آخر الأخباركتاب وادباء

جامع “رمضان شحاتة”

من ذاكرة اسكندرية

من روائع الأديب الكاتب 

المهندس/ محمود صقر

بعد أن انتهيت من الدراسة الابتدائية وتجاوز مرحلة الطفولة، عرفت طريقي برفقة “مجدي” لجامع “رمضان شحاتة”، مرورا بشارع “اسحق النديم” ومنه لشارع “القائد جوهر”، مستنشقين رائحة الخشب المنبعثة من ألواح الخشب المنتصبة أمام المحلات، والمحمولة على ظهور العربات الخشبية (الكارو) التي تقطع الشارع وتجرها الخيول، ومحلات تجارة الخشب تمثل عصب تجارة هذه المنطقة من الحي.
ومع دخول شارع القائد جوهر من جهة شارع إسحق النديم يظهر في الأفق تعانق برج الكنيسة المربع ترابي اللون، مع مئذنة الجامع الأسطوانية المزخرفة البيضاء؛ فالكنيسة والجامع متجاوران، ولا أذكر وجودا لكشك الحراسة البوليسية أمام الكنيسة إلا بعد عام 1981، وهو عام مقتل الرئيس السادات، ومجاورة الكنيسة للمسجد أمر مألوف في البلاد الإسلامية عبر التاريخ، ولم يكن كذلك في أوروبا مطلقاً عبر مختلف العصور، وبدأ فقط يظهر في أوروبا في القرن العشرين، باستثناء الدول الأوروبية التي كانت واقعة ضمن الإمبراطورية العثمانية.
لم يكن جامع رمضان شحاتة هو الجامع الأقرب لسكني، ولكنه كان ملتقى أصدقائي من جيراني في نفس البيت وأصدقائنا من الحي، ويعتبر المسجد من أكبر مساجد الحي، وتم بناؤه في الخمسينيات، وهو من المساجد المعلقة، الدور الأرضي أسفل منه مستغل كمحلات، ونصعد للدور الأول المخصص للصلاة بسلالم تفضي مباشرة لحرم المسجد، أو الاستمرار في الصعود للدور الثاني الذي كنا نفضل الجلوس به في صلاة الجمعة.


كان لجامع “رمضان شحاتة” تقاليد روحانية تركت أثرها في جيلنا الذي كان يتردد على هذا المسجد في صباه وشبابه، كانت تلاوة القرآن في الفجر والجمعات والمناسبات يتناوب عليها الشيخ “حسن” والشيخ “مرسي”، الشيخ “حسن” كان صوته هادئا رخيما مؤثرا، كنت أحبه وأنفعل معه كثيرا، وكان حسن التلاوة متقنا لها، وكان يُحسن توظيف الصمت وفتراته ومكانه من التلاوة، وفترات الصمت وأهميتها يدركها من يمتلك أذنا موسيقية وحسا فنيا وتذوقا لسماع تلاوة القرآن، وهي جزء أصيل من تمكن قارئ القرآن الكريم، وعلى رأس من يوظف الصمت في التلاوة في رأيي هو القارئ العملاق الذي لا يتكرر الشيخ “مصطفى إسماعيل”، أما الشيخ “مرسي” فقد كان حاد الصوت رتيب الإيقاع لا يغير المقام أثناء التلاوة؛ وهو ما كان يشعرني بعدم الارتياح كثيرا لتلاوته، وكانت الأذكار الرواتب عقب الصلوات بصوتيهما تثير مشاعر الروحانية والانسجام التام مع جو المسجد.
كان الشيخ “بكر” العالِم الأزهري الحريص على لبس الزي الأزهري هو الإمام الراتب للمسجد وخطيب الجمعة في السبعينات وبداية الثمانينات، وكانت خطبه في المناسبات معروفة ومحفوظة، فبعد سنوات من المداومة على الصلاة في المسجد صرنا نحفظ خطبة دخول شهر رمضان والهجرة والنصف من شعبان وجميع المناسبات، خطبة واحدة تتكرر كل عام، ثم انتقل الشيخ بكر في بداية الثمانينات إلى جامع المينا الشرقي، وعلمنا بعد سنوات قلائل أنه توفي أثناء إمامته للمصلين في المسجد، عليه رحمة الله.
ومن بداية الثمانينيات بدأ يتناوب على الجامع عدة خطباء معظمهم من علماء الأزهر، وكان من أطرفهم شيخ كان دائما ينتقد مظاهر عدم الاحتشام للنساء في الشارع، وفي أحد خطبه، خرج عن النص، وبالغ بشدة في وصف النساء الكاسيات العاريات، وبدأ يدخل في تفاصيل دقيقة عن وصف الساقين الملفوفتين العاريتين، والصدر الناهد المكشوف، والعود الملفوف مع القَد الممشوق، والخلفية الراقصة، وأنا و”مجدي” نتبادل النظرات والبسمات ونكتم الضحك ونحن جلوس في الطابق العلوي من المسجد، ومجرد نزولنا للشارع بعد أداء الصلاة نظر أحدنا للآخر وانفجرنا من الضحك ومجدي يقول لي: “حودة.. الخطبة كانت +18”!.
وكان ممن تناوب على الخطابة في المسجد عالم أزهري في منتصف العمر، سمعت منه خطبة تقدمية للغاية، وخارجة عن السياق المألوف للخطب، كانت خطبة عن جنود الخدمة أمام قبر الجندي المجهول في المنشية، كانت الخطبة اعتراضا على امتهان الإنسانية بتوظيف الجنود لأداء وقفات ثابتة وحركات رتيبة منتظمة ولفترات طويلة، وفي عمل غير مفيد وغير منتج وغير نافع، وفي عز الحر أو البرد والمطر من أجل تقليد لا أصل له في الشرع، وتأباه الرحمة الإنسانية بهؤلاء الجنود الذين لا تنفع معاناتهم الجندي المجهول، ولا غيره، واعتبرها الشيخ الجليل تصرفا يتنافى مع حقوق الإنسان.

كنا أيضا نصلي العيدين في جامع رمضان شحاتة لفترة طويلة، وفي منتصف الثمانينات بدأ تقليدا جديدا لصلوات العيد في اسكندرية مع بداية صلاة العيد في الخلاء، بدأت محدودة في استاد جامعة اسكندرية مقابل كلية الهندسة نهاية السبعينات ثم توقفت مع أجواء مقتل الرئيس السادات، ثم عادت كأول صلاة عيد عامة في الخلاء عام 1984 في شارع أبو قير أمام مسجد “عصر الإسلام” المواجه لمحطة قطارات سيدي جابر، وبعدها بدأ تنظيم الصلاة في استاد اسكندرية، وبدأ معها تقليد مسيرات من مساجد أحياء اسكندرية من مختلف المناطق تبدأ من بعد صلاة الفجر متوجهة على الأقدام نحو الاستاد، وكان مظهرا احتفاليا جديدا لم يكن معهودا في اسكندرية ولا عموم مصر قبل الثمانينات، وزاد من أهمية هذا الحدث حضور خطباء أعلام مثل الشيخ “محمد الغزالي” رحمه الله، وانتقلت هذه السنة لتنتشر في مدن العالم شرقه وغربه.
وضع هذا الجامع بصماته على شخصيتي وذاكرتي، وأصبح بالنسبة لي ذكرى تتجدد مع زيارته على فترات منذ غادرت الحي بالزواج عام 1990، وظل عطاء المسجد متجددا، وله في نفسي ذكرى روحية خاصة تتجدد مع ذكره.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى