كثيرين في قطاع غزة، حيث الأشخاص التابعون لحركتي حماس والجهاد الإسلامي منفتحون على تحالف أو على الأقل علاقات أوثق مع إيران”.

وتنبع شكوك العديد من سكان الضفة الغربية تجاه إقامة علاقة أوثق مع إيران، من إدراكهم أنَّ الحكومة الدينية معزولة إلى حد كبير في العالم العربي، وهي هدف للعقوبات الأمريكية. وقد يؤدي التقارب مع إيران إلى ممارسة الولايات المتحدة ضغوطاً مباشرة أو غير مباشرة على الفلسطينيين رداً على ذلك.

وبالمثل، سترفض الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي توحيد الفلسطينيين صفوفهم مع الإيرانيين. وستضطر ألمانيا، على وجه الخصوص، إلى الرد إذا شكّل الطرفان تحالفاً ضد إسرائيل.

من جانبه، علق الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، قائلاً: هذا القرار سيُشجِّع إسرائيل على مواصلة أعمالها غير القانونية ضد الفلسطينيين”. وفي وقت سابق، ثار أردوغان غضباً ضد الإمارات، وقال إنَّ الناس في الشرق الأوسط “لن ينسوا أبداً تصرُّف الإمارات المنافق”.

ولقيت تصريحات أردوغان صدىً في الأراضي الفلسطينية أكبر من تلك الصادرة عن طهران. وهنا يقول هوفنر: “يعلّق كثيرون آمالهم على تركيا؛ فهم يعتبرونها دولة ذات نفوذ سياسيٍ كافٍ لدعم القضية الفلسطينية دعماً فعّالاً”.

لكن في الوقت الحالي، يشغل تركيا كثير من ملفات السياسة الخارجية. فهي تقاتل المنظمات الكردية في شمال سوريا، وتخوض خلافاً مع اليونان حول احتياطيات الغاز الطبيعي في البحر المتوسط​​، وتقاتل حالياً إلى جانب رئيس الوزراء الليبي المدعوم من الأمم المتحدة فايز السراج. ومن ثم، ليس من الواضح ما إذا كانت تركيا لديها أية قوة متبقية تستخدمها لدعم الفلسطينيين. علاوة على ذلك، سيكون الاتحاد الأوروبي متشككاً تجاه التحالف التركي الفلسطيني.

في ضوء تغيُّر ميزان القوى في الشرق الأوسط، يأمل الفلسطينيون أن تُعزِّز روسيا وقطر قضيتهم. إذ ترتبط روسيا بعلاقات ودية مع إسرائيل، وتأمل رام الله أن تُستغَل تلك العلاقات لتعزيز المصالح الفلسطينية. ومع ذلك، تحرص روسيا على الحفاظ على علاقاتها طيبة مع إسرائيل، إذ ينشط كلا البلدين عسكرياً في المجال الجوي السوري؛ مما يعني أنه يجب على الدولتين الحفاظ على تعاون وثيق على المستوى الفني، والاستراتيجي أيضاً على المدى الطويل.

أما قطر، فقد ضخَّت مبالغ طائلة من الأموال بقطاع غزة، بالتشاور في كل مرة مع إسرائيل. وقال هوفنر: “هذه المشاركة تجعل قطر، في نظر عديد من الفلسطينيين، وسيطاً محتملاً في المحادثات المستقبلية مع إسرائيل”. لكن هذه الآمال لم تتحقق حتى الآن.

يعتبر عديد من الفلسطينيين منذ فترة طويلة، المملكة العربية السعودية حليفاً موثوقاً به. وفي الواقع، حافظ الملك السعودي سلمان بن عبدالعزيز، على دعمٍ صريحٍ للفلسطينيين على مدى سنوات. بيد أنه من غير المرجح أن يحافظ نجله ووريث العرش، ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، على هذا الموقف المؤيد للفلسطينيين. 

وبحسب تقارير إعلامية، أشار جاريد كوشنر، كبير مستشاري الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، في عدة محادثات، إلى أنَّ ولي العهد السعودي يوافق على الجهود الأمريكية لتطبيع العلاقات الإسرائيلية العربية. لكن في الوقت الحالي، أبقت السعودية نفسها بمنأى عن أية شراكة علنية مع إسرائيل.

وبالتالي، خفّض معظم الفلسطينيين توقعاتهم من الرياض. ووفقاً لاستطلاع حديث أجراه المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية، يعتقد 80% من الفلسطينيين أنَّ السعوديين منحوا الإمارات الضوء الأخضر لتطبيع العلاقات مع إسرائيل. وأعرب 82% من المشاركين عن توقعاتهم بأنَّ السعوديين سيحذوا حذو الإمارات قريباً.

يمثل التطبيع الإماراتي السعودي لحظة تكشف فشل تحالفات السلطة الفلسطينية وحركة فتح، على مدار أكثر من ثلاثة عقود.

فبينما “حماس” متحالفة مع قطر وتركيا بحكم الأيديولوجيا، ولديها علاقة وثيقة ولكن متقلبة وقلقة مع إيران، كما أن “الجهاد الإسلامي” لديها علاقات مع إيران أقوى حتى من علاقة الأخيرة مع “حماس”، فإن حلفاء السلطة الفلسطينية هم الذين تخلوا عنها.

فحتى قبل أوسلو ومنذ أن سعت حركة فتح لتحقيق السلام، تخلت عن الحلفاء التقليديين العرب وغير العرب المؤيدين للقضية الفلسطينية، وحاولت التقارب مع الغرب، خاصةً الولايات المتحدة وحلفاءها العرب.

كان الأنصار العرب التقليديون للقضية الفلسطينية مثل النظاميين البعثيين في سوريا والعراق والجزائر وليبيا في عهد القذافي، حلفاء مرهِقين بالنسبة لحركة فتح وكانوا يتدخلون في الشؤون الفلسطينية الداخلية، كما يبدو أن انهيار أو ضعف هذه الأنظمة يدل على صوابية قرار فتح التخلي عنهم والاعتماد على  الولايات المتحدة وحلفائها العرب والأوروبيين.

ولكن التجربة أثبتت دوماً للفلسطينيين أن الولايات المتحدة أبعد ما تكون عن الوساطة النزيهة، والأوروبيون حليف باهت المواقف كثير المواعظ. أما ما يسمى الأنظمة العربية المعتدلة، فلم تكن يوماً مؤمنة بالقضية الفلسطينية؛ بل كانت تراها عبئاً أو وسيلة للتقرب من الولايات المتحدة في أفضل الأحوال.

واليوم وصلت بعض الأنظمة العربية للحليفة للغرب إلى ذروة براغماتيتها في التعامل مع القضية الفلسطينية باعتبارها ملفاً تجرى مقايضته مقابل مزيد من الرضا الأمريكي، بل هي تريد التحالف مع إسرائيل ضد الخصوم الحقيقيين لهذه الأنظمة إيران وتركيا والقوى الديمقراطية والإسلامية في المنطقة العربية.

المشكلة أن هذا الوضع لم يترك “فتح” والسلطة الفلسطينية بلا حلفاء إقليميين فقط، بل جعلها في وضع أسوأ.

فمنذ قرار “فتح” التحول من كونها حركة نضال متعثرة، إلى سلطة كان معناه اعتمادها على التمويل الخارجي للبقاء ووساطة ما يسمى الأنظمة العربية المعتدلة مع أمريكا، لتقنع إسرائيل بتسيير شؤون السلطة.

واليوم، فإن أمريكا وأغلب حلفائها العرب يتلكؤون في تمويل السلطة، ويستخدمون كل الأوراق السابقة للضغط عليها لتقديم تنازلات غير مسبوقة لإسرائيل.

ورغم رفض السلطة الواضح لهذه الطلبات، فإن السؤال هو: هل يستطيع أعضاء حركة فتح الذين أصبحوا رجال السلطة، تحمُّل الثمن الباهظ لمقاومة هذه الضغوط.

بالنسبة لـ”حماس” و”الجهاد” الذين كانوا في حالة مقاومة فعلية منذ أوسلو، فإن ما حدث مجرد تدهور، ولكل بالنسبة للسلطة الفلسطينية فإنهم يتعرضون لمحاولة خنق حقيقية.

والمشكلة أن لجوءهم إلى إيران أو تركيا لن يُغضب فقط الغرب والدول العربية ويفرض على السلطة مزيداً من العزلة، بل إنه سيعني صوابية خيار مُنافسي “فتح” على قيادة الشعب الفلسطيني، “حماس” و”الجهاد”، بعدم الانصياع لأمريكا وحلفائها العرب.

راهنت السلطة الفلسطينية على أن تكون مقبولة من النظامين العربي والدولي، قادة “فتح” لم يعودوا يرون أنفسهم من فكرة العالم الثائر والمقاوم الذي كان ممتداً من كوبا إلى قلب المدن الأوروبية التي يسيطر عليها اليساريون، بل اعتبروا أنفسهم أقرب نفسياً إلى قادة البلدان العربية الحليفة لأمريكا.

اليوم تخلى هؤلاء بشكل فج عن قادة “فتح”، بينما تركيا وإيران شبيه أيديولوجي لمنافسيهما الداخليين، الأمر يشبه حالة أن تتحول حركة مقاومة ليبرالية أو إسلامية أو وطنية لطلب الدعم السوفييتي ضد الاحتلال، بينما التنظيم المنافس لها على زعامة الحركة التحريرية هو تنظيم شيوعي.

وهي تجربة حدثت بالفعل في الصين خلال مقاومتها الطويلة لليابان قبل وأثناء الحرب العالمية الثانية، حيث كان الاتحاد السوفييتي داعماً للمقاومة الصينية التي كانت تقودها حركة وطنية تدعى الكومينتانغ وينافسها على زعامة المقاومة الحزب الشيوعي الصيني، وانتهت التجربة بخروج الحزب الشيوعي أقوى من الحركة الوطنية الصينية “الكومينتانغ“، وصولاً لاستيلاء الشيوعيين السلطة في نهاية أربعينيات القرن الماضي وطرد الكومينتانغ إلى جزيرة تايوان.

لم يكن تفوُّق الحزب الشيوعي الصيني أمام الكومينتانغ نابعاً فقط من الدعم السوفييتي وتأثيره المعنوي على النزاع بين الطرفين، ولكن أيضاً انضباط الحزب الشيوعي الأيديولوجي مقابل ترهُّل الكومينتانغ الناتج ضمن أسباب كثيرة عن غياب أيديولوجيا واضحة لهذا الحزب الذي كان يمثل الوطنية الصينية، وهي المشكلة نفسها التي تواجهها “فتح” أيضاً، وجعلتها تتعثر كحركة مقاومة.

والآن ينزع حلفاء “فتح” العرب اليوم عنها ميزتها الرئيسية كحركة سلطة قادرة على انتزاع حقوق الشعب الفلسطيني في التفاوض، وهي لم تعُد قادرة بحكم بنيتها، على أن تتحول إلى حركة مقاومة أو تجد حلفاء جدداً. 

المصدر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى