تقارير وملفات إضافية

تاريخها مع الجوائح يؤكد ذلك.. فورين بوليسي: كورونا قد يعيد تشكيل المشهد السياسي في مصر

في 16 مارس/آذار الماضي، كان لدى مصر 126 حالة إصابة مؤكدة بفيروس كورونا المستجد. لكن بحلول منتصف أبريل/نيسان، وصل هذا الرقم إلى 2700. بعدها بأسبوع، زاد عدد الحالات بأكثر من الثلث. وعلى الرغم من أن تفشي المرض في البلاد لا يزال في بدايته، فإن نظام الرعاية الصحية الهش في مصر قد أخذ يعاني بالفعل، وكذلك سكانها. كما أن الاقتصاد المضطرب منذ فترة طويلة والحكومة التي لم تعط أولويةً للإنفاق على الخدمات الصحية عوامل تساهم في مفاقمة الأمور وزيادة الطين بلة. ومن ثم، إذا استمر فيروس كورونا في انتشاره السريع، فالأمر ليس إلا مسألة وقت قبل أن تنفجر الأزمة الصحية الحالية مفضية إلى أزمة سياسية، كما تقول مجلة foreign policy الأمريكية.

في جميع أنحاء البلاد، ثمة نقص حاد في الأطباء والممرضات والأدوية والمستلزمات الطبية والأسرّة، وهو ما يجعل نظام الرعاية الصحية عاجزاً وغير مجهز للتعامل مع جائحة سريعة الانتشار وشديدة الفتك كفيروس كورونا. تدفع الأجور المتدنية وأوضاع العمل السيئة العديد من الأطباء لمغادرة البلاد، منهم نحو 10 آلاف طبيب على مدى السنوات الثلاث الماضية وحدها. وتشير تقديرات نقابة الأطباء المصرية إلى أنه من أصل 220 ألف طبيب مسجّل، يعمل نحو 120 ألفاً منهم خارج مصر. 

كما تعاني المستشفيات العامة نقصاً في طواقمها الطبية يبلغ نحو 55 ألفاً إلى 60 ألف ممرض. أضف إلى ذلك أن مصر لديها 1.3 سرير مستشفى لكل 1000 شخص، مقارنة بنحو 13 في اليابان، و8 في ألمانيا، و6 في فرنسا. إذن من غير المستغرب، أن تشير بيانات “الباروميتر العربي” إلى أن 31% فقط من المصريين يقولون إنهم راضون عن الأداء العام لخدمات الرعاية الصحية الحكومية في 2018-2019، وهو انخفاض بمقدار 19 نقطة عن عام 2010.

يشكل الأطباء والممرضون والعاملون بالطواقم الطبية الآن نحو 13% من حالات الإصابة بفيروس كورونا في مصر، وهي نفس النسبة المسجلة تقريباً في إيطاليا وإسبانيا. وعلى الرغم من خطورة التحدث علناً، لجأ العديد من الأطباء إلى وسائل التواصل الاجتماعي لزيادة الوعي بظروف العمل وسوء الإدارة ونقص الإمدادات، وغيرها من العوامل التي يقولون إنها تعرض حياتهم للخطر.

لعقود، ظلت الحكومة تتجاهل الرعاية الصحية ومخصصاتها، لا سيما إذا قارنتها بالحصة الكبيرة من الميزانية التي تُخصص لقوات الأمن. فقد انخفض التمويل الحكومي لقطاع الصحة من 6.7% من ميزانية البلاد في عام 2000 إلى 4.2% في عام 2016.

والآن، سيكون الارتفاع الحاد في عدد الحالات المصابة بفيروس كورونا بمثابة تذكيرٍ مأساوي لقادة البلاد بأن التهديدات ليست كلها ذات طبيعة عسكرية. فمنذ أن تولى عبدالفتاح السيسي رئاسة البلاد في عام 2014، وهو يشدد على “تهديد الإرهاب وتضحيات الجيش والشرطة المبذولة لكبح جماحه”. لكن ذلك جاء على حساب مخاطر أخرى، خاصة بعد أن عمد الجيش، الذي لطالما كان له دور محوري وحاسم في النظام السياسي والاقتصاد والمجتمع، إلى الانخراط بشدة عن ذي قبل في محاربة مجموعات مسلحة في سيناء على مدار السنوات السبع الماضية.

وقد أدى الفساد المستشري والإدارة السيئة لموارد الدولة إلى تفاقم حالة الإحباط العام. إذ لا يزال المصريون يتحملون وطأة تعويم الجنيه المصري في عام 2016، ليفقد نصف قيمته مقابل الدولار الأمريكي. وفي عام 2018، ارتفع معدل الفقر على الصعيد الوطني إلى 32.5%، بزيادة 5% عما كان قبلها بعامين. وفي غضون ذلك، تواصل الحكومة المصرية بناء عاصمة جديدة باذخة شرق القاهرة، بتكلفة تصل إلى 58 مليار دولار.

ليس هناك شك في أن الإغلاق العام الناجم عن فيروس كورونا سيتسبب في انخفاض حاد في المصادر الرئيسية للعملة الصعبة التي تشتد حاجة البلاد إليها: إيرادات السياحة (التي تمثل نحو 12% من الناتج المحلي الإجمالي لمصر) ورسوم الشحن عبر قناة السويس، والاستثمارات الأجنبية والتحويلات المالية من العاملين بالخارج، فأكثرهم يعمل في قطاعات تأثرت مباشرةً بتدابير مكافحة فيروس كورونا وانخفاض الإنفاق الاستهلاكي.

ومع استمرار انهيار القطاع الصحي تحت وطأة الوباء وتفاقم الأوضاع السيئة العامة، ستجد الحكومة أنه من المستحيل الاستمرار في تبرير نفقاتها الضخمة على المدن السكنية الراقية والقصور الرئاسية والأجهزة الأمنية المتضخمة.

في الأشهر المقبلة، من المرجح أن يسعى السيسي إلى التخفيف من الغضب العام من خلال تكريم الأطباء والعاملين بالقطاع الصحي، وضخ المزيد من الموارد في نظام الرعاية الصحية. وقد اتخذ النظام بالفعل عدداً من الخطوات في هذا الطريق، وتكثيفاً لجهودها للحد من انتشار فيروس كورونا، فتحت الحكومة المزيد من مراكز الاختبار، واشترت مجموعات اختبار إضافية وإمدادات طبية، ورفعت رواتب الأطباء المتدربين.

وفي الوقت نفسه، لدعم القطاع الصناعي وتعزيز الاستثمار، خفضت الحكومة سعر الغاز الطبيعي وكهرباء المصانع، ووجهت بتأجيل تحصيل الضرائب العقارية لمدة ثلاثة أشهر. وخفض البنك المركزي أسعار الفائدة بنسبة 3% وأرجأ ستة أشهر على تواريخ الاستحقاق الخاصة بالأعمال الصغيرة والقروض الاستهلاكية. ومع ذلك، فإن هذه الجهود قد لا تكون كافية.

إذ يدرك مراقبو السياسة المصرية الحديثة مدى السرعة التي يمكن بها لفواعل انقلاب الأوضاع أن تتضخم في أوقات الأزمات. وقد شهدت مصر تقلبات في لحظات، كالاحتجاجات التي أفضت إزاحة مبارك في عام 2011، أو التي دفعت عبد الناصر إلى الاستقالة (قبل أن يعود عنها) بعد هزيمة 1967، أو ما يسمى بأحداث “خريف الغضب” التي كانت ذروتها اغتيال الرئيس أنور السادات في عام 1981. ومن ثم، إذا لم تتخذ الحكومة خطوات جذرية، خاصة لدعم القطاع الصحي، يمكن توقع موجة جديدة من السخط.

وبدون شرعية كبيرة يمكن الاستناد إليها، باتت الطبقة السياسية في مصر اليوم أوهن مما كانت عليه في اللحظات الأخرى. وقد عززت الأزمة الحالية الحالية بالفعل التصدعات البادية، فقد أصبحت وزيرة الصحة المصرية هالة زايد مصدراً لإثارة الغضب على وسائل التواصل الاجتماعي، خاصة بعد سفرها إلى إيطاليا لتقديم المساعدة الطبية، في حين تعاني البلاد افتقاراً إليها. 

وفي الشهر الماضي، تجمعت الحشود في أنحاء مختلفة من الإسكندرية للدعاء بزوال الوباء، وهو أمر محظور بموجب قانون التظاهرات الصارم لعام 2013 الذي يحظر الاحتجاجات والتجمعات العامة غير القانونية. وفي 11 أبريل/نيسان، أطلقت قوات الشرطة الغاز المسيل للدموع على تجمع في قرية بالدقهلية، بعد أن منع سكانها دفن طبيبة توفيت بفيروس كورونا، خوفاً من انتقال العدوى إليهم.

قد تؤدي الأزمة الحالية إلى تغيير آخر، وهو المتعلق بالتصورات والتفضيلات السياسية. فمنذ استعادت النخبة الحاكمة في مصر السلطة في عام 2013، أخذت تبشر بنوع من القومية المتطرفة، وتنشر عقائدها وطقوسها وأساطيرها. وتستخدم الحكومة في ذلك القانون والخطاب العام ووسائل الإعلام الحكومية والتعليم والأفلام والبرامج التلفزيونية، للتشديد على أن الحكومة تأتي حصراً من صاحب الزي العسكري، وأن رجلاً قوياً في القيادة هو العلاج الوحيد لأدواء البلاد.

أصبح مزيجٌ من القومية والعسكرة نوعاً من الإيديولوجيا للدولة المصرية. ومع ذلك، فإن أطباء وممرضات هم من يتصدرون الجبهات الأمامية الآن للدفاع ضد الفيروس القاتل، مع القليل من الدعم، وها هو الزي الأبيض يزيح الكاكي جانباً.

وإذا بدا لك بعيد الاحتمال أن الفيروس يمكن أن يعيد تشكيل السياسة والأوضاع الاجتماعية في مصر، فهناك سابقة. ففي عام 1918 دمرت الإنفلونزا الإسبانية مصر، مخلفةً وراءها 138 ألف حالة وفاة، أي نحو 1% من السكان حينها، ومعظمهم من ريفها الفقير. 

ويشير المؤرخ كريستوفر روز، الذي درس التأثيرات السياسية للوباء، إلى أن الاحتياجات العسكرية كانت قد حلت أولويةً مكان احتياجات المدنيين آنذاك، واكتظت المستشفيات بأكبر من قدراتها الاستيعابية، وتوقف الإنتاج الزراعي بعدما اجتاح الفيروس الريف. حلت الكارثة في أعقاب الحرب العالمية الأولى، دافعةً المصريين إلى حافة الهاوية. 

وفي عام 1919 اشتعلت احتجاجات الأمة ضد الاستعمار البريطاني، وقُتل مئات الأشخاص، لكن الثورة كانت ناجحة: ففي غضون ثلاث سنوات، حصلت مصر على استقلالها، بإلغاء “الحماية البريطانية على مصر” في عام 1922.

المصدر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى