كتاب وادباء

سياسة الخوف والتخويف “الجزء الأول”

بقلم الأديب الكاتب

د. محمد سعيد آل تركي

***************************************************************************************

شعور الخوف أمر طبيعي من الفطرة التي خلقها الله تعالى في الإنسان، وهو رجْع غريزي لغريزة البقاء، وضروري لحماية الإنسان من غيره ومن البيئة التي حوله ومن تحديات كثيرة تواجهه، إذن فهو شعور محمود ولا غنى عنه، بل يقترن بهذا الشعور مشاعر أخرى مماثلة ولكنها أقل حدة عن شعور الخوف، تخدم نفس الهدف وهو حماية الإنسان ووقايته قبل الوقوع في الخوف المُربك قليلا، فتزيدُ من حذره كشعور الوجل، وشعور الخشية.

بلوغ درجة الخوف أو تجاوزها عن الحد الذي وضعه الله في قلب الإنسان بمقداره الفطري اللطيف، يتسبب في إصابة الإنسان بروْعة مؤذية تقض مضجعه وتربك حاله فتصيبه بحيرة وقلق وتكون وبالاً عليه وشراً، أما إن زاد الخوف عن مقدار الروعة المريع وكان متواصلاً لا يكاد ينفك منه صاحبه، تصيب الإنسان عن وعي رهبة لا تكاد تتحملها نفسه، إلى درجة تجعله يُؤْثر أن ينقاد لمن أرهبه ويلبي مطالبه ويُسْلم إليه أمره، لأنه على هذه الحال لا يرى نفسه إلا وَهِناً ومهزوماً حتماً.

أما إذا أصاب الإنسان ما هو أكثر من الرهبة فإنه يفقد مشاعر الأمان ويفقد سيطرته على نفسه، وهذه حالة نسميها حالة الرعب، وهي حالة أشد وطأة على النفس من الرهبة وأكثر ألماً وقسوة، أما المرعوب فلا يرى لنفسه أماناً، حتى ولو كان في بيوت محصنة، لأن الرعب يدفعه إلى الهلع أو الفزع، وهي حالة تتغلب فيها نفسه على عقله، فتأخذ نفسه بزمام حركته دون عقله، وتتصرف بالإنسان دون إرادته، حتى ولو ساقته إلى الهلاك.

أما الذعر فهو أعلى درجات الخوف على الإطلاق وذروتها، وأكثرها ألماً وقسوة، وهي المرحلة التي يفقد الإنسان حقاً عندها عقله، وكأنه يرى الموت بعينيه، بل يراه حقاً وصدقاً، وهو حال للإنسان فظيع ومؤلم له ولمن يشاهده، وغالباً ما يدفعه إلى الانتحار أو إلى أي فعل جنوني قاتل يخلصه من هذا الشعور.

لذا فإن حالات الخوف التي وصفنا، هي في حقيقتها حالات قاسية وتدعو للشفقة على أصحابها، وكلما زاد شعور الإنسان بالخوف قيّد حركة الإنسان وعطل تفكيره، وكبّله وسجنه في داخل نفسه، وهو كالسلاسل والأغلال في الأعناق، فيصبح الإنسان مسجوناً فكرياً وعقلياً وإرادياً.

الخائف أو المرهوب أو المرعوب كما وصفنا لا يفكر إلا بالشيء الذي يغلب على ظنه أنه سينقذه ويشعره بالأمان في لحظته ومستقبله، حتى ولو كان على حساب عزته أو كرامته، أو على حساب دينه إن كان إيمانه ضعيفاً، ولذا من العبث أن تعرض على خائف مرهوب أو مرعوب فكراً أو علماً ينهضه ويرقى به أو يخلصه من البؤس الذي يعاني منه، فذلك سيتوعده ويشير إليه من قريب أو بعيد بالتصادم مع واقعه من أجهزة أمنية أو حكومة قائمة أو أفراد أو مجتمع، فيكون الذي عُرض عليه من علم أو فكر من الأمور التي تمقتها نفسه، وتكرهها وتبغضها بغضاً شديداً.

