تقارير وملفات إضافية

تركيا تلوح بالبندقية، وإيطاليا بالدبلوماسية، وطرابلس أقوى من توقعاتهم.. هل اكتفى رعاة حفتر الدوليون من خطبه الرنانة؟

يصعب إحصاء عدد المرات التي أعلن فيها اللواء الليبي المتقاعد خليفة حفتر أنه سيقتحم فيها العاصمة طرابلس، ولكن هجومه الأخير أثار ردود فعل دولية وليبية واسعة، فهل يؤدي هجوم حفتر الأخير لسقوط طرابلس، أم يكون بداية للعودة للتفاوض؟

وكان حفتر قد أعلن يوم الخميس الماضي، 12 ديسمبر/كانون الأول 2019، عما وصفه بالهجوم الأخير لأخذ طرابلس من الحكومة المعترف بها دولياً، التي يرأسها رئيس المجلس الرئاسي فايز السراج، الأمر الذي أطلق العنان لاشتباكات عنيفة على الحواف الجنوبية للمدينة.

ولكن كالمرّات السابقة اتَّضح من سفك الدماء الذي عانت منه ليبيا خلال الأشهر السبعة الماضية، أن حفتر لم يُستقبل في طرابلس كبطل يُحرر المدينة من الميليشيات، وأنه لم يدخلها حتى كقائد عسكري مظفر رغم  أنه مدعوم من عدة دولة كبرى دولياً وإقليمياً، وتوليفة ضخمة من المرتزقة انضم لها حديثاً الروس.

لم يكن هجوم حفتر الأخير مختلفاً إلا في شيء أساسي، أنه كان مصحوباً بهجوم للمرتزقة الروس، توقع معه العديد من وسائل الإعلام أن يكونوا حصان حفتر الرابح، وأنهم بخبرتهم العسكرية العتيدة سيهزمون القوات المدافعة عن طرابلس.

ولكن حسب المتحدث باسم الجيش الليبي عقيد طيار محمد قنونو، فرغم خبرة ومهارة المرتزقة الروس فإنهم لم يغيروا الكثير من مسار المعركة، لأنهم يتواجدون بالأساس في الخطوط الخلفية، ويصبحون أول المنسحبين في أعقاب أي هجوم تشنه القوات الموالية للحكومة المعترف بها دولياً.

وفي مقابل وعيد حفتر الأخير، الذي انضمّ إلى سلسلة طويلة من التعهدات باقتحام طرابلس، بدا المتحدث باسم الجيش الليبي التابع لحكومة الوفاق مطمئناً، لدرجة أنه قال إن الوضع العسكري لم يتغير منذ استيلاء قواته على مدينة غريان من أيدي قوات حفتر.

ولكن رغم أنه لم يكون الهجوم الأول من نوعه، ولكن هجوم حفتر هذه المرة أثار صدى إقليمياً ودولياً كبيراً.

إذ فاجأ الرئيس التركي رجب طيب أردوغان العالم بإبداء الاستعداد لإرسال قوات إلى ليبيا، في حال طلبت حكومة طرابلس ذلك، خاصة بعد توقيعه لاتفاقيتين، واحدة لإعادة ترسيم الحدود بين تركيا وليبيا، والثانية أمنية تسمح لتركيا بإرسال قوات إذا طلبت طرابلس.

 إذ تتضمن الاتفاقية أو المذكرة الثانية إمكانية إرسال قوات تركية إلى ليبيا، إذا طلبت حكومة الوفاق الوطني دعماً عسكرياً.

وتشمل هذه المذكرة التعاون في مجالات الأمن والتدريب العسكري، والصناعات الدفاعية، ومكافحة الإرهاب والهجرة غير الشرعية، وغيرها من أشكال التنسيق العسكري.

وأقرّ المجلس الرئاسي الليبي هذه المذكرة، بينما الجانب التركي عرضها على البرلمان، وبدأت إجراءات المصادقة عليها. 

 لكن اللافت أن المتحدث باسم الجيش الليبي قال إن قواته لا تحتاج إلى جنود أتراك، بل مجرد إمدادات السلاح التي تم الاتفاق عليها.

في المقابل اتهم الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي حكومة الوفاق بأنها أسيرة ما وصفه بالجماعات الإرهابية، وردّت حكومة الوفاق باتهام القاهرة بأنها تدعم حفتر، الذي وصفته بأنه مجرم حرب، ومتحدثة عما سمّته مراهقة سياسية للسياسة الخارجية المصرية.

يأتي التدخل الروسي في توقيت غريب بالنظر إلى التحسن الملحوظ في العلاقة بين موسكو وأنقرة، خاصة أن ليبيا زادت أهميتها بالنسبة لتركيا بعد توقيع اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين طرابلس وأنقرة، الذي يكتسب أهمية خاصة للأخيرة، في ظل اعتبارها أنها تتعرض لمحاولة لتجاوز دورها ونصيبها في غاز شرق المتوسط.

ولذا لم يكن غريباً أن يعلن الرئيس التركي أنه سيبحث هذا الأمر مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين.

وأشار محللون آخرون إلى أن مثل هذا التدخل ربما يكون فرصة لتسوية الوضع في ليبيا وإنهاء حرب بالوكالة، عن طريق الاتفاق بين أنقرة وموسكو، على غرار اتفاقهما بشأن سوريا.

وهو بالفعل ما أشار إليه أردوغان في كلمته التلفزيونية، إذ قال إنه لا يريد «ملفاً سورياً جديداً مع روسيا»، وأضاف أنه يرى أن «روسيا ستراجع موقفها من حفتر بسبب غياب أي جانب قانوني في موقفه. حفتر غير شرعي، وأي دعم له سيظل في هذا السياق من غياب الشرعية».

ولكن اللافت أكثر تصريح الكرملين بشأن المحادثات المتوقعة بين بوتين وأردوغان حول الأزمة الليبية.

إذ قال المتحدث باسم الكرملين إن اللقاء المقرر بين بوتين وأردوغان الشهر المقبل سيبحث خطط تركيا لتوفير مساعدات عسكرية لحكومة الوفاق الليبية المعترف بها دولياً.

يعتقد خبراء الشأن الليبي، أن تركيا، التي يستعد رئيسها رجب طيب أردوغان للقاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مطلع الشهر المقبل، تستفيد من متغيّرَين رئيسيَّين، الأول عجز دولي عن التوصل إلى موقف موحَّد من الملف الليبي، والثاني تغير واضح في الموقف الأمريكي وقلقها الكبير من نية موسكو التوغل في ليبيا.

وقال الناطق باسم الكرملين ديميتري بيسكوف، في مؤتمر صحفي أمس الأول الثلاثاء، إن أردوغان أعرب في وقت سابق عن رغبته في التباحث مع بوتين حول التطورات الليبية، ودعا روسيا إلى التراجع عن دعم خليفة حفتر، مشيراً إلى أن محادثة هاتفية ستجري بين الرئيسين خلال الأيام المقبلة بهذا الشأن.

ويعلّق الباحث الليبي في العلاقات الدولية، مصطفى البرق، بالقول إن جملة من المستجدات تشير كلها إلى تغيرات وشيكة في الملف الليبي، مضيفاً في حديث إلى «العربي الجديد«، أنه «ليس من الصدفة أن يصدر تقرير خبراء الأمم المتحدة الذي جرَّم حفتر بشكل واضح في هذا التوقيت، تزامناً مع مواقف أمريكية وبريطانية جديدة شكَّلت دعماً للانخراط التركي في الملف الليبي بقوة».

ويرى البرق أن تقرير خبراء الأمم المتحدة، الصادر أمس الأول الثلاثاء، يحمل مضامين سياسية، من بينها الكشف عن تزويد الإمارات لحفتر بمنظومة «بانتسير إس 1» الجوية ذات الصنع الروسي، مؤكداً وجودها في الجفرة في مارس/آذار الماضي، وفي غريان في يونيو/حزيران، في وقت أكد فيه الجنرال ستيفن تاونسند، قائد «أفريكوم»، أنه يعتقد أن دفاعات روسية هي التي أسقطت الطائرة الحربية في سماء طرابلس، في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي.

ويرى أن  هناك مؤشرات كبيرة توجد في أرض الميدان في جنوب طرابلس، تؤكد تراجعاً من قبل داعمي حفتر عن تقديم الدعم العسكري له، سواء الإمارات أو روسيا، فاختفاء الطيران المسيّر الإماراتي والقناصة الروس يدلّ على شيء يحدث في الخفاء.

لم تقتصر التطورات في الأزمة الليبية على الموقف التركي الحازم الذي لوح بإرسال قوات لطرابلس، ولكن ظهر الدور الإيطالي واضحاً في دعمه لحكومة السراج، والذي عبّر عنه مجدداً بشكل لا لبس فيه وزير الخارجية الإيطالي لويجي دي مايو، عقب زيارته لليبيا ولقائه بالسراج وبحفتر بشكل منفصل.

فإيطاليا التي ينظر لها نسبياً أنها أقرب لليونان ومصر وقبرص في الخلاف مع تركيا حول غاز شرق المتوسط، خاصة أن شركاتها لها نصيب مفترض في التنقيب عن الغاز تقف في صفّ أنقرة بشكل واضح في الأزمة الليبية.

ويتعلق ذلك بعوامل عدة منها مصالح نفطية بالأساس، وكذلك بسبب دور حكومة طرابلس في التصدي للهجرة غير الشرعية.

وتدخل روما في منافسة شرسة في هذا الصدد مع فرنسا على ليبيا، والمفارقة أن الأخيرة رغم خلافتها مع روسيا بشأن أوكرانيا يقفان في نفس الصف المؤيد لحفتر.

اللافت أنه بعد مرور أيام على إعلان حفتر عزمه اقتحام طرابلس، بدت باريس أبرز داعميه الدوليين، وموسكو التي تدعمه بالمرتزقة تدعوان للدبلوماسية مجدداً.

فقد ذكرت وكالة الأنباء الروسية تاس الحكومية، في 17 ديسمبر/كانون الأول، أن رئيسي روسيا وفرنسا ناقشا الأزمة المستمرة في ليبيا، بالإضافة إلى سوريا وأوكرانيا عبر الهاتف.

وأكد فلاديمير بوتين وإيمانويل ماكرون على أهمية حل الأزمة الليبية من خلال الدبلوماسية.

ونقلت الوكالة عن الكرملين قوله «في هذا الصدد أكدت روسيا وفرنسا دعمهما للجهود التي تبذلها الأمم المتحدة وألمانيا للتوصل إلى تسوية سلمية».

الموقف نفسه اتخذته إيطاليا، فبعد أن جدّد وزير الخارجية الإيطالي لويجي دي مايو دعمه للمجلس الرئاسي الليبي، قال إنه لا يمكن أن يكون هناك حل عسكري للأزمة الليبية، وإن إيطاليا تدعم الجهود التي تتوسط فيها الأمم المتحدة لإيجاد حلول سياسية.

جاءت هذه التصريحات في اجتماع مع دي مايو مع رئيس المجلس الرئاسي فايز السراج في طرابلس مؤخراً، بحضور وزير الخارجية الليبي محمد سيالة، وسفير الاتحاد الأوروبي حفيظ غادور.

وقال دي مايو إن إيطاليا تأمل أن يؤسس مؤتمر برلين حول ليبيا بعض الوحدة تجاه الصراع المستمر بين جميع أصحاب المصلحة.

في المقابل، أشاد السراج بدعم إيطاليا لحكومته، وأضاف أن حكومته تتابع عن كثب الاستعدادات لمؤتمر برلين، قائلاً إنه ينبغي دعوة جميع الدول المرتبطة بالأزمة في ليبيا لحضور المؤتمر.

 وقال وزير الخارجية الإيطالي، في 17 ديسمبر/كانون الأول، إن بلاده مستعدة لإجراء محادثات مع تركيا وروسيا والولايات المتحدة، حول إيجاد حل للأزمة المستمرة في ليبيا.

ويبدو أن تعثر  جهود حفتر قد أعاد الأمل لمؤتمر برلين، وهذا أمر ليس بجديد.

فقد بدأ هجوم حفتر على طرابلس قبل سبعة أشهر في وقت كانت الأمم المتحدة تعد لمؤتمر شامل لتحقيق السلام في ليبيا، بل إن الهجوم بدأ والأمين العام للأمم المتحدة نفسه أنطونيو غوتيريش يزور طرابلس لوضع اللمسات الأخيرة على التسوية السلمية.

وسبق أن جاهر الأمين العام للأمم المتحدة باتهام حفتر بأنه هو الذي عطل العملية السياسية في ليبيا، وقال إن هجوم قواته على طرابلس بهدف السيطرة عليها تسبب في وقف العملية السياسية في ليبيا، وزيادة الخلاف الحاد داخل الساحة السياسية.

فحفتر ورعاته يعودون للعملية السياسية كلما تعثرت عملياتهم العسكرية، ثم لا يلبثون  أن يستغلوا التراخي الذي يحدث نتيجة العملية السياسية للبدء في عملية عسكرية جديدة.

ويبدو أن الرهان على مؤتمر برلين يزداد، في ضوء تعثر هجوم حفتر مجدداً، وباعتبار ألمانيا طرفاً محايداً نسبياً بين الطرفين الأوروبيين المتصارعين حول ليبيا؛ أي فرنسا وإيطاليا، (رغم أنه تقليدياً يُنظر لباريس وبرلين على أنهما أكثر قرباً ويقودان فعلياً الاتحاد الأوروبي).

كما أن ألمانيا ليست متورطة كأغلب الدول الأخرى في الصراع الليبي.

غير أن الحياد الألماني لا يعني بالضرورة النجاح، إذ إن برلين لا يتوقع أن تعاقب باريس حليفتها إذا أفشلت تسوية السلام ودفعت الأخيرة بحفتر لمغامرة عسكرية جديدة.

كما أن ألمانيا الميركلية أكثر مَن تتحدث عن المثل العليا، ولكنها الأكثر براغماتية، وأحياناً قسوة، مثلما فعلت مع اليونان في أزمتها المالية، فهل تستسلم برلين في مؤتمر المقترح لإغراءات علاقتها مع فرنسا، أم تكون وسيطاً محايداً؟.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى