آخر الأخبار

روسيا تحمي رجال بوتين.. الحكومة تنقل ملكية الشركات الخاصة إليها للالتفاف على قانون قيصر

بالتزامن مع دخول “قانون قيصر” الأمريكي حيز التنفيذ في سوريا، بدا الجانب الروسي -الذي دعم بشار الأسد عسكرياً ونجح في قلب موازين القوى والسيطرة بشكل مباشر على كثير من القطاعات الحيوية- في حالة ارتباك وقلق على مصير الشركات الروسية التي حصلت على امتيازات اقتصادية كبرى، والتي باتت عملياً أبرز شريك اقتصادي للنظام السوري. 

كانت موسكو قد سارعت بعد مرور بضعة أشهر فقط من تدخلها العسكري المباشر في سوريا، في نهاية سبتمبر/أيلول 2015، لوضع أساس لوجودٍ اقتصادي دائم في سوريا، وفي العام 2016، زار ديمتري روغوزين، النائب الأول لرئيس الوزراء الروسي دمشق، وأجرى محادثات مع الأسد، ركَّز فيها على نشاط الشركات الروسية، وآليات توسيع التعاون ليشمل كل القطاعات. 

وعكست كلمات المسؤول الروسي بعد الزيارة حجم الإنجاز الذي تطلعت إليه موسكو، فقد قال إنَّ “المسألة الأهم التي جرى تثبيتها هي تعزيز مصالح روسيا الاقتصادية ولمدة طويلة في سوريا”، وعبّر عن قناعة أنّ هذا التعزيز “ممكن عبر المشاركة في المشاريع الضخمة لإعادة تأهيل الاقتصاد السوري، والمشاركة في بناء شبكات الطاقة، والموانئ، وغيرها من مشاريع البنى التحتية الضخمة”. 

هذه المقدمات بدأت موسكو بالعمل لتطبيقها بشكل عملي، مع حلول يوري بوريسوف مكان روغوزين، على رأس القطاع الحكومي المعني بتطوير التعاون الاقتصادي الخارجي، وأعلن بوريسوف في أعقاب محادثات مع الأسد، في دمشق، نهاية عام 2019، عن خطة روسية واسعة النطاق لإعادة تأهيل شاملة للبنى التحتية لمنظومة النقل البحري والبري السورية، وكان واضحاً أنَّ الهدف هو الاستفادة من تلك المنظومة في تصدير المنتجات الروسية، عبر سوريا، إلى دول المنطقة. 

في السياق ذاته، صادق مجلس الشعب السوري في ديسمبر/كانون الأول 2019، على حزمة اتّفاقيات مع شركتي “فيلادا” و”ميركوي” الروسيتين، بشأن تطوير ثلاث مناطق من حقول الغاز والنفط، التي تبلغ احتياطات الغاز فيها بحسب الجانب السوري ثلاثة أرباع تريليون متر مكعب.

ومن المعروف أنَّ الشركتين يملكهما يفجيني بريغوجين، رجل الأعمال المعروف باسم “طباخ الكرملين”، كون شركاته كانت تتولى سابقاً مهام توريد المواد الغذائية إلى الديوان الرئاسي والإشراف على الولائم التي يقيمها الكرملين. 

واتضح سريعاً أن بريغوجين، الذي يعد الممول والمشرف الأساسي على عمل مجموعات “فاغنر” من القوات غير الحكومية العاملة في سوريا، حصل على صفقة كبيرة تمنحه حقّ استثمار حقول النفط والغاز في سوريا، ضمن صيغة معقدة من أجل الإفلات من العقوبات الغربية.

وفي البحث عن أصول الشركتين الروسيتين، تبيَّن أن شركة “فيلادا” تم تأسيسها في العام 2015، برأس مال يبلغ (160 دولاراً فقط)، وهو الحد الأدنى لرأس مال أي شركة وفق القانون الروسي، من قبل يكاترينا تروفيموفا، وهي شخصية مغمورة كانت تعمل مساعدة في إحدى شركات بريغوجين، التي أحالت ملكيتها في يوليو/تموز 2018، إلى سيدة أخرى تدعى داريا بارانوفسكايا. 

المثير أن الشركة الحديثة ليس لديها أي خبرة في مجال النفط والغاز، ولا يوجد سجل لدى السلطات المختصة حول تعداد موظفيها، ولا حتى نشاطها على صعيد توظيف رأس المال، ولم يتضح كيف كان بإمكانها أن تحصل على عقد استخراج 250 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي في سوريا، فضلاً عن أن مالكة ومؤسسة الشركة يكاترينا تروفيموفا، عملت بصفة مساعد مدير في شركة “كونكورد”، وهي المجموعة الرسمية التي تدير نشاطات بريغوجين التجارية، فكان من الواضح أن هذه الشركة ليست إلا واجهة تم تأسيسها بهدف محدد. 

وكانت وثيقة قضائية اتهمت كيانات روسية بالتدخل في العمليات السياسية بالولايات المتحدة منذ عام 2014، بما في ذلك الانتخابات الرئاسية التي أجريت عام 2016.

وورود اسم بريغوجين باعتباره متهماً رئيسياً لأول مرة يسلط الضوء على شخصية الرجل الذي ورد اسمه أيضاً في التدخل الروسي في سوريا وأوكرانيا، وضعته وزارة الخزانة الأمريكية على لائحتي عقوبات، لذا كان يعمل بشكل غير رسمي في سوريا تجنباً للعقوبات. 

لكن الآن، وبعد أن أصبحت العقوبات تهدد كل المتعاونين مع النظام باختلاف مناصبهم، وكينونتهم، فيبدو أن طباخ بوتين أصبح محاصراً مرة أخرى.

أما شركة “ميركوي” فهي خلافاً لـ”فيلادا”، فلها سجل تجاري نشط، ونشاط اقتصادي معروف، إذ عملت في الفترة من 2015 إلى 2018، بموجب عقود سنوية بقيمة 2 مليون دولار لتوفير الغذاء للعسكريين الروس في المستشفيات وفي تنظيم الفعاليات الدولية لوزارة الدفاع، وبلغت إيراداتها لعام “2019” 40 مليون دولار، قبل أن تختفي فجأة من سوق تغذية الجيش الروسي لتظهر في سوريا، كمنقب عن النفط والغاز.

و”ميركوي” بدورها واحدة من العديد من الشركات التابعة لـ”بريغوجين”.

من بين الشركات البارزة، تلك المملوكة لرجل الأعمال الروسي، شركة “يورو بوليس” التي وقعت في العام 2015 اتفاقية مع مؤسسة النفط التابعة للنظام، وبموجبها تعهّدت الشركة بتنفيذ عمليات عسكرية لتحرير حقول النفط والغاز وحمايتها، مقابل الحصول على ربع حجم الإنتاج لاحقاً.

ووفقاً لمصادر خاصة وصلت العائدات الشهرية لشركات بريغوجين في سوريا في العام 2019، إلى 100 مليون دولار، لكن التوقعات كانت فلكية بالنسبة إلى المستقبل، إذ كان بريغوجين يعول على توسيع نشاط شركاته مع دخول مرحلة إعادة الإعمار. 

أيضاً، وقعت شركتا “لوك أويل” و”غازبروم نفط” وهما من أبرز شركات النفط والغاز في روسيا مع النظام السوري، اتفاقيات في قطاع الطاقة في بداية العام 2019، نصت على ترميم البنية التحتية للطاقة، وتطوير حقول الغاز الطبيعي البحرية، ويرى خبراء روس أن “الجائزة الكبرى بالنسبة لروسيا على صعيد استغلال ثروات النفط السوري تكمن بالفوز باستثمار الحقول البحرية إذا صدقت التوقعات حول الاحتياطات الضخمة، فالاحتياطات البرية الحالية ليست مغرية مقارنة باحتياطات العراق وإيران وغيرها من بلدان الخليج”. 

لكن الاهتمام الروسي لم يقتصر على قطاع النفط والغاز، فقد حصلت شركة “ستروي ترانس غاز” على عقد مدته 50 عاماً لاستخراج الفوسفات في سوريا، وبموجبه سوف تحصل الشركة الروسية على 70% من الفوسفات المستخرج، وسيحصل النظام على الـ 30% المتبقية. 

وكشفت روسيا أنها ستخصص 200 مليون دولار لصيانة وإعادة تفعيل مصنع الأسمدة الوحيد في البلاد وتطويره، وتصدير منتجاته إلى السوق الإقليمية. 

كما سعت روسيا إلى الهيمنة على ميناء طرطوس التجاري، بتوقيعها عقداً لتشغيله لمدة 49 عاماً، قابلة للتمديد، وأعلنت أنها ستستثمر 500 مليون دولار في المشروع.

تعاني روسيا من صعوبات جدية في تحويل انتصاراتها العسكرية في سوريا إلى انتصارات سياسية، وفي الوقت ذاته تُدرك موسكو مدى خطورة وتداعيات العقوبات الأمريكية الإضافية في زيادة عزل النظام السوري، وتعقيد مسار التسوية السياسية.

وللالتفاف على بعض التداعيات، علم “عربى بوست” من مصادر خاصة أن روسيا بدأت نشاطاً مكثفاً قبل شهور لتسجيل بعض الشركات الروسية العاملة في سوريا باسم الحكومة الروسية، لتجنب وقوعها تحت قانون “قيصر” الجديد، وهو أمر فعلته روسيا سابقاً في فنزويلا، عندما قامت بنقل جميع ممتلكات عملاق النفط الروسي “روس نفط” والغاز “غازبروم” تحسباً لأي انهيار أو تغيير مفاجئ في هياكل السلطة الحاكمة. 

تعول الحكومة على أن العقوبات لن تطال الحكومة بشكل رسمي، فتعمل على حماية رجال بوتين الذين يسيطرون على الاقتصاد السوري ومشاريع البنية التحتية.

كل هذه المصالح وغيرها الكثير من المشروعات التي بقيت طيّ الكتمان تُبرّر تصاعُد القلق الروسي بعد دخول “قانون قيصر” حيز التنفيذ، كما تبرر اللهجة الغاضبة التي تحدّث بها مسؤولون روس، ووجه المبعوث الخاص للرئيس الروسي في دمشق ألكسندر يفيموف انتقادات قاسية إلى الولايات المتحدة قبل أيام، ووصفها بأنها تستخدم “الإرهاب الاقتصادي” لمعاقبة سوريا وشركائها.

الأكثر من ذلك أنه تعهّد بمواجهة التدابير الأمريكية ملوحاً بأن “روسيا وحلفاءها يقفون على الجانب الصحيح للتاريخ”. 

وأشار إلى أن روسيا وسوريا نجحتا في الصمود، وتجاوزتا الكثير من الصعوبات، و”من المستحيل تحطيمهما بالإرهاب الاقتصادي”. 

وأضاف يفيموف: “علينا أن نفكر في التحديات الجديدة الماثلة أمامنا، لأن العديد من الدول التي تعتبر نفسها نموذجاً للإنسانية والأخلاق قد أعطت أذناً صماء لدعوة الأمين العام للأمم المتحدة بتخفيف العقوبات، في ظل جائحة كورونا، حتى إنها سارعت في الإعلان عن تمديدها، وبالتالي سيزداد هذا الضغط في المستقبل”.

ومع غياب التعليق الرسمي للأوساط الروسية، تصاعدت لهجة الانتقادات على مستوى الخبراء، ضد “قانون قيصر” و”تداعياته على شعوب المنطقة وليس سوريا فقط”، فهناك من وصفه بأنه يعبر عن “نهج همجي” تتبعه واشنطن باستمرار ضد “الدول والشعوب المناضلة”، وهناك من اعتبره “شكلاً جديداً من أشكال الاستعمار والعنصرية”، وأنه يؤكد “فشل السياسة الأمريكية في المنطقة”.

وركزت ليلى زيلونكوفا في مقال نشرته صحيفة “روسيسكايا غازيتا” الحكومية على التداعيات المحتملة داخلياً في سوريا، مشيرة إلى بدء خروج مظاهرات في مناطق سورية خاضعة لسيطرة الأسد، للمطالبة بتحسين الأوضاع الاقتصادية ترفع شعار “ارحل يا بشار”، ورأت فيها مؤشراً على أن تفاقم الانهيار الاقتصادي والمالي في الداخل السوري وصل إلى مستويات خطرة، ما سيكون له تداعيات سلبية على مسار التسوية السياسية.

فيما لفت الخبير في الشؤون السياسية ديمتري كوليكوف إلى أن “استيلاء واشنطن على آبار النفط السوري -شرق الفرات- يعقّد الوضع الاقتصادي السوري مع قرب دخول قانون قيصر حيز التنفيذ، وأضاف أن الأموال الواردة من بيع النفط السوري تعطي للأمريكيين فرصة جيدة لزيادة مجالات الإنفاق على شركاتهم العسكرية الخاصة الموجودة في المنطقة، بالإضافة إلى “رشوة” شيوخ القبائل، وهم حوالي 800 في المنطقة. كما يمكن لهم استخدام هذه الأموال للضغط على القادة الأكراد.  

ينص قانون “قيصر” الأمريكي على عقوبات على كل من يقدم دعماً مالياً وتقنياً ومادياً للحكومة السورية أو شخصية سياسية عليا في الحكومة. 

كما تشمل العقوبات كل من يعمد إلى توفير السلع أو الخدمات أو التكنولوجيا أو المعلومات التي من شأنها توسيع الإنتاج المحلي في مجال الغاز الطبيعي والنفط والمشتقات النفطية، كما يشمل القانون ردع الأجانب من إبرام العقود المتعلقة بإعادة الإعمار في سوريا.

وكل هذه العقوبات تعرقل المساعي الروسية من أجل كسب أكبر قدر ممكن من الفوائد الاقتصادية، ثمناً لدعمها الدبلوماسي والعسكري المتواصل للنظام السوري من عام 2011.

المصدر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى