آخر الأخباركتاب وادباء

صورة في المرآة المكسورة!

من روائع الأديب الكاتب

المهندس/ محمود صقر
10/01/2021
في المتحف الوطني الهولندي Rijiks، خطفت عيني لوحة فنية داخل إطار ذهبي، اللوحة تبدو معتمة إلا من بريق ميدالية ووشاح، ويبدو فيها وجه شاحب لرجل أفريقي أسود، اقتربت من اللوحة لأتبين معالمها، خلفية اللوحة معتمة تماما كلون الوجه الذي تتسلط عليه بعض الإضاءات الخفيفة لبيان ملامح الجانب الأيسر من الوجه، ومع عتمة الوجه والخلفية، يتسلط الضوء الساطع على وشاح مزركش يتدلى على الصدر من أعلى الكتف، وميدالية تتوسط الصدر.
اللوحة للفنان “Isaac Israels” مرسومة بألوان زيتية على الخشب عام 1882.


انفعلتُ كثيرا بالإيحاءات التي عكستها الصورة في ذهني، وبدأتُ التقصي عن هذا الرجل الأفريقي المرسوم في اللوحة، وتبين لي أنه جندي أفريقي من جنود ما يُسمى بالمستعمرات، تم استجلابه من “غانا” للقتال تحت إمرة الهولنديين لقمع الثوار في “إندونيسيا“.!
وهذا الجندي اسمه “Pop” وهو ليس اسمه الحقيقي، ولكن كان من عادات الغربيين مع العبيد محو أسمائهم الأصلية وإعطائهم اسما أوروبيا جديداً؛ فدخوله في خدمة الأسياد هو ميلاد جديد، ينبغي أن ينخلع به من ماضيه وتاريخه وذاتيته.!
وقد كرمته “هولندا” على خدماته الجليلة في قمع إخوانه المستعبَدين مثله، وقلدته ميدالية ووشاح.!
اللوحة تعبير فني بامتياز عن الصورة التي يرسمها السيد للعبد، أو المحتل للمستَعمَر، أو المستبِد للمغلوب، أو الديكتاتور للشعب، فالعمل الفني كله يسلط الضوء على الوشاح والميدالية، ويخفي ملامح الوجه الباهتة مع خلفية اللوحة المعتمة، يسلط الضوء على ما له قيمة (الميدالية والوشاح الهولندي)، أما المقاتِل المستعبَد الذي خدم تحت إمرة الأسياد، فمكانه دوماً في ظلال العتمة والإهمال (وعين المستعبَد لا تعلو على حاجب ميدالية السيد!).
والمستَعبَد يشارك المستعبِد في الرؤية نفسها، ويرى نفسه بالصورة ذاتها؛ فقيمته بقدر ما أعطاه سيده من فُتات مقابل خدمات العبودية التي أسداها لسيده؛ فهو مزهو بالميدالية والوشاح، وفي سبيلها كان أشد قسوة من الغربيين على إخوانه المستضعفين.
إنها صورة للإنسان مسلوب الإرادة وفاقد الغاية، حين يترك غيره ليرسم صورته، وحين يقتنع هو بالصورة التي رسمها له غيره، حين يفقد ذاتيته وإنسانيته وفردانيته، حين يترك مساره ومصيره ليحدده غيره، حين يقف أمام المرآة المكسورة ويُصدِّق صورته المشوهة، بل يعتز بها ويفخر.!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى