آخر الأخبارتحليلات

ديكتاتور تونس الفاشل صاحب الدكتاتورية السوداء وحكومة السمع والطاعة

تحليل إعداد 

فريق التحرير

الرئيس التونسي يطلق الأعيرة النارية والرصاصات المطاطية هنا وهناك، فما زالت تصريحاته تحمل الخصومة والمكايدة بل التخوين والاتهام، حتى اتهم البرلمان المنتخب بأنه خطر على الدولة. تصريحات بعيدة عن حكمة الرئاسة وقواعد السياسة
قيس سعيّد ديكتاتور، لكنه ديكتاتور فاشل. هو ديكتاتور لأنه يحتكر كل السلطات بين يديه.

لقد بدا الدكتاتور عاريا وظهرت سوأته على الملأ، عندما بدأ يلعب بورقة الإسلام ملوحا بدستور جديد يحذف منه أن الإسلام هو دين الدولة، لعله ينجح في تفتيت القوى السياسية بين علماني وإسلامي، ومحاولا أيضا مداعبة فرنسا كي يحصل على الدعم الغربي اللازم لبقاء نظامه الدكتاتوري. وكان على نخبنا السياسية وشعوبنا أن تدرك أن معركتها لا ينبغي أن تكون حول نصوص شكلية توضع في دساتيرنا منذ زمن، لكنها تظل ديكورًا تختفي وراءه أنظمة دكتاتورية بشعة. إن معركتنا الحقيقة هي التخلص من الاستبداد أولًا وإقامة أنظمة سياسية حرة تكون الكلمة فيها للشعب، ويُحترم فيها رأى غالبية المجتمع بتطبيق الشريعة الإسلامية، ويحافظ فيها أيضا على حقوق الأقليات والمخالفين في الرأي في أن يتمتعوا بكافة حقوقهم وحرياتهم.

حلّ الحكومة المنتخبة وعيّن مكانها موظفين يقبلون لأنفسهم أن يجلسوا أمامه كل أسبوع في مكتبه يٌقرّعهم، على الهواء مباشرة، مثل تلاميذ خائبين من دون أن ينبس أيٌّ منهم ببنت شفة.

وحلّ البرلمان المنتخب بطريقة ديمقراطية، ونصّب مكانه برلمانا جاء من انتخابات ناقصة، قاطعتها الأحزاب السياسية وعزفت أغلبية الشعب التونسي عن المشاركة فيها، وحوّله إلى غرفة تسجيلٍ لخطاباته الرديئة التي تفيض بالرطانة من كثرة التصنّع في النطق والإلقاء.

وحلّ المجلس الأعلى للقضاء، وعزل عشرات القضاة الذين لا ينفذون أوامره، ونصب لهم محاكمات صورية، بتهم الفساد للنيْل من سمعتهم، بل واعتقل اثنين منهم، وزجّهما في السجن لتخويف زملائهما. وألغى الدستور السابق الذي كان يعتبر نموذجا للدساتير المتقدّمة في المنطقة العربية، جاء نتيجة توافق كبير بين جميع أطياف الشعب التونسي الذي صنع واحدةً من أكثر الثورات إلهاما في بداية الألفية الحالية.

وكتب دستورا فاشيا أعاد تونس إلى سنوات أسوأ من التي كانت عليها تحت حكم الديكتاتور الراحل زين العابدين بن علي.

وعندما لا تُسعفه الحيلة لمواصلة تدبير انقلاباته الإعلامية، يُرسل زوّار الليل لاعتقال معارضيه، ويخترع لهم التهم بدون أدلّة أو حجج، هاجسه الوحيد هو الانتقام منهم، لأنهم لم يصمتوا وهم يرونه يقود البلاد نحو المجهول، ليعلّق فشله الذريع عليهم، فهو منذ أكثر من سنتين يَعِدُ الشعب بمحاربة الفساد واسترداد الأموال المنهوبة. والواقع أن البلاد تخسر كل يوم أكثر مما كانت تخسره في “زمن الفساد” الذي يدّعي محاربته.

أما الأنظمة العربية (أنظمة الاستبداد والفساد والتبعية والثورة المضادة) فلا تملك مشروع نهضة لشعوبها بل أخذت على عاتقها القيام بدور وظيفي خدمة لأسيادها في تل أبيب والبيت الأبيض والغرب. وهذه الأنظمة قد أخذت على عاتقها إسقاط أول ديمقراطية عربية وأطولها عمرًا.
وبما أن الديكتاتور مثل غراب القوم لا يحبّ أن يسمع في المدينة صوتا آخر غير صوته، رغم تعثّره وتلعثمه في الكلام، التفت سعيّد إلى قبيلة الصحافيين، ليغمد فيها سيف حقده وانتقامه من آخر الأصوات التي تجرّأت على انتقاده. وجديد ما تفتقت عنه ذهنيته الانقلابية حلّ المجالس البلدية، وتعويضها بنيابات خصوصية، في انتظار كتابة قانون انتخابي جديد خاصّ بها، يلبّي تطلعاته الساعية إلى بناء “جماهيرية جديدة”، على غرار غير المأسوف عليها التي فرضها الديكتاتور الليبي الراحل معمّر القذافي على شعبه أربعين حولا، والنتيجة ما نراه اليوم من تشرذم وتقاتل يمزّق ليبيا منذ أكثر عقد ونيف!
وعلى مستوى سياساته الخارجية، وفي كل مراحل تقلبه، منذ أعلن انقلابه الدستوري قبل عامين ونيف، وهو يخبط خبط عشواء، هو مع فلسطين القضية، لكنه يخاف من التنديد بجرائم إسرائيل البشعة ضد الفلسطينيين، ويدّعي حمل إرث ثورة الياسمين في تونس التي أطلقت شرارة ثورات الربيع العربي ضد الأنظمة الاستبدادية في المنطقة العربية، ولكنه يمدّ يده إلى نظام بشار الأسد الديكتاتوري في سورية الذي قتل ربع مليون من شعبه، وهجّر ستة ملايين آخرين، ومزّق بلاده إلى محميّات متفرقة، من أجل أن يظلّ في منصبه حاكما بأمره على ما تبقى في بلاده من خراب!
فشل سعيّد في كل شيء منذ وصوله إلى السلطة، فشل في محاربة الفساد، وفشل في إصلاح الاقتصاد، وفشل في تهدئة الشارع، وفشل في الحفاظ على صورة تونس الثورة التي كانت تحظى بالاحترام في الخارج، وبالمصداقية لدى المؤسّسات النقدية الدولية، وفشل في صياغة دستور جديد، وفي تنظيم استفتاء شعبي يستحقّ أن يسمى شعبيا، وفي تنظيم انتخاباتٍ تحظى بالمصداقية، وفشل حتى في اختيار موظفين يتولّون المناصب الحكومية التي يُسندها لهم، وفشل في أن يكون رئيسا محترما، وفي أن يكون رئيسا تنفيذيا ناجحا، وفي أن يكون رئيسا شعبويا وشعبيا، وفشل حتى في أن يكون ديكتاتورا!
وللتغطية على كل هذا الكم الهائل من الفشل المتراكم، لم يعُد أمامه سوى الانتقام. والديكتاتور عندما يفشل يكون مهووسا بالانتقام، لأنه مقتنع تماما بأن ثمّة من يتآمر ضدّه ويريد قتله، وسعيّد منذ وصوله إلى السلطة وهو يتحدّث عن مؤامراتٍ تحوم حول مشروعه، وتهديدات تطاول حياته، وهذه حجّة من لا حجّة له، فهو بعد أن استولى على جميع السلطات، واسْتَوَى على عرش الحكم، لم يحقق أي نجاح يُذكر في كل الوعود الشعبوية التي أطلقها، عندما كان مرشّحا، بل ظل التوتر يتصاعد في تونس منذ مجيئه إلى السلطة، حتى وصل إلى ذروته عندما سقطت البلاد في أزمةٍ اقتصادية.

وأثبت الطاغية الاستبدادي أنه غير قادر على تلبية الاحتياجات الأساسية لمواطنيه بشكل فعّال، فهو لم يكن قط مهتمًا بوضع رؤيةٍ للحكم الناجح لبلاده، وإنما كان همٌه، وما زال، زيادة توطيد جميع السلطات بين يديه.
لم يكن سعيّد قط مهتماً بوضع رؤيةٍ للحكم الناجح لبلاده، وإنما كان همٌه، وما زال، زيادة توطيد جميع السلطات بين يديه
يتحوّل سعيّد تدريجيا من تمثيل الصوت الشعبي إلى قمع ذلك الصوت الذي انتخبه، والتاريخ مليء بأمثلةٍ من الديكتاتوريين مثله، يختبئون تحت غطاء الشرعية الديمقراطية، لكنهم سرعان ما يتحوّلون إلى طغاة، بعد أن تٌسْكِرهم نشوة السلطة، وينسوا مصدرها الحقيقي، أي الشعب. ومصيره لن يختلف عن مصير الديكتاتوريين الذين سبقوه في التاريخ، فكل من سبقوه مرّوا بالدورة الرهيبة نفسها التي يعبُرها كل الطغاة، وهي الصعود إلى السلطة، ليتجبّروا ثم يسقطوا منها مباشرة إلى مزبلة التاريخ. يأتون إلى السلطة محرّرين أو منقذين أو مخلصين، وينتهون ديكتاتوريين فاشيين.
في رائعته “خريف البطريرك”، يقدم غابرييل غارسيا ماركيز وصفا، هو لحن فريد لديكتاتور مصاب بجنون العظمة، ينتهي نهاية مأساوية، بعد أن عزله هوسُه غير العادي بالسلطة المتجبّرة عن أقرب الناس إليه، ليموت منبوذا ومكروها من شعبه. وفي روايته “مائة عام من العزلة” يدور هذا الحوار العبثي بين الديكتاتور الجديد والديكتاتور الذي انقلب عليه، حيث يوجّه الجنرال مونكادو، لحظات قبيل وقوفه أمام فصيلة الإعدام، كلامه إلى الكولونيل أورليانو: “ما يقلقني ليس إعدامك لي، لأن هذا بالنسبة لأناسٍ مثلنا أمر طبيعي، ما يقلقني أنك، بعد كل أحقادك علينا ومحاربتنا بكل هذا العنف، قد انتهيت إلى حالٍ أسوأ منا .. ولا شيء في الحياة يوازي وضاعة كهذه!”.

يعيش شعب تونس اليوم خدعة كبرى، فقد نَفّذت أنظمة الثورة المضادة قرارها فألغت البرلمان وحاصرت القضاء، وسجنت الأحرار، بل تم تجريم أول رئيس ديمقراطي لتونس وحكم عليه بالسجن غيابيًّا أربع سنوات.

أما الإدارة الأمريكية فما زالت تشكّ في إمكانية قيام ديمقراطية في أي بلد عربي، وهي في النهاية تفرش السجاد الأحمر لاستقبال الطغاة أمثال سعيد وحفتر وغيرهم، في حين تتيح غرفا جانبية واسعة تسع دعاة حقوق الإنسان، وبهذا تمكن دمية تونس من تمرير انقلابه والقضاء على الديمقراطية، ويبقى الحقوقي يتسلى بوجود هامش يغرد فيه، هامش لا يغير واقعا ولا يحدث تغييرا ولا يصنع تاريخا، هامش التخدير والإيهام، حيث النضال الوهمي عبر أبراج زجاجية ومواقع افتراضية، ثم يشعر بأنه أدى ما عليه، كحال المعارضة المصرية التي مارست أسلوب التخدير والإيهام بقرب التغيير، من منصات العالم الافتراضي وتركت العمل الميداني.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى