تقارير وملفات إضافية

رغم أنها الأكثر استجابة لشروط الحجر.. كيف وفرت جائحة كورونا فرصة للأنظمة العربية لتحجيم المؤسسات الدينية؟

“لا لوقف صلاة الجماعة”، كانت هذه الكلمات كفيلة بوضع صاحبها في السجون السعودية، في حادثة توضح كيف استغلت الحكومات العربية جائحة كورونا لإضعاف المؤسسات الدينية.

فمنذ أن ضرب وباء كوفيد-19 أراضيها في منتصف مارس/آذار الماضي، شددت المملكة العربية السعودية قبضتها على المعارضة الدينية. وفي ذلك الشهر حظرت الحكومة التجمعات في المساجد ونشر الشيخ عبدالله السعد، العالم الإسلامي السعودي، مقطعاً على الإنترنت يُدين فيه إلغاء الصلوات ويعتبره خرقاً للشريعة الإسلامية. 

وبعدها أُلقي القبض على الشيخ واعتُقل. وفي الشهر نفسه كذلك أعرب عالمٌ بارز في الحرم النبوي الشريف في تغريدةٍ على تويتر عن مخاوفه من أن زملاءه المسجونين قد يكونون عرضةً للعدوى، ليُقال بعدها من وظيفته، حسبما ورد في تقرير لمجلة Foreign Affairs الأمريكية.

وليست المملكة العربية السعودية تحت قيادة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان الدولة الوحيدة التي اتخذت من الوباء فرصةً للفتك بالمعارضة الدينية، فمصر بتاريخها الحافل بالتوتر بين الدولة والمسجد -وتحت الحكم الاستبدادي للرئيس عبدالفتاح السيسي- قد انتهجت نفس المنهج.

ولطالما عانت المجتمعات العربية المعاصرة، مثل مصر والسعودية، من أجل التوفيق بين الدولة والمسجد. حيث يوفر الدين لبعض المستبدين في الشرق الأوسط مصدراً للشرعية. غير أنّ السلطة الدينية تتصارع كذلك مع سلطة الدولة، ويمكنها أن تزود الحركات المعارضة في الدولة بالشجاعة والهيكلية. 

وقد أبرز تفشي وباء كوفيد-19 ذلك الصراع عبر تركيز سلطة الدولة على المنشآت الدينية مؤقتاً باسم الصحة العامة. والآن بدأت المساجد والمزارات في فتح أبوابها من جديدٍ، وكما يُقال فقد فاحت رائحة الصراعات قديمة الأزل بين المسجد والدولة ووصلت للرأي العام. 

أثارت القبضة الخانقة التي فرضتها مصر والسعودية على الأمور الدينية أثناء فترة التفشي بعض المخاوف المشروعة حول مدى استعداد هذه الدول لتخفيف قبضتها مرةً أخرى بعد انحسار الوباء.

حينما اجتاح فيروس كورونا الشرق الأوسط للمرة الأولى في مارس/آذار أغلقت الحكومات المساجد، ومنعت صلاة الجماعة، وأقفلت الأضرحة والمزارات والمعاهد الدينية في محاولةٍ للسيطرة على التفشي. 

وحتى خلال شهر رمضان، منذ أبريل/نيسان وحتى أواخر مايو/أيار، ظلت تلك الضوابط صارمة. ويعترض بعض علماء الدين مثل عبدالله السعد قائلين إنه في أوقات الأزمات يجب أن تظل أبواب المساجد مفتوحة؛ حتى يتمكن العباد من التضرع إلى الله وطلب رحمته. بينما دعم آخرون الحظر الذي فرضته الدولة. فمثلاً أصر الشيخ علي محمد الأزهري، الأستاذ بجامعة الأزهر في القاهرة، على أنّ منع المصاب بفيروس كورونا من أداء صلاة الجمعة في المسجد هو واجبٌ ديني وقانوني، قائلاً: “لا يدعو الإسلام إلى هلاك الناس، بل إلى حمايتهم”.

لكن الحكام المتسلطين لمصر والسعودية، حسب تعبير المجلة الأمريكية، لم يكونوا مهتمين بالجدل الديني أكثر من اهتمامهم بطاعة الجماهير لهم. ودعوا المؤسسات الدينية الرسمية، وحتى الإسلاميين المستقلين، لحشد الدعم والشرعية لإجراءات الوقاية الصحية. وفي الوقت نفسه، كانت تلك الحكومات تُسكت المعارضين. 

ففي مصر اعتقد عددٌ من الأئمة أنّ حقهم في التعبير عن الرأي يسمح لهم بعقد تجمعاتٍ دينية في منازلهم رغم الحظر الذي تفرضه الدولة. وعاقبت وزارة الأوقاف إماماً واحداً منهم على الأقل، وربما أكثر كما تشير التقارير، بإلغاء رخص ممارستهم للخطابة بشكلٍ نهائي.

وفي السعودية بدا وكأنّ إجراءات احتواء الوباء تحظى بإعجابٍ واسع من الأئمة ولا تُثير إلا القليل من الاستياء في البداية. إذ أصدر المشايخ فتوى تُشرع ما يتخذه بن سلمان من إجراءات، بل وتتضمن إجراءات علمية لمواجهة فيروس كورونا. وأعلن المفتي الأكبر عبدالعزيز الشيخ أنّ كل من لا يلتزم بحظر التجوال من الغسق إلى الفجر هو “آثِم”.

غير أنّ الحكومة السعودية اتخذت من الوباء رخصةً لإسكات الآراء المعارضة، حتى بين أولئك المشايخ الذين يُقرون عادةً توجيهات الحكومة. 

والأدهى من ذلك أن الحكومة السعودية استغلت الأزمة لتتخذ منها غطاءً لشن حملة على الأقلية الشيعية المضطهدة في محافظة القطيف. وارتبطت الكثير من حالات الإصابة بكوفيد-19 التي ظهرت مبكراً في المحافظة بحجاجٍ كانوا يؤدون المناسك في إيران، القوة الشيعية الكبرى في العالم، وواحدة من أوائل بؤر انتشار المرض في العالم، بالإضافة إلى كونها الغريم الديني للرياض. 

ولا يُعد السفر إلى إيران قانونياً في المملكة، لكن الحجاج الشيعة يسافرون إليها غالباً عبر بلدٍ ثالث. وفي الثامن من مارس/آذار، فرضت السلطات السعودية حصاراً على القطيف مغلقةً مداخلها ومخارجها ومكاتب الحكومة والمؤسسات الخاصة بها. وقد نجح ذلك الحصار في منع الحجاج من تأدية شعائرهم الدينية.

ومنذ مارس/آذار 2020 فرضت حكومة محمد بن سلمان قيوداً على دور العبادة، وبدا أن رجال الدين السعوديين متقبلين لذلك. لكن المصادر المطلعة أوردت أنّ ما دار في الكواليس كان مغايراً لذلك. إذ كتبت هيئة كبار العلماء فتوى تُدين فيها إغلاق المساجد وتعتبره خرقاً لمبادئ التشريع الإسلامي. وتحت ضغطٍ من الحكومة، ألغت الهيئة الفتوى.

أما في مصر فقد كان الاحتجاج العام على الإجراءات الصحية التي اتخذتها الدولة أكثر وضوحاً مما كان عليه في السعودية، ويرجع ذلك جزئياً إلى أن التصريحات الرسمية كانت غامضة. 

وبحلول أواخر مارس/آذار كانت الدولة قد حظرت صلاة الجمعة وكل التجمعات الأخرى في المساجد، مع توجيه بعض المسؤولين بالصحة النصائح بعدم الصيام في رمضان بسبب الوباء. لكن لتجنب المزيد من الجدل، وللحفاظ على التقاليد، أصدر الأزهر ومفتي الديار ووزارة الأوقاف ودار الإفتاء بياناً بوجوب الصوم -وأنه في الواقع يقوي المناعة مما قد يساعد في مكافحة الفيروس.

غير أنّ الاهتمام بالتقاليد لا يتوقف. حيث خرج على الناس المتحدث باسم وزارة الأوقاف، أحمد القاضي، وأبدى تقبلاً لفكرة أن يصلي الأئمة صلاة التراويح في المساجد في رمضان على أن يأتم الناس بهم في منازلهم. ليظهر رئيسه الشيخ محمد مختار جمعة وزير الأوقاف ويُقيله على الهواء مباشرةٍ، فيُثير حملةً عامة ضد إغلاق المساجد وإلغاء صلاة الجماعة. ويزعم النشطاء أنّ جمعة فقد مصداقيته الدينية وأخطأ في اتخاذ قراره باستشارة وزارة الصحة -لا على أسسٍ دينية.

وباستمرار الوباء، أصدرت مؤسسات الدولة المصرية الدينية توجيهاتٍ من وقتٍ لآخر اختلفت من مؤسسةٍ لأخرى، واختلفت حتى عن سياسات الدولة الرسمية. فمثلاً أصدرت جامعة الأزهر، التي تعد الأكبر في العالم الإسلامي السني، فتوى في الأول من أبريل/نيسان تنص على أنّ الصيام لن يكون مضراً -لكن للمسلم أن يُفطر خوفاً من الفيروس. غير أنّ دار الإفتاء كانت حاسمةً، فقالت: “الأمر سابقٌ لأوانه، ولا يحق للمسلم أن يُفطر في رمضان إلا بأمرٍ من الأطباء، وإذا ثبت علمياً أنه يعرض المرء للمرض أو الموت”. ويُذكر أن دار الإفتاء غالباً ما كانت تختلف مع الدولة في الأمور الدينية. وفي يوليو/تموز قدم المشرعون المصريون مسودة قانونٍ لإخضاع دار الإفتاء لسيطرة الحكومة المصرية.

المصدر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى