آخر الأخبار

دفعت “تحويشة عمري” فلماذا يعاقبونني بدلاً من المالك؟ غضب وارتباك في مصر بسبب قانون “التصالح”.. الدفع أو هدم مساكنهم “المخالفة”

حالة من الغليان تجتاح الشارع المصري بعد تفعيل قانون التصالح في مخالفات البناء، الذي تم إقراره بناءً على رغبة الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، وبالفعل بدأت المحافظات تتلقى مقدم التصالح من المواطنين الذين تقدموا بملفاتهم خلال الفترة الماضية، في المهلة التي حدَّدتها الدولة حتى 30 سبتمبر/أيلول المقبل.

انتشرت العديد من الفيديوهات لحملات حكومية تقوم بإزالة العديد من المباني المخالفة، في “استعراض قوي” يبعث برسالة للجميع بأن مَن لا يدفع ما تريده الحكومة من غرامات سيكون مصيره مثل مصير تلك العمارات التي تمت إزالتها.

د. مصطفى مدبولي رئيس مجلس الوزراء، كان قد وافق في السابع من يوليو/تموز الحالي على تفعيل أحكام القانون رقم 17 لسنة 2019 بشأن التصالح في بعض مخالفات البناء، وتقنين أوضاعها من خلال تقديم طلب، ومبلغ جدية تصالح، وذلك بعدما استغرق الأمر ما يقرب من نحو 4 سنوات من المناقشات المطوّلة.

وتم الاتفاق على سداد المخالف 25% من قيمة غرامة التصالح تتراوح بين 5 آلاف جنيه لمخالفات الرسوم المعمارية في القرى (أدنى قيمة للغرامات المقررة)، و250 ألف جنيه غرامة التصالح في مخالفات البناء من دون ترخيص في عواصم المحافظات والمدن الجديدة.

قرار مجلس الوزراء لم يوضح مَن سيتحمَّل قيمة المخالفات، هل مالك العقار أم الساكن؟ وما العمل إذا كان المالك متوفياً أو هاجر أو هارب، وكيف سيكون التصرف في حال تسديد شقة للغرامة المطلوبة ورفض الجار في نفس الطابق السداد، فهل سيهدمون الشقة المتقاعس صاحبها عن السداد ويتركون الشقة التي تم تسديد ما عليها؟

لكن وزارة التنمية المحلية أكدت في بيان لها “أن ملاك العقارات المخالفة مسؤولون جنائياً عن المخالفات، باعتبار أن محضر المخالفة المحرَّر مسجل به بيانات صاحب العقار المخالف أو مَن يمثله قانوناً.

مشيرة إلى أن قانون التصالح في بعض مخالفات البناء ولائحته التنفيذية، يتيح لصاحب الشأن أياً كان (مالك الشقة- اتحاد شاغلين…) تقديم طلب التصالح على الوحدات السكنية المخالفة، أو وحدة سكنية من العقار المخالف، لكن ذلك لا يعفي صاحب العقار الأصلي من المساءلة الجنائية ومحاسبته.

المتابع للقضية من بدايتها يرى أن ما يحدث الآن كان متوقعاً، فقد صرّح الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، في يونيو/حزيران من عام 2017، أن “من يُرد تقنين مخالفاته فليأتِ ومعه حقائب النقود”.

عندما صادق البرلمان على قانون “التصالح في مخالفات البناء” الذي قدّمته الحكومة بهدف تنظيم إجراءات تقنين المباني المخالفة مقابل دفع غرامات قُدرت في ذلك الوقت بـ200 مليار جنيه يدفعها المخالفون لخزينة الدولة، وبدا المبلغ معقولاً بالنظر لحجم مخالفات البناء التي زادت بنسب مخيفة في السنوات الأخيرة من حكم الرئيس الأسبق حسني مبارك، بسبب فساد المحليات، ثم استشرت في سنوات الانفلات الأمني التي تلت الإطاحة بحكمه.

كشف النائب إسماعيل نصر الدين، عضو لجنة الإسكان، أن هناك نحو 3 ملايين و500 ألف مخالفة بناء في مصر (أساسات، أسطح، واجهات، وكل أنواع المخالفات)، ولم يتم التصالح سوى في 217 ألفاً فقط، لافتاً أن قيمة تلك المخالفات تُقدّر مالياً بنحو 200 مليار جنيه، معتبراً أن مَن يُهدر هذا المبلغ هو عدو للوطن وخائن لمصر وللشعب المصري.

ووفقاً لبيان صادر من وزارة التنمية المحلية، فإنَّ هناك 121 ألف عقار مخالف على مستوى محافظات الجمهورية، الأمر الذي بات يشكل خطورة كبيرة على الثروة العقارية في مصر.

لكن يبدو أن ما دفع الحكومة للتسريع بتفعيل العمل بالقانون الذي أقره مجلس النواب المصري قبل أكثر من عام هي تصريحات المهندسة نفيسة هاشم، وكيل أول ورئيس قطاع الإسكان والمرافق في “وزارة الإسكان والمرافق والمجتمعات العمرانية”، عن أن المبالغ المحصلة من غرامات التصالح بلغت نحو 29 مليوناً و860 ألف جنيه فقط، على مستوى الجمهورية، وهو رقم هزيل يبتعد كثيراً عن الرقم المنشود.

مخالفات البناء تطوّرت على النحو التالي، قبل العام 2008 (لا غرامة ولا إزالة)، ومن العام 2008 وحتى 2017 (غرامة)، أما بعد يوليو/تموز من العام 2017 (فإزالة حتى لو كان العقار به سكان)، علماً أن مهلة التصالح تنتهي في 30 سبتمبر/أيلول 2020.

يرى متضرِّرون أنَّ قانون التصالح مخالف بالأساس للمادة 95 من الدستور المصري، التي تنص على أن ‏(العقوبة شخصية، فلا جريمة ولا عقوبة إلا بناء على قانون، ولا توقع عقوبة إلا بحكم قضائي، ولا عقاب إلا على الأفعال اللاحقة لتاريخ نفاذ القانون).

يقول طارق محمد، وهو أحد المتضرِّرين، حيث يسكن بأحد الأدوار المخالفة بعمارة بمنطقة فيصل بحي الهرم، التابع لمحافظة الجيزة “‏لماذا يحاسبوننا، هل لأننا اعتمدنا على أنفسنا ووفّرنا مسكناً آدمياً ولم نحمّل الدولة مسؤوليتنا ولم نطالبها بتوفير مسكن لنا، إن كنا تعرضنا لعملية نصب فأين دور الحكومة في حمايتنا، ولماذا سمحت لتلك البنايات بمخالفة القوانين، بل وتمدها بالكهرباء والغاز والمياه؟! 

يجب محاسبة وزير التنمية ورؤساء المحليات والمهندسين والموظفين وكل من ساهم في خروج تلك البنايات للنور”.

العقارات التي دفع فيها عشرات الآلاف من المصريين كل ما يملكون نظير امتلاكهم شققاً تمثل بالنسبة لأغلبهم “تحويشة العمر”، فهدم العقارات لا يمثل إلا ضربةً قاضيةً لهم ولأحلامهم بامتلاك عقار أو بيت.

يصمت الرجل الخمسيني لبرهة، ثم يضيف بانفعال لا إرادي “يقولون إنهم سوف يسجنون المقاول، فما الذي يمكن أن نستفيده نحن كسكان من سجنه، الغرامة ستظل قائمة، ومطلوب منا أن نسددها نيابة عنه، بل الأسوأ أنه في حال سجن المالك فلن نملك أملاً ولو كاذباً في أنه يمكن أن يساهم في دفع الغرامة، لأنه في السجن أصلاً، فما الذي سيخسره في حالة عدم الدفع؟!”

ويستكمل بنبرة أكثر انفعالاً “حكومتنا الرشيدة لا تنقصها الحيل لكي تستنزف ما في جيوبنا أكثر من تفكيرها في مسؤولياتها”.

#لا_لقانون_التصالح_معناش_فلوس
ياريت نبطل تطبيل علي حساب ناس هتترمي
جريمتنا ايه؟…اشترينا شقق خالصة معلهاش مشاكل ولو عليها مشاكل الحي سبها تتبني ليه؟..والمرافق كلها قبضت المقايسة بمئات الالاف ودخلت كهرباء ومياه وغاز
يبقي مشكلتنا ايه؟ pic.twitter.com/JPtfNp9mRl

من جانبه رصد “عربي بوست” الحالة في شارع “فرعون”، أحد الشوارع المؤدية لعقار حلمية الزيتون، الذي سأل الرئيس عبدالفتاح السيسي عمن منحه ترخيص البناء، وبدأت أجهزة الدولة عقب ذلك بإزالة الأدوار المخالفة به، حيث يوجد الطوق الأمني الذي تم فرضه حوله، والذي كان يمنع الناس من الاقتراب أثناء عملية الهدم، حرصاً على سلامتهم.

المثير أنَّ القانون -الذي يُطلِق عليه البعض “المشؤوم”- لم يفرق هذه المرة بين السكان والملاك أو المقاولين الذي بنوا العقارات والأدوار المخالفة، مثلما يحدث عادة في أغلب مخالفات البناء، وإنما على العكس ضمَّ كثيرٌ من المقاولين أصواتَهم لأصوات السكان، مثلما يقول طارق مازورة، الذي يملك مع أشقائه شركة للمقاولات في طنطا.

ويضيف الرجل الهارب حالياً عبر أحد أقربائه الموثوق فيهم بالنسبة له، والذي خصَّ “عربي بوست” بمعلومات تفصيلية عن موقف المقاول، أنه بنى أكثر من 10 عمارات في أفخم مناطق مدينة طنطا منذ عام 2008 حتى العام الماضي (2019)، واعتاد أن يبني دورين زائدين في كل عمارة عن الأدوار المصرَّح له بها، مثلما يفعل 99% من المقاولين في جميع أنحاء مصر، لأن تلك الأدوار المخالفة تمثل مكسبه الحقيقي من البناء، ومقابل ذلك كان يدفع رشاوى كبيرة للمسؤولين في الأحياء التي يبني فيها ليغضوا البصر عن الأدوار المخالفة، وليوافقوا على توصيل المرافق لها رغم أن ذلك غير قانوني.

يضيف “لن أجادل ما إذا كان ما نفعله صائباً أم خطأ، لكنه ما وجدنا الجميع يفعله في مصر، فلماذا لا نفعل مثلهم؟! وحدث أننا استمررنا في البناء بنفس النظام سنوات طويلة، وبعنا كل الوحدات السكنية القانونية والمخالفة، وتم توصيل المرافق لها جميعاً، وكنّا عندما ننتهي من بيع عمارة ما نسارع بشراء أرض جديدة بما حصلنا عليه من أموال لبناء عمارة جديدة وهكذا.

 والنتيجة أننا حالياً نملك أراضي وبعض الشقق في العمارات التي بنيناها، لكن لا نملك سيولة نقدية للتصالح، كما أن المحافظة تحاسبنا حالياً على مخالفات البناء بأثر رجعي، أي منذ 2008، وبالتالي وجدنا أن علينا تسديد ما يقرب من 30 مليون جنيه دفعة واحدة للتصالح، وهو مبلغ لا نملكه، وإذا فكرنا في بيع الأراضي والشقق سنخسر فيها نصف سعرها تقريباً، لذلك فكّرت وإخوتي أنّ أنسبَ حلٍّ الآن هو الاختفاء عن أعين الحكومة حتى تهدأ العاصفة.

في المقابل، يرى كثير من أصحاب شركات المقاولات الكبرى أن القانون يبعث برسالة من الحكومة إلى المخالفين، تقول: “اطمئنوا سنحميكم”، ما يفتح الباب أمام عودة البناء المخالف مرة أخرى. 

ويشير خالد مصطفى، صاحب شركة مقاولات بمنطقة المهندسين، وسط العاصمة المصرية، إلى أن قرار الحكومة بالتصالح مع المخالفين أصابنا بخيبة أمل، وندمنا على التزامنا طوال الأعوام الماضية، ويؤكد أن أرض اللواء ومنطقة الهرم وفيصل وهضبة الأهرام شهدت وحدها آلاف المخالفات، لكن الجميع الآن سواسية الملتزم والمخالف، والفارق بيننا سيسقط بمجرد تسديده لمبالغ مالية لا توازي بالطبع ما تحصل عليه من مكاسب، في حين التزمنا نحن بالمعايير البنائية والإنشاءات المطلوبة وفقاً لتراخيص البناء التي حصلنا عليها، ولم نستغل حالة الضعف في أجهزة الدولة أثناء ثورة 25 يناير أو أزمة كورونا. 

ما يحدث من إصرار حكومي على تصعيد الأمور مع السكان والمقاولين يبدو مريباً، بهذه الكلمات بدأ “أ.ن”، وهو محلل اقتصادي مصري مرموق حديثه مع “عربي بوست”، طالباً عدم الإشارة إلى اسمه.

يشير إلى أن النظام برَّر إصدار قانون “التصالح” بتعذر إصلاح مخالفات سابقيه التي بلغت حداً يستحيل معه تطبيق قرارات الإزالة، لكن السبب الحقيقي هو أن التصالح سيُنعش الخزينة العامة للدولة.

ويضيف موضحاً “الريبة فيما يحدث أن الحكومة تريد أن تظهر وكأنها تحلُّ مشكلات تراكمت لأكثر من 45 عاماً منذ بداية “الانفجار البنائي” في مصر في منتصف عصر الرئيس الراحل أنور السادات.

 رغم أن أي شخص يرى أن هذا أمر مستحيل وغير منصف، والأولى إذا كانت الدولة جادة في محاربة الفساد أن تسجن مع المقاولين وملاك العقارات كلَّ رؤساء الأحياء، والمهندسين المتعاقبين طوال 5 عقود، الذين قبلوا بالرشوة، وكوّنوا ثرواتٍ مقابل التغاضي عن مخالفات البناء، قبل أن تفكر في معاقبة المسكين الذي اشترى شقة بما جمعه من “تعب السنين” حتى يستقر فيها مع أولاده.

ويرى أن المشكلة حالياً في أن ما يحدث لا يمثل سوى رغبة الرئيس عبدالفتاح السيسي، وفي مصر “حينما يريد الرئيس شيئاً فلا بد أن يستجيب القدر”، ويكمل “ظني أن (الهوجة) الحادثة الآن لها هدفان لا ثالث لهما، الأول جمع عشرات المليارات لمواصلة الإنفاق على مشروعات الطرق والمدن الجديدة التي يبنيها الرئيس ويتم الإنفاق عليها بسخاء.

والثاني أن الدولة في إطار مزاحمتها على أي نشاط اقتصادي يجلب أرباحاً قرَّرت أن تدخل السوق العقارية بقوة، وبنت وتبني مشروعات عديدة، لكن المشكلة أنها تعرضها بأسعار تقترب من الخرافية، وهذا قد يدفع الناس للإحجام عنها، ولهذا رأت أن أضمَنَ وسيلة لتنشيطها أن تمنع غيرها من البناء، كما قال السيسي نفسه في خطاب شهر مايو/أيار الماضي، ليكون المواطن أمام خيار وحيد هو الشراء من الحكومة بالأسعار التي تحددها”.

ويضيف شارحاً “المصيبة الأكبر أن الدولة لم تتوقف عند هذا الحد، وإنما بالغت في التجويد بقانون الإيجارات الجديد، الذي كثر الكلام عنه، قبل أن يؤجل البتّ فيه ربما بسبب اللغط العنيف الذي أثاره في الشارع، وفي حال إقراره سيجد ساكنو الشقق القديمة أنفسَهم مدفوعين لشراء شقق تمليك في مشروعات الدولة السكنية.

لأن تعديل قانون الإيجار القديم سيرفع قيمة الإيجار بشكل خيالي، كما يمنع توريث الشقة لأكثر من جيل واحد، ما يعني أن الساكن سيجد نفسه مطالباً بدفع 2000 جنيه مثلاً إيجاراً للشقة التي كان يدفع فيها 10 جنيهات، ومع ذلك لن يستطيع توريثها لأولاده، باعتبار أن الساكن الحالي في الغالب هو الجيل الثاني بعد الأب الذي استأجر الشقة قبل 50 أو 60 عاماً وتوفي.

من جانبه قال مروان عفيفي، وهو مهندس تخطيط عمراني، لـ”عربي بوست”، إن خزينة الحكومة فارغة بسبب المشاريع التي تشيّدها، وتسعى لجمع الأموال بكل الطرق، لذلك فكّرت في قانون التصالح ظناً منها أنها ستغرف منه بالمليارات، ولكنها وهي تفعل ذلك أغمضت عينيها عن أنها تحطّ من هيبة القانون، لأنه من المفروض أن يُطبّق القانون ويعاقب المخالف.

الدكتور حمدي عرفة، الخبير في التنمية المحلية، كشف عن معلومة طريفة وراء قانون التصالح، تفيد بأنه حتى إذا أرادت الدولة أن تزيل كل المخالفات فلن تستطيع؛ لأنها لا تملك سوى 15% من معدات الإزالة التي هي في احتياج إليها لإزالة كل هذه المخالفات.

وأمام حالة التخبط والارتباك الشديدة، بين قرار الحكومة، وبين آلية تنفيذه يبقى المواطن المصري هو أكبر المتضررين، في وقت سمحت فيه الدولة بالمخالفات من أصحاب القرار، والآن تحاسبه بأثر رجعي عن مخالفات لم يرتكبها، ولم يكن يوماً سبباً فيها.

المصدر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى