آخر الأخبارالأرشيف
مقالات ذات صلة
شاهد أيضاً
إغلاق
* نحن اليوم فى أوطاننا نعانى أشد ما تكون المعاناة من جرثومة التعظيم والتبجيل والتقديس للأشخاص الذين هم فى موضع المسؤولية , مع أن هذه المسؤولية في الأصل تكليف وليست تشريفا لهم . وقد تغلغلت هذه الجرثومة فى بلادنا فعطلت الإنتاج , وجعلت السيئات حسنات , والناقص كاملا , والأعمى بصيرا , والأعرج سليما , والمريض السقيم صحيحا سليما على غير الواقع الملموس . كما أنها جعلت الناس يشعرون أن رحم المجتمع عقيم وغير قادر على ميلاد كفاءات أخرى أكثر نضجا وفهما وعلما وإنتاجا . وكأن المجتمع أصيب بالإفلاس . إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لم يكن لينتظر لكى يعظمه الناس تكريما لمنزلته بصفته أمير المؤمنين . بل انه كان يقوم بمبادرة فردية ذاتية من تلقاء نفسه لكسر حدة الغرور وشهوة التعالى وقتل جرثومة الكبر إذا شعر أن نفسه حدثته يوما ما بأنه أمير المؤمنين وأنه فوق البشر منزلة والاهم مكانة ومقاما . وإلا فما الذي يجبره وهو أمير المؤمنين إن يصعد المنبر ويحقر من شأن نفسه ويذكر الناس أنه كان يرعى الغنم ؟ حتى أن الصحابة رضوان الله عليهم استنكروا عليه هذا السلوك . إلا أن عمر رضي الله عنه ذكرهم بحقيقة النفس البشرية وإنها لابد أن تؤدب بتذكيرها بأصل نشأتها حتى لا تطغى وتنظر من فوق رأس جبل فترى الناس كلهم صغارا .
* إننا نعيش اليوم عصر النفاق الممجوج والمصطلحات الفخمة والألفاظ المهيبة على طريقة : أصحاب الجلالة والفخامة والزعامة والمقام الرفيع وكأنهم أنصاف آلهة . ولعل هذه الألفاظ تطلق على أقوام أرضهم محتلة وأحوالهم مختلة وشعوبهم معتلة ولا يستطيعون حتى تحرير تراب وطنهم من المحتل الغاصب , فأين إذا الفخامة والجلالة والزعامة ؟. ولعل النفخ الزائد فى النفس البشرية يؤدى إلى هلاكها وفنائها ونهايتها . يقول الشاعر : قد يهلك الإنسان من كثرة ماله .. كالطاووس يذبح من أجل ريشه . فالمال والسلطة والنفوذ والمناصب الرفيعة قد يستغلها المسؤول أحسن استغلال ويوظفها لخدمة قومه وشعبه وبنى وطنه . وقد يسئ استغلالها ويوظفها أسوا ما يكون لصالح فئة قليلة منتفعة ومتسلقة كنبات ” اللبلاب ” لا ترى المسؤول إلا ملاكا طاهرا لا يخطئ ولا يجب أن يخطئ من وجهة نظرهم لان هؤلاء المسؤولين وصلوا إلى درجة الذين لا يسألون عما يفعلون وكأنهم حاشى لله آلهة . ولست فى كل ما سبق ذكره أريد من الناس أن يحتقروا المسؤولين ويقللوا من شأنهم ويحتقروهم , فلست أبغى ذلك إطلاقا . فإنزال الناس منازلهم واجب شرعي وذوق اجتماعي دون مبالغة أو زيادة أو نفاق أو طبل وزمر بغية التقرب زلفى لهذا المسؤول أو ذاك لتحقيق مآرب شخصية ومنافع ذاتية .
* إن المسؤولين كبارا كانوا أم صغارا لم يرثوا تلك المناصب كابرا عن كابر , ولكن بينهم وبين الدولة عقد معقود وشرط مشروط بزمن محدود . هم أجراء عند الشعب وليسوا أمراء عليه . إن أحسنوا شكرناهم وكافأناهم , وإن اساؤوا أقلناهم حتى يخلوا أمكانهم لمن هم أكفأ منهم . إن تقديس وتأليه المسؤولين هو دليل الإفلاس الخلقي والعلمي والمجتمعي . كما أنه الطريق السريع ذات الاتجاه الواحد لتخريب مؤسسات المجتمع من أى كفاءات وليدة شابة تنتظر دورها فى القيادة والتوجيه . إن النفس البشرية إذا انتفخت وانتفشت وتضخمت أصابها الورم الخبيث فى عقلها فلا تفكر إلا فى ذاتها , ولا تشعر إلا بحالها , ولا تسمع إلا نفسها , ولا ترى إلا حسناتها . ومن هنا تنشأ الديكتاتورية والتسلط والبغي والعدوان والغطرسة والكبر . نريد مجتمعا صلبا قويا متوازنا يعرف كل واحد فيه ماله وما عليه دون زيادة أو نقصان أو تهويل أو تهوين أو تحقير أو تعظيم . يقول ربنا عز وجل ” وكذلك جعلناكم أمة وسطا ” ما أجمل الوسطية فى حياتنا اليومية . ولكن للأسف افتقدناها اليوم فى عالم غلب عليه النفاق والشقاق وسوء الأخلاق إلا من رحم ربك .