الخائف المرهوب أو المرعوب لا يعقل عادة، أو لا يريد أن يعقل إلا ما يراه مناسباً مع أمان نفسه، بل عندما يُخيّر الخائف بين ما يُطرح عليه من الأمور، يختار فقط المسائل ذات الجوانب الآمنة التي يطمئن إليها وتخدم أمانهُ، ويدع الجانب الذي يريبه مما يفسره عقله من واقع مخيف، حتى ولو كان ذاك الجانب صائباً، فلا يريد أو يفعل إلا ما يرى من الأفعال التي تسير به إلى أمانهِ الآني، حتى ولو ذل أو فَقُر.

الخائفون يلبسون نظاراتٍ سوداء لا تُريهم الأشياء والأمور على حقيقتها، فلذلك لا يرون البيئة بألوانها المختلفة والمتعددة إلا بلون واحد، فلذلك هم قليلو المتعة في الحياة.

الخائفون يرتابون من كل شيء، ويرتابون من كل إنسان يرونه، ويرتابون من أي حديث يسمعونه يخص أمنهم، أو حتى لا يمس أمنهم، بموقف فائق الحذر على مقياس (قد يمس أمننا ونحن لا نعرف).

الخائفون عدوهم الإقدام، بل غريمهم الجرأة والتحدي والمغامرة، فالخوف يجمد أجسادهم في أماكنها، ويمنعهم من التطلع إلى نهضة أو تطور أو رقي، ويدفعهم خوفهم لأن يضحوا بكثير من الأموال في سبيل من يجدونه يقوم بدلاً عنهم بأعمال النهضة والرقي.

أما الجرأة والتحدي والمغامرة فهي من المحاذير عند الخائفين، ويرونها مستحيلة، بل يرون هذه المسائل من الجنون، وقد يرون أصحاب الجرأة والتحدي والمغامرة يفوقون البشر في مقدراتهم، وجديرين بالتقديس.

الخائف لا يحب مصاحبة الشجعان وتجزعه أفعالهم، بالرغم من متعته بمشاهدة بطولاتهم وبسماع أحاديث مغامراتهم، ولكنه لا يحب مصاحبتهم، وإنما يعمد لتقليدهم ليحقق متعة الشعور ببلوغ مراتبهم، أو يعمد لإشباع شعور الشجاعة والجرأة والتحدي وتحقيق البطولات بألعاب المغامرات الإلكترونية وبما يسمى بألعاب السوني والبلايستيشن أو غيرها، أي تحقيق البطولات في العالم الافتراضي.

الخائفون تبهرهم أعمال النهضة والتطور والرقي وتفتنهم، وتبهرهم أفكارها، ولكنهم لا يستطيعون التعامل معها أو القيام بها لأنهم اعتادوا الجزع، واستمرأوا العجز عن القيام بأي شيء منها ومن تعلّمها أو التخطيط لدراستها، ولذلك فهم يعيشون ليومهم، ولا يعيشون لغدهم ولا يخططون له، لأن شعور العجز سيطر على عقولهم المجمدة، وهذا يفسر واقع الشعوب في البلدان الإسلامية اليوم، واستسلامهم لسلطان العدو وصناعاته، وافتتانهم بنهضته.

الخائفون مستسلمون للواقع وخاضعون له، فالواقع مصدر تفكيرهم، أي أنهم يكرهون التفكير، ويعيشون كما يملي عليهم الواقع وتملي عليهم ظروف الحياة المقدمة لهم كما هي، راقية كانت أم متدنية، جيدة كانت أم سيئة، فيتعاملون معها دون التعرض لأفكار تغيير الواقع التي تجزعهم وتربكهم وتخيفهم، ناهيك عن جزعهم من أعمال التغيير وتطيرهم منها، ولذلك فإن الشعور بالأمان الآني يرونه خيراً لهم من الدخول في مسائل أو أفكار واعدة بالرقي والتطور والعزة والكرامة، فهي مستقبلية وتحتاج إلى التضحية والبذل والعطاء ناهيك عن أنها تهدد شعورهم بالأمان، وهذا أسوأ ما يمكن حصوله لهم. ولذلك فالعبودية في السلام عندهم خير لهم من التحرر تحت احتمال حصول الألم والشقاء.

الخائفون يشترون شعور الأمان بكرامتهم وعزتهم، كما يشرونها بأموالهم، بل وبأغلى ما يملكون، فهم يفضلون الذلة والمهانة والجوع والفقر على أن يمس أحدُهم أمانَهم أو شعورَهم بالأمن.

الخائفون يستسلمون لكل شيء، أي يمتنعون عن فعل أي شيء يمس أمنهم، حتى أنهم ليمتنعون عن طلب العلم النهضوي، أو التعرف على كيفية التخلص من العبودية والظلم والجوع والفقر.

الخائفون على مستوى الأفراد والشعوب والدول تجدهم دائماً متأخرين أو عاطلين أو عاجزين أو متخلفين، ولذا تجد الخائف يكذب عادة ليغطي نقصه وضعفه بأعمال وأقوال تُظهره على خلاف حقيقته المتواضعة، كأن يفتخر بأعمال لم يقم بها فينسبها لنفسه.

الخائف نفسه وما يملك أعزّ عليه من عزته وكرامته والقضايا المحمودة، ولذلك نجده يمد يده حتى لعدوه لينقذه من مسببات خوفه، لذا فهو لقمة سائغة سهلة لذيذة لكل الطامعين، فقد تأخذ منه كل ما تريد على شرط أن تُشعره بالأمان، وألا يمسه أحد بسوء أو يهدد أمنه.

ولو راقبنا الشعوب الإسلامية والعربية على وجه الخصوص لوجدنا أنه قد مورس في حقهم أفراداً وشعوباً ومجتمعات متفرقة كل أنواع التخويف المُوصلة إلى درجات الخوف التي ذكرنا بدرجاتها ومراتبها، بدءا من التربية القائمة على الخوف والتخويف والترهيب، كقولهم لا تفعل كذا وإلا فمصيرك كذا، وليس على مبدأ إن أردت أن تفعل فافعل، ولكن كن حذرا من حصول كذا أو كذا،، والتربية كذلك على منهج التخويف على الحياة والمال والأولاد والرزق التي هي أصلاً (كما يدعون) بيد الدولة أو الحاكم التي يمنحها من يشاء ويصرفها عمن يشاء.

ولا تقوم التربية اليوم على تقديم حقيقة أن الله بيده كل شيء، ويرزق من يشاء، ويعزّ من يشاء ويذل من يشاء، أي التربية على أن في اتباع أوامر الله واجتناب نواهيه العزة والكرامة والشرف وحفظ الأموال والأعراض، وأن حرية الإنسان التي يجب أن تكون مطلب المسلم والتي يكفلها الإسلام له هي التي تكفل له ولأهله ولذريته من بعده الرزق والخير كله وهو عزيز غير مهان، فإذا ما قام المسلم بتكاليف الدعوة إلى الله وإلى دين الله وإلى شريعة الله، وإذا ما قام بإنكار المنكر لا يخاف أحدا إلا الله، آمراً بالمعروف وناهياً عن المنكر حصلت له العزة والكرامة والخير الكثير.

في الواقع الحالي لم تقم التربية على هذه القواعد الإيمانية ولم تقم على اعتبار هذه القواعد أمورٌ مصيرية في التربية، تحمي الإنسان من الوقوع في الخوف والرعب والرهبة والجزع والفزع، ومن أن يعبث به وبحريته العابثون، ولنا في واقع المسلمين اليوم وبلدانهم أعظم دليل، وقد تغذت مجتمعاتهم بأكملها وشعوبهم بالرعب والخوف والمهانة والذل، ولكن الله يمكر بالخير، وهو خير الماكرين، وسيعود المسلمون إن شاء الله عاجلاً يقودون نهضة العالم بالخير وبالعمل الصالح في ظل دولة خلافة راشدة وعد الله بها ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم.

يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم:

{وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} الأنعام81

وقال تعالى:

{وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} الأنفال26

وقال الله سبحانه وتعالى في سورة آل عمران:

الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ {173} فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ {174} إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ {175}

 *************************************************************************** 

سياسة الخوف والتخويف

 ” الجزء الثاني

تحتاج الحكومات العربية وغيرها من دول العالم الثالث إلى قوة أو سلاح (مما هو دون القتل) يجعل شعوبها خاضعة لها ولأنظمتها الاقتصادية والسياسية الإجرامية وقراراتها، كيفما كانت تلك الأنظمة وكيفما كانت تلك القرارات التي ترسمها لشعوبها، ولكن دون أن تحتاج أو تضطر للتقبض عليهم أو سجنهم أو قتلهم، إن استطاعوا، كما تحتاج الدول المهيمنة كأمريكا وأوروبا وغيرهم كذلك لنفس السلاح لإخضاع شعوبهم لهم ولقراراتهم الداخلية والخارجية، وكذلك تحتاج الدول المهيمنة لنفس السلاح لغرض إخضاع الدول (الحكومات) وشعوبهم التابعين لهم من العالم الثالث ولقراراتهم وسياساتهم العالمية، دون أن تدمرهم أو تقتلهم، إن استطاعت، ولذلك فهم في حاجة إلى سلاحٍ معنوي لتسيير هذه الدول وشعوب العالم بحسب أوامرها، ومنعها من القيام بما يغضبها، ولا يوافق مصالحها ولا يوافق خططها الاستعمارية، دون أن تضطر لإزالة عروشهم.

وفقاً لهذه الحاجة تقوم الدول أي الحكومات بإجراءات عديدة وأعمال داخلية ووضع أنظمة من شأنها إخضاع هذه الشعوب، فهناك منهج قوة الجندي وصرامة القانون المتبعة في حق العالم الثالث، وهناك منهج الترغيب والترهيب، ومنهج العصا والجزرة، وغير ذلك من المناهج القمعية في أصلها، أما الدول المتقدمة فهي تُخضع شعوبها تحت مظلة الخدعة الكبرى وهي الديمقراطية، وخدعة إشراك الشعوب في الحكم، ومن خلال الاغداق على شعوبهم بجزء من الأموال، التي ينهبونها ويستنزفونها من بلدان العالم الثالث، وهي ذات أرقام فلكية، والتي تغطي وتستر حقيقة كذبة الديمقراطية الكبرى.

إلا أن سياسة إشباع الشعوب الأوروبية والأمريكية وتَخْمها، فهي كما أنها تُرضي الشعوب وتسكتهم وتصنع منهم حملاناً وديعة دائمي الابتسام، إلا أن الشعوب المبتسمة هذه وهي تمسك بمجموعها زمام التصويت، كما رُسم لها، وبالحرية التي أعطيت إياها، تحتاج إلى الضبط وإلى مسك زمامها، وجعلها تعطي صوتها رغبة ورهبة، وتوقّع على كل قرارات الدولة الداخلية، والخارجية منها خاصة، وهي راضية مطمئنة، تقبّل الأيدي والأرجل تحت هذه الخديعة.

إلا أن الدول المهيمنة والدول التي تدور في فلكها والأخرى الخاضعة لها في حاجة دائما إلى سلاح إضافي لإخضاع شعوبهم، ولذلك كان لابد جنباً إلى جنب مع مناهج الإخضاع هذه كلها من اتباع منهج إضافي يدفع الأمم كبيرهم وصغيرهم إلى الانصياع لأمر الدولة والأجهزة الحاكمة فيها، فعمدوا إلى سلاح ساحر وفعال، فكانت الدراسات النفسية والاجتماعية والسياسية كلها تشير إلى أن بالإمكان السيطرة على الإنسان وإخضاعه بسهولة ويُسر، بمجرد أن نجعله يعيش في واقع حقيقي أو وهمي مليء بالخوف على أمنه ومصالحه ومستقبله، والخوف على من يهمه أمرهم من الزوجة والأبناء والأهل والأملاك، وأن الإنسان كلما ازداد خوفه عَمَت بصيرتُه وهان على نفسه، وكلما ازداد خوفه زاد رجاؤه فيمن يحميه من الأشياء التي تخيفه، وزاد استسلامه لمن ينزع عنه هذا الخوف ويحرره منه.

وذهبوا إلى حقيقة أن الخائف دائما على استعداد للتنازل عن كل ما يملك ثمناً لشعور الأمان، حتى ولو فقر أو ذُل، وأن الإنسان الخائف يستسلم للواقع ويرتضيه، بل يأخذ يستمد تفكيره من الواقع بدلا من التفكير في تغييره، فالخائف عاجز عن التفكير في تغيير الواقع، لأن ذلك يخيفه ويستفزه ويستثير أعصابه، ويهدد شعوره بالأمان.

ومن هنا وبالرغم من أن الخوف شعور طبيعي وهو رجع غريزي لغريزة البقاء، وهو يحمي الإنسان من المخاطر، إلا أن حقيقة هيمنة الخوف على صاحبه والسيطرة عليه دفع الأشرار من الحكومات والأفراد والمؤسسات من استخدامه ضد أفراد آخرين أو شعوب أو دول (حكومات أخرى)، وبالتالي أصبح الخوف والتخويف سلاحاً فتاكاً يستخدمه المجرمون في حق أفراد وشعوب ودول أخرى.

وغدا الخوف والتخويف من أهم الأسلحة وأكثرها أهمية وفاعلية في إخضاع الدول (الحكومات) والشعوب واستسلامها وتوقف حركتها التحررية وتجميدها في أماكنها.

لقد تطور مع سلاح الخوف والتخويف علوم أخرى وفنون تخدمه، كالعلم بدرجات الخوف التي تبدأ بالوجل والخشية فالخوف، ومروراً بالجزع فالهلع فالفزع والروع فالرهبة فالرعب، انتهاء بأعلى درجات الخوف عند الإنسان وهو درجة الذعر، كما ذكرنا آنفا.

وقد تطور علم الخوف والتخويف، حتى أصبح معلوما لدى الدول ماهية الأساليب التي تُحقق بها الدرجة المطلوبة من الخوف الذي ترغب صناعته في شعبها، وأصبح معلوما لديهم كذلك حال الإنسان أو حال الشعوب وسلوك الشعوب التي تتحقق لديهم هذه الدرجة من الخوف أو تلك، وكذلك درجة انصياع هذه الشعوب عند بلوغها إحدى درجات الخوف هذه أو تلك.

وكذا تطور علم الخوف والتخويف فيما يتعلق بتخويف وإرهاب وإخضاع الدول الأخرى الأصغر منها أو المحتلة كما هو الحال مع الدول الكبرى وعلاقتها بدول العالم الثالث الصغرى، وعلى رأسها دول وحكومات البلاد الإسلامية، وتطور عند الدول الغربية بمجموعها علمٌ بسلاح فتاك رهيب وساحر، ألا وهو سلاح الخوف والتخويف، ولكنه ذو مواصفات أخرى مختلفة عن السلاح الموجه من الدول لشعوبها، أو من الدول لشعوب أخرى تهيمن عليها، فهذا موجّه إلى الدول أي المؤسسات الحاكمة في البلدان الأخرى المُسيطر عليها.

 سلاح الخوف والتخويف الموجه إلى دول (حكومات) العالم الثالث:

تقوم الدول بعد الإعداد العسكري والسياسي الجيد والاحتلال، أو السيطرة السياسية أو العسكرية والاستخباراتية على بلدان الدول الأخرى، تقوم بتثبيت هذا الواقع السياسي وتغذيته بشكل يومي، وذلك بإيهام هذه الدول المُسيطر عليها وعلى حكامها، إيهامهم بأنهم بصفتهم دول قوية قادرة على سحقهم أو نزع كراسيهم أو تدميرهم أنّى شاؤوا، أي يتم هنا استخدام سلاح التخويف والترويع والترهيب بشكل متواصل، حتى ولو لم يكونوا قادرين على فعله، كل ذلك من أجل الإبقاء على هذه الدول خاضعة للتبعية لأمر الدول القوية أو للاحتلال أو الاستنزاف، والتصرف بشؤونها الداخلية والاقتصادية ولسياستها الخارجية.

الحديث فيما يتعلق بهيمنة الدول العظمى على مثيلاتها من الدول الضعيفة يطول، وله أبعاد معقدة ومتشابكة، تاريخية وسياسية وعسكرية، فهو أمر قد حصل، وهو قائم الآن، وهيمنة هذه الدول العظمى اليوم على الدول الضعيفة كما هو حاصل من أمريكا وأوروبا على بلاد المسلمين وغيرهم من الدول الأفريقية والأمريكية الجنوبية هي هيمنة مُحكمة وتخريبية، وقد تجاوزت غالباً خطط الترهيب للزعماء، واستخدام سلاح التخويف.

إلا أن سلاح التخويف والترهيب ما زالت عصاه مرفوعة على رقاب الزعماء ولم تنخفض، وهي متمثلة بشكل رئيسي في أمرين، الأمر الأول تخويف الحكام من شعوبهم، والأمر الآخر تخويفهم من عواقب التمرد أو العصيان لأسيادهم الغربيين.

أما الأمر الأول فقد كان له توابع فظيعة وملعونة على الشعوب، وخاصة الإسلامية منها، حيث صور زعماء الاستعمار لأوليائهم الحكام أن الشعوب بصفتها الإسلامية تمثل العدو الأول لهم ولكراسيهم وأقنعوهم بذلك وأخضعوهم لهاجس الرعب من الشعوب، فأصبح بناء وانتشار السجون في البلاد الإسلامية من الضرورة، حتى أصبحت ليس لها مثيل في العالم والتاريخ، وزخرت وامتلأت بالمثقفين والمفكرين والعلماء، بل طال السجن في الشعوب الإسلامية من ليس لهم في شيء ناقة أو جمل، بل وطال السجن الشعوب بصفة جماعية بأساليب عديدة منها منعهم من السفر خارج بلدانهم أو حتى مدنهم لأتفه الأسباب وأسخفها، كل ذلك قد انطلق من شعور الرعب من الشعوب، الذي صنعه الكفار في قلوب حكام بلدان المسلمين خوفاً من الإطاحة بكراسيهم أو هزها قليلاً، مع العلم أن هؤلاء الحكام على بينة أنهم يحكمون بسلطان غير سلطان الشعوب، بل بسلطان الاستخبارات الأمريكية أو الأوربية، حكماً تسلطيا جائراً بالحديد والنار، وهم على بينة أن الشعوب تقف في خندق مضاد لخندقهم لأنهم لا يحكمون بالإسلام.

أما الأمر الآخر فهو تخويف الحكام من عصيانهم أو تمردهم على أسيادهم الغربيين، وانطلاقا من ذلك فالدول الكبرى تقدم دائماً نماذج للحكام الأقزام لنظراء لهم (من أثيوبيا والصومال وأفغانستان وإيران والعراق وسوريا سابقاً والكونجو والسودان وغيرهم وغيرهم) قد أذاقتهم هذه الدول الكبرى الويلات وأهانتهم وأسقطتهم عن طريق دعم وتحريض قوى أو ثوار شعبيين وقوميين ووطنيين ضدهم، حيث قام هؤلاء بالإطاحة بالحكام العاصين المتمردين، فذاق هؤلاء الحكام العصاة مرارة السقوط من عروشهم الفارهة بسبب عدم انصياعهم أو بسبب تمردهم على أسيادهم الغربيين.

أو تقوم الدول الكبرى بترعيب الحكام الأقزام وإرهابهم بالأعمال العسكرية (كما حصل في العراق وصدام حسين، وكما فعلوا بطالبان، وغير ذلك) عندما أطاحوا بالدولة العراقية وبجيشها وبكل مؤسساتها، ووضعوا حبل المشنقة في رقبة هذا الحاكم المتمرد وشنقوه، على مرأى ومسمع من الحكام خاصة والشعوب عامة، وتحت مرأى ومسمع من العالم أجمع، كل هذه الأفعال كانت رسالة صارخة من الغربيين (الدول المحتلة أو المستعمرة) تُقدم حية على الهواء لحكام بلدان المسلمين وحكام العالم الثالث، لسجنهم في أماكنهم وفي أنفسهم في زنازين مدشّنة برعب عظيم.

وبهذا وذاك أصبح حكام بلاد المسلمين ليسو أكثر من نواطير دنيئين ذليلين لسلطان الدول المحتلة المستعمرة على البلدان والشعوب الإسلامية، ولكن أين لخوفٍ لا يكون وليد خوف أو رعب آخر موصول به؟ فخوف الحكام من الشعوب الإسلامية ورعبهم منهم موصول بخوف ورعب الأمريكيين والأوربيين من تحرر المسلمين وعودة نهوضهم، ورعبهم من استئناف حكم الإسلام، ورعبهم من عودة الفتوحات الإسلامية، وخوفهم ورعبهم من سقوط المارد الرأسمالي، وعصابات الرأسمالية وأكابر مجرميها تحت سيف العدل الإسلامي وحكم الله الحكيم.

قال الله سبحانه وتعالى في سورة النساء 115

{وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً}

وقال الله في سورة آل عمران 179

{مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ}

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه:

أعطيت خمسا، لم يُعطهن أحد قبلي : نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي المغانم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة.

رواه البخاري ومسلم

 

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى