سيدتي

جعلوا جاذبيتها مرتبطة بهرموناتها واخترعوا سن اليأس.. ما الأسباب النفسية التي جعلت المرأة تتجنب ذِكر عمرها؟

هكذا كانت عميلتي الجديدة في مركز الاستشارات النفسية.. وهكذا بدأت قصتها.. فأنا أحاول (في بعض الحالات) تجنب سؤال النساء عن أعمارهن الحقيقية في جلسات الاستشارات النفسية، لأني أعلم أن عمر المرأة له اهمية خاصة جداً في تصورها عن جمالها ونضارتها وخصوبتها وقابليتها للحياة، بل منحها  السخي للحياة.

لكن لدواعٍ علمية صممت هذه المرة أن أعرف عُمر العميلة التي أمامي (التي كانت تبدو في أواخر الأربعينيات).. وتوقعت (بالرغم من أنها تعلم أنه سؤال علمي بحت) أن تكون إجابتها واحدة من أربع: تجيب بكل ثقة.. أو تتوسط الأمور وتخبرني بمتوسط حسابي بذكر المرحلة عامة (الأربعينيات أو الخمسينيات مثلاً).. أو تخبرني بالرقم بوضوح ومباشرة (وهذا الاحتمال الأقل حدوثاً).. أو تراوغ كثيراً إلى أن تبدأ في فتح خزانة مشاعرها وتتدفق بالمشاركة الحقيقية الصادقة! 

وقد
كانت المرأة التي أمامي من النوع الأخير.. كما أنها واحدة من ملايين النساء
الجدادت حالياً رغم أنهن لم يتممن مرحلة الأربعينيات من العمر.. فقد كانت جدة
لطفلين بسبب زواجها المبكر نسبياً وزواج بناتها مبكراً أيضاً.. وهي تمثل قطاعاً
واسعاً حالياً من الجدات “الشابات” كما أسميهن.. فلم أسجل في استمارة
التعريف بالعميل وفي خانة العمر أي رقم.. لكنها راوغت في البداية، إلى أن نطقت
بالسن والرقم الحقيقي بعد نصف ساعة من الحوار! وكأن شيئاً ما داخلها قد صنع عداوة
بينها وبين الزمن! 

ربما السبب في أن الثقافة (الذكورية) أطلقت في الأربعينيات
والخمسينيات من القرن الماضي اسم “سن اليأس على المرحلة العمرية التي تجتازها
المرأة بعد انقطاع الدورة الشهرية وبدايات انخفاض مستويات الهرمونات داخل جسدها..
إنها أزمة منتصف العمر.. والتي سُميت بأسلوب رسّخ في عقل بعض النساء أنفسهن
الإحساس باليأس، وربما كانت عميلتي من هذه النوعية ذات الحساسية الخاصة تجاه الزمن.

وبالرغم
من تغير مسمياتها مع تغيّر أوضاع حياة المرأة، وتعدد مسؤولياتها وإقبالها على
الحياة، إلى أسماء عدة مثل: سن العطاء، سن النضج، سن العقل، سن الخبرة.. فإن
المجتمع الشرقي تحديداً نجح في زرع الفكرة داخل عقل المرأة -لدى البعض- بأن خصوبتها
مرتبطة بخصوبة هرموناتها! فما
بالنا لو أضيف إلى ذلك نظرة المجتمع إليها بعد أن صارت جدة لأحفاد بدأوا يتزايدون
بسبب زواج مبكّر نسبياً لأولادها؟!

لذلك
وجدت نفسي أفكر كيف أحوّل الدفة من فكرة خصوبة الهرمونات إلى خصوبة الأفكار لدى
تلك العميلة؟

وكيف
أنها مازالت شابة رغم كونها “جدة”.. وباعتباري أعالج نفسياً بشكل أساسي
بالعلاج المعرفي السلوكي (CBT) الذي يقوم أساساً على
تغيير أفكار الشخص وبالتالي إمكانية تغيير حياته بأسرها.. فكّرت في طرح المسميات
الجديدة لأزمة منتصف العمر وما بعد انقطاع الطمث، وذاك ضمن سياق النقاش تدريجياً
فيما يخص مشكلتها الحقيقية.. لكنني لاحظت ارتداءها سلسلة ذهبية راقية جذابة..
فوجدت طرف الخيط كي نذهب معاً إلى فكرة الذهب كمعدن نفيس لا يخضع لسطوة الزمن
والاسم الحالي الذي يطلق على أزمة منتصف العمر لدى المرأة بأنها “السن الذهبية
Golden Age التي تعني الكثير.. فهي قمة النضج واللمعان
والبريق والأصالة. فهل يمكن لتلك المرأة “الجدة الشابة” أن تعيش أزمة
منتصف العمر أو تلك المرحلة باعتبارها مرحلة “ذهبية” تعيشها بكل فرح
ومرحلة الاحتفال الحقيقي بالحياة من جديد؟!

ذلك
كان التحدي بالنسبة لي.. أن تصل هي بقناعتها الشخصية إلى أن سن اليأس الذي عفا
عليه الزمن كمسمى ومفهوم قد تغير إلى السن الذهبية.

العمر
والزمن يعيش فينا أكثر مما نعيش في أيامه وساعاته وسنينه.. وهذه المرحلة الحرجة من
عمر المرأة هي “سن الذهب”؛ لأنها فرصة ذهبية لأن تكون فترة تحوّل قوية..
فيها تختبر المرأة ما لم تختبره من قبل، بقوة وطعم جديد ومذاق للحياة مختلف.. مثل
الدخول في علاقة حب جديدة.. مشروع ارتباط زواج جديد.. البحث والالتحاق بوظيفة
جديدة.. إعادة اكتشاف الإمكانات الشخصية. وكأنها نوع من “نيو لوك العقل”
و”نيو لوك القلب” و”نيو لوك الجسم”.. الثلاثة معاً بشكل
متوازن.. وليس فقط “نيو لوك الوجه” الذي صار هوس العالم والسوشيال
ميديا.. فالمطلوب في هذه الأزمة ليس فقط مجرد تغيير الشكل بل تغيير الأفكار
والمشاعر والنظرة إلى الحياة، بل النظرة إلى الذات.. فالتجديد والتغيير الحقيقيان
يأتيان من التجديد في العقل والمشاعر والسلوك معاً.

في
دراسة حول المرأة وسن الأربعين وتأثير ذلك على نفسيتها، هناك امرأة تدعى
“جين” تحكي قصتها بأنها بدأت حياتها الفعلية عند سن الأربعين! فقد قابلت
رجلاً أحبها وهي في عمر التاسعة والثلاثين، وتزوجته في الأربعين، وأنجبت في
الواحدة والأربعين، والتحقت بوظيفة جديدة في سن الثالثة والأربعين.. وهكذا كانت
البدايات الحقيقية لحياتها عند نهايات الثلاثينات!

امرأة
أخرى تدعى “سارة” تحكي كيف أنها عند سن الأربعين بدأت تحقق طموحها
الأكاديمي القديم الذي اختفى بسبب الزواج والأولاد، لكن عاد مرة أخرى وبقوة لكي
تقوم بدراسات عليا من ماجستير ودكتوراه، ثم عُينت بإحدى الجامعات العربية لتدرِّس
مادة علم الجمال بعد الأربعين!

لكل
جدة “شابة”: عمرك الحقيقي معلّق في سلسلتك الذهبية.. فهو عمر الذهب الآن.

ملاك نصر حاصل على دكتوراه في الفلسفة بالإرشاد النفسي من جامعة فيجنت كاليفورنيا، أستاذ علم النفس الإرشادي بجامعة فيجن مكتب الكويت. أعمل بالكويت استشارياً نفسياً ومدرب حياة. استشاري نفسي على موقع Shezlong. مدرب الإرشاد النفسي واللايف كوتش في مصر والكويت ودول عربية. مؤلف كتاب “الجمال في زمن القبح”. كاتب صحفي في بعض الدوريات العربية في مجال العلاقات وعلم النفس والفنون.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

المصدر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى