ثقافة وادب

بماذا تختلف المقابر الجماعية عن غيرها؟ ومتى تعتبر “جريمة حرب”؟ وكيف تعاقب الأمم المتحدة مرتكبيها؟

ما أن هدأت المعارك نوعاً ما في مدينة ترهونة الواقعة جنوبي العاصمة الليبية طرابلس، حتى بدأت الجرائم التي ارتكبتها ميليشيات حفتر تتكشف شيئاً فشيئاً، وآخرها كان العثور على عدة مقابر جماعيّة في المنطقة فيها جثث تعود غالبيتها إلى مدنيين خُطفوا من منزلهم من مناطق الاشتباكات المحيطة بالمدينة.

فماذا يعني مصطلح المقابر الجماعية؟ ومتى يمكننا اعتبار مَن أنشأ هذه المقابر مرتكباً لجريمة حرب؟ وما أشهر المقابر الجماعية التي اكتُشفت عبر التاريخ؟

نقول عن المقبرة إنها مقبرة جماعية عندما يحتوي قبرٌ واحد أو حفرة أو سرداب على 3 جثث بشريّة أو أكثر، وقد دفنوا بعد أن تم إعدامهم، وتكون هويتهم معروفة أو غير معروفة بحسب الأمم المتحدة.

ويتم اللجوء إلى إنشاء المقابر الجماعية لعدّة أسباب، أكثرها انتشاراً هو الصراعات الكبيرة والحروب من أجل إخفاء آثار الجرائم المرتكبة.

ومن بعدها تأتي أسباب أقل استخداماً مثل الكوارث الطبيعية، وانتشار الأوبئة، والمجاعات، حيث تستخدم المقابر الجماعية في هذه الحالة من أجل إيقاف انتشار العدوى أو للسيطرة على الاضطرابات التي تلحق الكوارث.

لا شك أنه من الصعب جداً التوصل إلى أول من أنشأ المقابر الجماعية، ولكن الاكتشافات الحديثة أثبتت أن هناك الكثير من المقابر الجماعية التي يعود تاريخها إلى ما قبل الميلاد.

فبحسب صحيفة The Washington Post، تم اكتشاف مقبرة جماعية تضم رفات ما لا يقل عن 27 شخصاً تظهر عليهم علامات إصابات قاتلة قرب بحيرة توركانا في كينيا، ويقدر تاريخ إنشاء هذه المقبرة إلى نحو 10 آلاف عام.

كما تم اكتشاف مقبرة جماعية أخرى بحسب CNN في قرية بولندية تعود إلى 5 آلاف عام، تحوي جثث 15 شخصاً بينهم نساء وأطفال، تم وضعهم بشكل مرتب في المقبرة مع الهدايا.

وبعد إجراء تحاليل الحمض النووي تبين أن جميع الأشخاص هم من عائلة واحدة.

بحسب القانون الدولي لا، والسبب أنه ليست كل المقابر الجماعية التي تم إنشاؤها كانت بدافع دفن أشخاص تم قتلهم أو إعدامهم. بل لأن هناك مقابر جماعية أخرى تم إنشاؤها لدوافع أخرى مثل دفن جثث أشخاص توفوا بسبب كوارث وأوبئة ولم يكن هناك إمكانية لدفنهم بشكل فردي. مثل المقابر الجماعية التي أنشئت بسبب الطاعون والإنفلونزا وكورونا.

إذ تنصّ اتفاقيات جنيف على وجوب دفن الموتى، إذا أمكن، وفقاً لطقوس الديانة التي ينتمون إليها، ولا يجوز إحراق جثثهم إلا في ظروف استثنائية، منها أسباب صحية قهرية، أو طبقاً لديانة المتوفى، أو وفقاً لرغبة المتوفى الواضحة.

بحسب اتفاقيات جنيف التي عُقدت على 4 مراحل من عام 1864 حتى 1949 فقد تم تصنيف الأعمال التي تُصنف كجرائم حرب، ومن بينها كان مرتكبي المجازر والإبادات الجماعية والمقابر الجماعية سواء كانوا مدنيين أو عسكريين او حتى رؤساء دول، وعليه فسيتم ملاحقة فاعليها ومحاكمتهم بأشد العقوبات.

كما أنه إذا تصرف الفاعل بأمر من حكومته، أو من رئيسه الأ‌على، فان هذا لا‌ يخليه من مسؤوليته حسب أحكام القانون الدولي، ولكن من الممكن أن يساعده ذلك كأحد الظروف المخففة لصالحه حسب المادة الثامنة من القانون الدولي.

وأحد الأمثلة هو الصربي رادوفان كاراديتش الذي ارتكب مذبحة سربرينيتشا الشهيرة والتي تسبب خلالها بإنشاء عشرات المقابر الجماعية، قبل أن يُلاحق فترة طويلة وصلت لـ 13 عاماً ثم يُعتقل في العام 2008 ويقدم للمحاكمة.

وفي العام 2012 قُدم كاراديتش للتحقيق في لاهاي وحكم عليه بالسجن مدى الحياة بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية من بينها مذبحة سربرينيتشا الشهيرة التي نتج عنها الكثير من المقابر الجماعية.

هناك الكثير من المقابر الجماعية حول العالم، منها ما كان سببها حروباً وصراعات وانقلابات عسكرية، ومنها ما كان سببها كوارث طبيعية وأوبئة ومجاعات.

إليكم أشهر تلك المقابر المنتشرة حول العالم:

يوجد في إسبانيا وحدها ما يقدر بأكثر من ألفي مقبرة جماعية تحوي مئات الآلاف الذين قُتلوا جميعاً أثناء الحرب الأهلية الإسبانية الممتدة من 1936 إلى 1939، وفق ما ذكرته صحيفة Telegraph.

وتعد الحرب الأهلية الإسبانية التي اندلعت بين القوميين والجمهوريين واحدة من أكثر الحروب الأهلية تسبباً بخسائر بشرية حول العالم، حيث تقدر أعداد القتلى من الطرفين أكثر من نصف مليون شخص.

كانت جمهورية البوسنة والهرسك الاشتراكية متعددة الأعراق مأهولة بشكل رئيسي بالبوشناق المسلمين بنحو 44% من السكان، والصرب الأرثوذكس 31%، والكروات الكاثوليك 17%، وعقب تفكك الاتحاد السوفييتي أجري استفتاء من أجل الاستقلال، قاطعه الممثلون السياسيون للصرب البوسنيين، لكن النتيجة جاءت لصالح الاستقلال.

وعقب النتيجة، هاجمت القوات الصربية البوسنية، بدعم من الحكومة الصربية لسلوبودان ميلوسوفيتش والجيش اليوغوسلافي الشعبي، جمهورية البوسنة والهرسك من أجل توحيد وتأمين الأراضي الصربية.

وتبع ذلك الصراع تطهير عرقي للمسلمين البوشناق، فارتكبت الكثير من المجازر أشهرها مذبحة سربرنيتسا التي راح ضحيتها 8 آلاف مسلم دفنوا جميعاً في مقابر جماعية.

في عام 1950 عندما هاجمت كوريا الشمالية جارتها الجنوبية فاستمرت الحرب 3 سنوات انتهت بالتوصل لاتفاق وقف إطلاق النار في 1953 ولكن بعد أن خلفت نحو 1.2 مليون شخص من الطرفين.

ومن بين هؤلاء القتلى أشخاص من كوريا الجنوبية يقدر عددهم ما بين 100 إلى 200 ألف شخص تم الإبلاغ عنهم للحكومة على أنهم متعاونين مع كوريا الشمالية، فتم إلقاء القبض عليهم وإعدامهم على أنهم خونة ودفنهم داخل مقابر جماعية.

بعد انتهاء الاحتلال الأمريكي للعراق باتت ظاهرة المقابر الجماعية السمة الأبرز في العراق، فكل فترة يتم اكتشاف مقبرة جديدة يتراوح أعداد القتلى فيها بين 5 و100 شخص، تم قتلهم على أيدي تنظيم داعش أو على ميليشيات أخرى.

ويقدر مسؤولون في الحكومة ووزارة الداخلية العراقية وجود ما لا يقل عن 700 مقبرة جماعية في العراق، ويعود غالبيتها إلى الفترة الممتدة بين 2014 و2017، أي في الفترة التي كانت مناطق واسعة من العراق تحت سيطرة داعش.

جغرافياً المقابر الجماعية تلك تركزت في المناطق الشمالية والغربية من العراق، وتحديداً نينوى، وكركوك، وصلاح الدين، والأنبار، وديالى.

في حين تشير تقديرات مكتب مفوضية حقوق الإنسان السامية في الأمم المتحدة إلى أن أعداد المدفونين في تلك المقابر الجماعية يتراوح من 6000 إلى 12000 شخص.

أما في سوريا فهناك أيضاً مئات المقابر الجماعية التي ارتكبها أيضاً تنظيم داعش خلال تواجده في مناطق كثيرة من سوريا طوال 3 سنوات 2013 – 2017.

أبرز تلك المقابر الجماعية مقبرة قرية الفخيخة في الرقة شرق سوريا التي تحوي على جثث 3500 شخص قتلهم تنظيم داعش خلال سيطرته على المدينة.

حدثت المجاعة الكبرى في أيرلندا بين عامي 1845 و1852، مسببة وفاة أكثر من مليون شخص وهجرة مليون آخر، إذ كان ثلث سكان أيرلندا يعتمد على أكل البطاطا في التغذية بسبب الفقر، ولكن قدوم آفة زراعية تسمى اللفحة تسببت في فساد محاصيل البطاطا في أوروبا وأيرلندا.

وبسبب العدد الكبير للوفيات والفقر تم دفن الموتى في مقابر جماعية.

وفي إحدى عمليات التنقيب الحديثة تم اكتشاف مقبرة جماعية تحوي أكثر من 1000 جثة توفوا جميعاً من الجوع.

أثناء تفشي الطاعون الأسود في منتصف القرن الرابع عشر، وتحديداً خلال الفترة من 1348 حتى 1350، تعرضت لندن الإنجليزية لوباء الطاعون الأسود، الذي استمر مدة 18 شهراً وأدى لوفاة أكثر من نصف سكان المدينة.

الأمر الذي جعل أسقف لندن يقوم بشراء ممتلكات تسمى “الأرض الحرام” لدفن ضحايا الطاعون، كما اشترى أحد الإنجليز قطعة أرض مجاورة، تبلع مساحتها  13 فداناً لنفس الغرض، ليتم دفن الضحايا على عُمق أكثر من 5 أمتار لأول مرة، وفقاً لموسوعة “تاريخ لندن” للمؤرخ الأسكتلندي ويليام ميتلاند، الذي وجد العديد من القبور الجماعية والجثث المكدسة.

بعد نهاية الحرب العالمية الأولى 1918 تعرضت إسبانيا لوباء الإنفلونزا الذي انتقل بعدها إلى غالبية دول العالم، حاصداً أرواح ما يقرب من 50 مليون شخص.

الأمر الذي تسبب في إنشاء مقابر دفن جماعية للضحايا في إسبانيا والولايات المتحدة والمكسيك وأستراليا وكندا بسبب عدم القدرة على الدفن الفردي.

رغم التقدم الحضاري الكبير الذي وصلنا إليه حتى عام 2020 فإن  استخدام المقابر الجماعية كان حلاً مثالياً لبعض الدول من أجل  التعامل مع الأعداد الهائلة للموتى بسبب فيروس كورونا.

فتم اللجوء إلى استخدام هذه المقابر في كل من الهند والولايات المتحدة الأمريكية والبرازيل والصين وإيران.

المصدر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى