الأرشيفكتاب وادباء

دعوة إلى حلف الفضول العربي الحديث

من روائع الأديب الكاتب
السعيد الخميسى
* مع أننا اليوم نعيش فى عصر الحضارة والمدنية والعلم والتقدم والتكنولوجيا إلا أننا لم نصل بعد إلى ماوصل إليه العرب فى عصر الجاهلية  الأولى بعد نجاحهم فى تشكيل وتكوين ” حلف الفضول ” والذي أثني عليه الرسول صلى الله عليه وسلم قبل البعثة المباركة . لقد تراجعنا آلاف السنين إلى الوراء على الأقل من الناحية الأخلاقية  والسياسية والسلوكية . انتشرت السرقة وعم النهب وساد الاختلاس  بين الناس وقبل كل ذلك صارت الدماء ماء وأصبحت حياة  الإنسان لا تساوى جناح بعوضة . قد تخرج من بيتك إلى عملك فى الصباح فتعود فى المساء محمولا على الأعناق إلى مثواك الأخير بلا ذنب أو جريرة . لا تدرى لماذا قتل القاتل وبأى ذنب قتل المقتول ؟ إنها فوضى الدماء التى ملأت الشوارع والطرقات ,وصارت  مواكب الجنازات أكثر من مواكب الأفراح , وارتسمت علامات الحزن على الوجوه , وخيم الصمت على الجميع , وبلغت القلوب الحناجر ولما لا ؟ وقد ارتفعت الأيدي التى تحمل الخناجر. أما الأيدي التي تحمل الورود فقد بالت عليها القرود وعضتها الكلاب السود..ّ! .
* لا ينكر أي باحث منصف أن ” حلف الفضول ” فى عصر الجاهلية كان  ضوءا مشعا فى نفق الجاهلة المظلم . كما أنه كان بمثابة ” شهادة ” على أن أهل الجاهلية كان عندهم بقية من أخلاق لو توافرت فى كثير من نخبتنا ومثقفينا وخبرائنا الذين يتصدرون المشهد اليوم لكان خيرا لهم وأقوم . ولا أدل على ذلك من أن الرسول صلى الله عليه وسلم أشاد به حين قال عنه :” لو دعيت إليه في الإسلام لأجبت ” . وهذا دليل قاطع وبرهان ساطع على أن عصر الجاهلية لم يكن كله شر محض , وعصر الحضارة والمدنية ليس كله خير محض..!. فالجسد السقيم لايخلو من عضو سليم , والنفق المظلم المعتم  قد تكون فى نهايته إشارة ضوء حتى ولو كانت خافتة باهتة . وإنما يقاس الفرق بين الجاهلية والمدنية بقدر انتشار قيم الخير والحق والحرية وصيانة حقوق الإنسان فى عالم ساد فيه  , بل وغلب عليه ثقافة النسيان وألسنة لا تجيد غير الثرثرة والهذيان وعبادة الأوثان غير تلك التى كانت فى الجاهلية الأولى..! . أين انتم يا نخبتنا المثقفة اليوم من فوضى إراقة الدماء التى فاضت بها السيول والأودية ؟ هل خرست ألسنتكم أم ماتت عقولكم وتجمدت قلوبكم فى ثلاجة دفن الموتى ؟
 *  ونذكركم  بقصة ” حلف الفضول الجاهلى ” والتى تعود قصته فى عصر الجاهلية الأولى إلى أن رجلا غريبا  من  ” بني أسد بن خزيمة ” قدم أرض مكة بتجارة فاشتراها منه العاص بن وائل السهمي وكان سيدا فى قومه غير أنه أبى أن يدفع ثمن تلك البضاعة فاستجار الرجل ببعض سادات قريش ولكنهم رفضوا مساندته ومساعدته لمكانة ” العاص ” بينهم . فتفتق ذهن الرجل الغريب عن فكرة فعالة وهى الذهاب إلى مكان اجتماع عشائر مكة عند ” البيت ” وانشد شعرا حرك فيهم مكنونات المروءة وآثار فيهم نعرات الشهامة وحرك فى دمائهم عصبية القبلية التي كانت تغلي فى عروقهم . فما كان منهم إلا أنهم اتفقوا فيما بينهم على تشكيل ” حلف الفضول “ وقرروا فيه على ألا يجدوا بمكة مظلوما من أهلها أو غيرها ممن دخلها من سائر الناس إلا قاموا معه وكانوا معه على من ظلمه حتى ترد إليه مظلمته…! إن ظلام الجاهلية الذي كان يلف سماء مجتمعهم لم يمنعهم من نصرة الحق حتى ولو من باب المروءة والشهامة وحفظا لماء وجه القبيلة . فأين نحن اليوم من هذا الحلف لرد المظالم إلى أهلها ووقف نزيف الدماء ورفع منسوب قيمة الإنسان فى محيط متلاطم الأمواج من الفوضى وسوء الأخلاق وكثرة النزاعات  والشقاق بين فصائل المجتمع وشرائحه المختلفة . كل يبكى على ليلاه وهم لا يدرون أن ليلى قد ماتت ولم يعد يفيد عليها النواح ولا البكاء .
* واليوم نحن  فى عالمنا العربي المنكوب فى حاجة ماسة وملحة وعاجلة إلى أن نرتقي سياسيا وأخلاقيا وسلوكيا لنجتمع سويا على كلمة سواء  كما اجتمعت قبائل وعشائر مكة لنضع ميثاق شرف مشترك للعمل السياسي والإعلامي  والأخلاقى على ألا يظلم أحد , ولا يسب أو يهان أحد , أو يهدر دماء برئ بغير ذنب جنته يداه , أو يسجن مواطن بغر تهمة أو جريمة ارتكبها . إن شيوع الفساد وترنح البلاد ويأس العباد لا يعنى مطلقا خلو الوطن من الفضائل , ولا يعنى أبدا أن الشعب كله قد فسد . ولا يعنى أبدا أن الرذائل فيه تحكمت والمصائب فيه تغلغلت وأن طرق الإصلاح قد تبددت وأن سبل لم الشمل قد تآكلت..! كلا… وألف كلا….فالخير فى نفوس هذه الأمة باق وإن طغت أمواج الشر على بحر الحياة . والأمة لن تخلو يوما من الرجال . ففى هذه الأمة  مناجم للرجال كمناجم الذهب لا يحجبهم عنا إلا غبار الزمن . فلا تجعلوا اليأس يتسرب إلى النفوس الضعيفة كما يتسرب الماء إلى أسفل السفينة فيغرقها فى قاع البحر . أمتنا مازالت وستظل بخير وإن أصابها المرض فى بعض أجزاء بدنها . فالمؤكد أنها ستنهض يوما ما لأن أرحام الأمة قادرة على إنجاب الرجال العظام القادرين على انتشال الأمة من كبوتها وغفلتها .

*

 لقد نجح أهل الجاهلية الأولى فى عقد ” حلف الفضول ” الذى تعاهدوا فيه على ألا يظلم بينهم احد كائنا من كان…! فهل نعجز اليوم ونحن فى زمن الحضارة عما فعله الجاهليون فى عصر الحجارة..؟ هل نعجز اليوم ونحن فى عصر المدنية عما فعله وأنجزه أهل الجاهلية ..؟ هل نعجز اليوم ونحن نعبد الله الواحد الديان أن نفعل كما فعل من كانوا يعبدون الأوثان…؟ هل نعجز اليوم ونحن فى عهد التقدم والحرية أن نصل إلى ما توصل إليه من كانوا يعيشون فى عهد الرق والعبودية…؟ بالله علينا جميعا … ألا نستحي من أنفسنا..؟ إن  “حلف الفضول ” يكشف النقاب عن وجه الحقائق الدامغة والبراهين الساطعة أن المجتمع  – أي مجتمع – وإن اسودت صفحاته وزلزلت أركانه وخلخلت أعتابه ودقت عظامه وانتشرت فيه الرذيلة واندثرت فيه الفضيلة , لا يخلو يوما من النبلاء الشرفاء الأسوياء الذين لايطأطؤون رءوسهم إلا للحق ولا يذعنون إلا للعدل ولا يتحركون إلا للنشر القيم والأخلاق ونصرة المقهور المظلوم  ووقف إراقة الدماء البريئة .
*  نعم أدعو إلى ” حلف الفضول العربى ” ننص فيه نصا قاطعا واضحا حاسما ألا نسمح لأحد أن يظلم أو تسفك دماؤه أو ينتهك عرضه أو تسلب ممتلكاته أو يحرق بيته حتى لانخرب بيوتنا ووطننا وبلدنا بأيدينا . فلسنا أقل مروءة وشهامة ورجولة وغيرة وحمية من أهل الجاهلية الأولى . لو دافعت كل شريحة عن أيدلوجيتها فقط وتركو الوطن نهبا للناهبين فلن تنتصر أيدلوجيتهم ولن تقوم للوطن قائمة إلى يوم الدين . لا بد أن يتراجع الجميع خطوة للوراء ويقدموا مصلحة الوطن الكلية فوق مصلحة النخبة الفرعية . أكرر للمرة الأخيرة أن المصلحة العامة مقدمة على المصلحة الخاصة , ومصلحة الوطن مقدمة على مصلحة الفرد , وراية الوطن مقدمة على راية الأحزاب . ومصلحة الوطن اليوم تقتضى تقوية وتدعيم قيم الحق والعدل والحرية ووقف نزيف الدماء حتى يعم الخير ويندثر الشر ويصبح حق المواطن فى حياة حرة كريمة حق أصيل له وليس منحة من فرد أو حزب أو هيئة أو جماعة . لان من يملك المنح يملك المنع .
فهل إلى تشكيل ” حلف الفضول العربى ” من سبيل ؟ إنا لمنتظرون  ….! .

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى