الأرشيفتقارير وملفات إضافية

عندما يتهم الإنسان نفسه بالجنون …!

بقلم الأديب الكاتب
السعيد الخميسى
*  لو أن شخصا ما تشاجر مع شخص آخر واتهمه بالجنون وفقدان العقل , فالطبيعي أن الطرف الثانى سوف بغضب ويدافع عن عقله ونفسه وهذا أضعف الإيمان . ومن الممكن أن يصل به الغضب لرفع دعوى قضائية بالسب والقذف فى حق الطرف الأول . فما بالكم وما رأيكم إذا اتهم الإنسان نفسه بالجنون وفقدان العقل وعدم القدرة على الفهم والسمع والاستيعاب  ؟ هذه الحقيقة أقرها القرآن الكريم فى سورة ” الملك ” حين أقر أن هناك فئة من الناس عندما وقفوا مكبلين ومقيدين  أمام محكمة العدل الإلهية للعرض والحساب , وأدركوا يقينا لا شك فيه أنهم من أصحاب النار , فلم يجدوا مفرا ولا مخرجا غير اتهام أنفسهم أنهم كانوا مجانين لايعقلون وصما لايسمعون . قال الله عز وجل عنهم ” وقالوا لوكنا نسمع أو نعقل ماكنا فى أصحاب السعير “ وهذا اعتراف رسمى منهم والإعتراف سيد الأدلة . هؤلاء القوم ربما كانوا فى الدنيا من أصحاب المقام الرفيع , ربما كانونا علماء فى تخصصاتهم , أو أدباء فى كتاباتهم , أو مشاهير فى صدر صحفهم , أو أمراء فى مقامهم , أو قادة فى أوطانهم . لكنهم لم يسمعوا صوت الحق ولم يعقلوا أن الحق حق ولو انكسرت رايته , وأن الباطل باطل ولو علت هامته . وأن الإنصات والسمع والتفكر هو الطريق إلى العقل والحكمة .  هؤلاء غلبهم الهوى , وغرقوا فى بحر الغواية , فكانت النهاية . نهاية لا عودة معها ولا اعتذار .

*  وقد  جاء فى تفسير هذه الآية الكريمة مايلىوقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا من أصحاب السعير ” قال ابن عباس : لو كنا نسمع الهدى أو نعقله ، أو لو كنا نسمع سماع من يعي ويفكر ، أو نعقل عقل من يميز وينظر . ودل هذا على أن الكافر لم يعط من العقل شيئا . ما كنا في أصحاب السعير يعني ما كنا من أهل النار . وعن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : لقد ندم الفاجر يوم القيامة . قالوالو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير   فقالوا : أي  لو كانت لنا عقول ننتفع بها أو نسمع ما أنزله الله من الحق ، لما كنا على ما كنا عليه من الكفر بالله والاغترار به ، ولكن لم يكن لنا فهم نعي به ما جاءت به الرسل ، ولا كان لنا عقل يرشدنا إلى إتباعهم .  وهذا يدل على خطورة العقل فى حياة الإنسان ولولاه لما وجد فرق بينه وبين الحيوان إلا فى اعتدال القامة ونطق اللسان كما يقوا ابن القيم الجوزية رحمه الله .وقيل : لا شرف إلا شرف العقل ولاغني إلا غنى النفس. وقيل : يعيش العاقل بعقله حيث كان كما يعيش الأسد بقوته حيث كان  والعاقل كالجبل لايتزحزح وإن اشتدت عليه الريح والجاهل الأحمق تبطره أدنى منزلة كالحشيش يحركه أدنى ريح . العقل هو رمانة الميزان ولو لاه لاختلت النفس وضاع الإنسان وصار أقل مرتبة من الحيوان .

* وإن تعجب فعجب قول القرآن  أن هناك فصيلا بشريا خلقه الله يسمع بلسانه  ويفكر بلسانه بدلا من عقله . يقول عز وجل في سورة النور في معرض الحديث عن حادث الإفك الذي نال فيه المنافقون والطبالون والآكلون على كل الموائد والطابور الخامس من عرض السيدة عائشة أم المؤمنين , حيث  يقول عز وجل ” إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ماليس لكم به علم وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم” . وكأن القول يتلقفه لسان عن لسان دون أن يمر بالأذان أو تفكر فيه العقول والأفهام .. أين المدارك ؟ أين العقول ؟ أين البصائر؟ أين البصيرة ؟ أين الأفهام؟ الكل تلاشى واختفى  واندثر . إنها الحماقة , إنها الرعونة . إنها السخافة , إنه قمة التخلف أن يسمع الإنسان بلسانه ويفهم بلسانه ويعقل بلسانه . أما العقل ففي أجازة اعتيادية ولا وجود له على الإطلاق . هؤلاء هم أعداء العقول في كل مكان وزمان . ما أسوا الإنسان , أى إنسان , إذا تقدم لسانه وتأخر عقله . ما أحقر الإنسان حين يعطل ملكة التفكير والتأمل ويسلم عقله لمن يتلاعب به ويملأه بكناسة الفكر الإنساني وقمامة الإنتاج البشرى فى شتى المجالات الفكرية . ما أقبح الإنسان حين يصاب بالشلل الفكري والكساح العقلي  والنفاق والإنسياق وراء كل ناعق .

*  لك الحق  فى أن تبتلع الحسرات وتتنفس الآهات وتختلج فى صدرك الزفرات , كل ذلك وأكثر من ذلك وأنت تسمع إعلاميين ومفكرين وخبراء وكتابا يكذبون كما يتنفسون , يشوهون كل شئ جميل فى هذا الوطن , يقبحون كل جميل , ويجملون كل دميم , لاهم لا ولا شغل غير الكذب والنفاق آناء الليل وأطراف النهار . ينطبق عليهم قول القائل الذى قال فى قديم الزمان : ”  والله لو لم أكذب لانشقت مرارتى ” ويبدوا أن مثل هؤلاء القوم قد استأصلوا المرارة حتى يأخذوا راحتهم فى الكذب والإثم والعدوان وإنكار الحقائق وإشعال الحرائق . لقد سمعت بعضهم ورأيتهم رأى العين وهم يحرضون الكيان الصهيونى لمحو أهل فلسطين من على الكرة الأرضية ودفنهم فى مدافن النسيان .  إنهم يشجعون أعداء أمتنا شاء من شاء وأبى من أبى فى قتل ومحو كل ماهو عربي وإسلامى من أرض فلسطين , وكأن أحفاد القردة والخنازير أقرب إليهم مودة من أبناء الشعب العربي المسلم فى فلسطين . هل مثل هؤلاء الإعلاميين لديهم قلوب يفقهون بها ؟ أو عقول يفهمون بها ؟ أو آذان يسمعون بها ؟ هل لديهم أى شئ يمكن أن نعول عليه ؟ هل الخلافات السياسية تكون مبررا للخروج من دائرة العقل والمنطق إلى دائرة الخبل والجنون والفسوق ؟

* إن مثل هؤلاء الذى يسرقون عقول البشر ويسلبونها منهم بوسائل التخدير والتنويم المغناطيسي الحديثة أخطر على مجتمعنا من ناهبى الأموال وسارقى ثروات الشعب . إن الأموال إذا سرقت ونهبت بمكن لصاحبها أن يعوضها ويأتى بمثلها أو أكثر , لكن العقول إذا سرقت فإنها لاترد ولا تعود لأن العقول مثل الزجاج كسرها لا يجبر . قال بعض الحكماء : احذروا أعداء العقول ولصوص المودات , إذا سرق اللصوص المتاع سرقوا هم المودات .  إنهم مروجو الكذب والفتن والشائعات الذين لاعقل لهم ولا دين ولا ضمير. إن الشجرة قد تقطع فتنبت من جديد ويقطع السيف اللحم فيندمل أما لسان هؤلاء فلا يندمل جرحه لأنه عميق في أعماق النفس البشرية لاينفع معه دواء الطبيب ولإبكاء الحبيب .  إن السموم التي تنساب من أفواه هؤلاء  لا تقرب مودة إلا أفسدتها ولا عداوة إلا جددتها ولا جماعة إلا بددتها , في وجوههم ألف عين وفى أفواههم ألف لسان وفى رؤوسهم ألف أذن . إذا فقد المرء عقله , فقد كل شئ بل إن شئت فقل تجرد من بشريته وإنسانيته التي ميزه الله عز وجل بها عن الحيوان الذي لايعى ولا يعقل ولاينطق .

* يقول فضيلة العلامة الفقيه الشيخ الغزالي رحمه الله وهو يحلل تلك الظاهرة الخبيثة  : ”  إننى أشعر بالخزي يوم تكون كلماتنا سائبة وكلمات غيرنا مربوطة , وأعمالنا ناقصة وأعمال غيرنا متقنة . ومن حقي أن أقول أن بيئة مثل هذه لم يصنعها الإسلام وعلينا أن نسارع إلى تغيير التناقض بين ديننا وبين حياتنا  , وأن يفهم كل منتسب إلى هذا الدين أن الأمر جد لا هزل فيه وان استباق هذا الفوضى طريق الكفر إن لم تكن الكفر نفسه . ” إننى أدعو كل صاحب فكر وكل صاحب قلم وكل صاحب منبر إعلامي مسموعا  كان أو مقروءا أو مرئيا أن يربطوا كلامهم كما يقول فضيلة العلامة الغزالى برباط الحق لا برباط الهوى وحظ النفس , كما أدعوهم أن تكون أعمالهم كاملة غير مبتورة , كاملة بكمال الحقيقة , لا ناقصة بنقص الباطل ,وان لا يكون هناك فجوة واسعة بين أقوالهم وأفعالهم , وأن يحترموا عقولنا وثقافتنا وتعليمنا . عليهم أن يكون انتماؤهم الأول والأخير للحق والحقيقة وهذا الوطن , لا انتماء مصالح شخصية ونزوات فردية .  هذا حفاظا على الدين والوطن , لأن الدين إذا ضاع والوطن إذا تمزق , فماذا تبقى لنا غير اللطم على الخدود وشق الجيوب . اتقوا الله فى دينكم ووطنكم .  ولا تكونوا كالنعامة التى دفست رأسها فى الرمال وعورتها مكشوفة أمام الجميع .
إذ لم تستحوا فافعلوا ما شئتم .والله من وراء القصد والنية .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى