ثقافة وادب

خوفاً من بريطانيا وبسبب تورّطها بحرب مع العثمانيين، قررت روسيا بيع ألاسكا لأمريكا.. قصة إحدى أغرب صفقات التاريخ!

قد تعلم قصة بيع ألاسكا، الولاية الروسية ذات المساحة الشاسعة إلى أمريكا مقابل 7.2 مليون دولار، أي ما يقارب حوالي سنتين أمريكيين فقط لكل فدان!

ومن الواضح أن أمريكا كانت الطرف الرابح تماماً في هذه الصفقة، فبعد 50 عاماً من البيع، ولّد جنون الذهب في ألاسكا أكثر من مليار دولار من الثروة الجديدة لأمريكا. وزاد من أرباحها أيضاً وفرة الأخشاب والسلمون والنّفط في أراضيها.

فضلاً عن ذلك، أصبحت ألاسكا من الممتلكات الاستراتيجية للجيش الأمريكي بعد اندلاع الحرب الباردة بينها وبين الاتحاد السوفييتي بعد الحرب العالمية الثانية.

نشر موقع HowStuffWorks الأمريكي موضوعاً يتناول السياق الدولي والعالمي الذي دفع الروس لبيع ألاسكا إلى الأمريكان وليس للكنديين.

فلماذا تخلى الروس عن هذه المنطقة الثرية؟ ولماذا لم يبيعوها لكندا، التي على عكس جارتها أمريكا تقع فعلياً على حدود ألاسكا؟

وللإجابة على هذه الأسئلة ووضع الإجابة في سياقها العالمي علينا أن نعود بالتاريخ إلى القرن التاسع عشر حين اندلعت حربٌ باردة ولكنّها هذه المرة ليست بين أمريكا والاتحاد السوفييتي. أطلق المؤرخون على هذه الحرب مصطلح “اللعبة الكبرى“. وقد شارك في هذه “اللعبة” تقريباً كل عروش العالم في تلك الفترة، سواء القويّة منها أو الضعيفة!

بينما انشغلت فرنسا لبعض الوقت بنتائج وآثار الحروب النابليونية التي انتهت عام 1815، كانت بريطانيا تتربّع على عرش العالم باعتبارها القوّة التي لا تُقهر. لكنّ هذه القوّة التي لا تُقهر كان لها منافسون أشداء أيضاً، وإن لم يكونوا بنفس قوّتها، فعلى الأقل يستطيعون تهديدها بقوة.

وعلى رأس هذه الدول المنافسة كانت روسيا القيصريّة.

بالرغم من صلة القرابة التي تربط العائلتين الملكيّتين في روسيا وبريطانيا إلا أنّ العداء والتنافس بينهما كان هائلاً.

تمثّلت اللعبة الكبرى بالنسبة لبريطانيا في منع روسيا من الوصول لمكانين رئيسيين:

1- الهند: كانت الهند تسمّى “درّة التاج البريطاني”، وهي المستعمرة الأهمّ والأغنى لبريطانيا. ليس فقط بسبب إنتاجها التوابل -أهم منتج عالمي في تلك الفترة- وإنما لأنّ الجيش البريطاني المكوّن من الهنود كان يزيد عن ربع مليون مجنّد.

2- ألا تصل روسيا إلى المياة الدافئة في البحر المتوسّط، ولهذا دعمت بريطانيا الدولة العثمانية على الرغم من ضعفها في تلك الفترة. لأنّها الإمبراطورية الوحيدة التي لها حدود مباشرة مع الإمبراطورية الروسية، وبينهما عداء طويل.

بدأت اللعبة الكبرى عام 1813 واستمرت قرناً من الزمان، إلى عام 1907. كانت أولويات السياسة الخارجية البريطانية تستدعي منع روسيا من الوصول إلى الهند وكذلك من الوصول للبحر المتوسّط.

لهذا كانت أفغانستان مقراً للصراع البريطاني الروسي لأنّ الذي يسيطر عليها يستطيع تهديد الهند. وكذلك بقيّة آسيا الوسطى المليئة بالمسلمين (إيران وقيرغيرستان وأوزبكستان وغيرها من دول بحر قزوين).

وهكذا من المنطقي وفق هذا السياق أن تكون إمبراطوريتا روسيا وبريطانيا العظمى عدوتين.

أرادت كلّ واحدةٍ منهما توسيع نفوذها في آسيا الوسطى، وكذلك على الضفّة الأخرى من العالم في المحيط الهادئ (حيث أمريكا وكندا وما يطلق عليه العالم الجديد).

وهكذا ولدت الخصومة بينهما. وأشعل هذا العداء العديد من الصراعات العسكرية أو زاد من حدتها، وكان أبرز هذه الصراعات حرب القرم (1853-1856)، عندما بدأت روسيا القيصرية حملة على الدولة العثمانية.

حارب العثمانيون الروس سنةً كاملةً وحدهم، ولكنّهم استطاعوا إدخال بريطانيا وفرنسا وإيطاليا الحرب معها، وهكذا انتهت الحرب بهزيمة روسيا هزيمةً قاسية كانت أثارها ضخمة على الدولة عسكرياً. وحسب بعض التقديرات، فقد بلغت خسائر الإمبراطورية القيصرية حوالي 800 ألف ضحية أو أكثر!

ورغم أن هذه الحرب كانت مقتصرةً على أوروبا وآسيا، فقد كان لها تداعياتٌ كبيرة وصلت المحيط الهادئ البعيد. ومن هذه التداعيات أنّ مستقبل تلك الأرض السحرية، ألاسكا، أصبح موضع نظر.

في أعقاب عقودٍ طويلة من الاستكشاف، استولت روسيا على ألاسكا عام 1741. وأنشأت فيها أولى مستعمراتها بأمريكا الشمالية في 3 أغسطس/آب عام 1784.

أُنشِئَت تلك المستعمرة على يد شركة Shelikhov-Golikov Co، إحدى منظّمات تجارة الفراء العاملة في المنطقة ظاهرياً -بالنيابة عن الإمبراطورية الروسية القيصرية. وفي عام 1799، دمج القيصر بافل الأول العديد من تلك المنظمات تحت اسم Russian-American Co. وبتحوّلها إلى تكتلٍ تجاريٍّ ضخم ونافذ، حصلت المنظمة على احتكارٍ تجاري لموارد منطقة ألاسكا. كما كُلِّفت بإنشاء مستعمرات جديدة وتوسيع وجود روسيا فيما يطلق عليه العالم الجديد (الأمريكتان).

من هذا المنطلق، أمر مدير المنظمة أليكساندر بارانوف رجاله أن يجوبوا الأنحاء وصولاً إلى شمال كاليفورنيا، حيث أنشأوا موقعاً يُدعى فورت روس في الثاني من فبراير/شباط عام 1812.

كانت رُؤية منظمة Russian-American Co الكبرى لهذا الموقع هو أن يصير بمثابة مركزٍ زراعي كبير، ستكفي محاصيله حاجة مستوطنيه الروس وأولئك المُقيمين في ألاسكا.

ومع ضمان إمداداتهم الغذائية، ستصير مهمّة المستعمِرِين داخل الموقعين أسهل في حصد السلعة الأكثر ربحية في المحيط الهادئ: جلود القضاعة البحرية (ثعلب الماء). إذ كانت جلود تلك الحيوانات هي شريان حياة الاقتصاد الروسي-الأمريكي، لأنّ قيمتها كانت أكبر بكثير من جلود فقمة الفراء.

لسوء الحظ، لم يكُن الإنتاج الزراعي في موقع فورت روس كافياً على الإطلاق. وازدادت الأمور سوءاً لأنّ صائدي الفراء الروس اصطادوا حيوانات القضاعة البحرية بشكلٍ مبالغٍ فيه، لدرجة أنّ الحيوانات اختفت تقريباً من منطقة شمال المحيط الهادئ. لذا تخلّى الروس عن منطقة فورت روس، وباعوها لأحد سكان الحدود الأمريكيين عام 1844.

اندلعت حرب القرم بعدها بعشر سنوات (1853) وفيها أصبحت ألاسكا مُهدِّدةً بأن تصير عبئاً على الإمبراطورية الروسية المنهزمة.

ففي حال قرّر البريطانيون غزو ألاسكا فسوف يُواجه الجيش الروسي المنتشر على نطاقٍ واسع صعوبةً في حمايتها. لكنّ ذلك الهجوم لم يحدث أبداً، إذ اختار البريطانيون البقاء خارج ألاسكا خلال حرب القرم.

لكن العديدين في حكومة القيصر تساءلوا حينها عن الحكمة وراء التمسُّك بمستعمرةٍ نائية وقليلة السكان مثل ألاسكا، بينما بدأ مصدر دخلها الرئيسي (جلود القضاعة البحرية) في النفاد.

وازدادت الأمور سوءاً بسبب تعدّي سفن صيد الحيتان البريطانية والأمريكية المتكرر على المياه الخاضعة لسيطرة منظمة Russian-American Co الروسيّة، مما زاد من تعقيد الموقف برمته.

في أواخر خمسينيات القرن الـ19، بدأت روسيا تفكِّر في بيع ألاسكا. وتحت ظروفٍ مُختلفة، كانت مقاطعة كندا ستبدو خير من يشتري المنطقة، نظراً لحدودها الممتدة مع ألاسكا بطول 2,475 كم.

لكنّ كندا لم تكُن محكومةً ذاتياً حينها، وكانت لا تزال تحت السيطرة المُحكَمة لبريطانيا العظمى. وبالتالي فإنّ تسليم ألاسكا للكنديين كان سيمنح بريطانيا قطعة شطرنجٍ إضافية في “اللعبة الكبرى” على طبقٍ من ذهب.

ولكن لحسن حظ روسيا، ظهر مُرشّحٌ أفضل. فأثناء حرب القرم، وجدت الإمبراطورية الروسية حليفاً غير متوقّع. إذ كانت الصحف الأمريكية داعمةً بشدة للقضية الروسية.

إلى جانب الدعم المعنوي، زوّدت الولايات المتحدة جنود القيصر بالأسلحة والإمدادات الأخرى، رغم أنّ حكومة الولايات المتحدة كانت تقف على الحياد رسمياً.

كانت أمريكا في تلك الفترة قوّةً فتيّة، تحاول النهوض والمنافسة في السياسة العالمية، ولم يكن أحدٌ يعلم حينها أنّ أمريكا وروسيا ستصبحان عدوّتين لدودتين وتقوم بينهما حربٌ باردة في القرن العشرين تشبه اللعبة الكبرى التي قامت بين روسيا وبريطانيا في القرن التاسع عشر.

في ذلك الوقت كانت روسيا القيصرية وأمريكا تنظران إلى الإمبريالية البريطانية باعتبارها تهديداً مباشراً لكلتيهما.

نتيجةً لإدراكهما ذلك سمحت روسيا لمبعوثها إلى أمريكا البارون إدوارد دي ستويكل أن يتقرّب إلى قادة الجمهورية الأمريكية بعرضٍ لبيع ألاسكا في عام 1854. لكنّ الصفقة لم تمُر، وتوقّفت المشاورات الجادة حول المسألة حتى انتهاء الحرب الأهلية الأمريكية عام 1865.

وكان وزير خارجية الرئيسين أبراهام لينكولن وأندرو جونسون هو الدبلوماسي المُخضرم ويليام سيوارد الذي كان يُبشّر دائماً بمزايا ألاسكا منذ سنوات، داعماً موقف ضمّها لأمريكا.

وفي عام 1867، وقّع مع المبعوث الروسي ستويكل صفقةً تستحوذ بموجبها أمريكا على ألاسكا مقابل 7.2 مليون دولار. وفي التاسع من أبريل/نيسان ذلك العام، صادق مجلس الشيوخ على الصفقة، رغم أنّ الكونغرس لم يُخصّص الأموال لإنهاء الصفقة حتى عام 1868.

وفي 18 من أكتوبر/تشرين الأول عام 1867 صارت ألاسكا رسمياً أرضاً أمريكية. ومنذ عام 1911، يحتفل سكانها بذكرى الحدث على أنّه عطلةٌ كبرى يُطلقون عليها اسم: “يوم ألاسكا”.

المصدر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى