آخر الأخبارتراند

فلسفة الشر في العالم بين الحرية والمركزية

بادية شكاط كاتبة في قضايا الفكر والأمة

من روائع الكاتبة الأديبة الباحثة

بادية شكاط 

رئيس منظمة “إعلاميون حول العالم” فرع الجزائر 

عضو مؤسس

في مقابل كون مترامي الأطراف،يقف الإنسان على أطراف أرض تدور،باحثُا عن النهاية ،متسائلا عن البداية،وبين البداية والنهاية تلوح في خلده أسئلة كبرى،عن أسباب لايفهمها،ونهايات لايدركها،فهذه نار تحرق،وذاك زلزال يدمر،وتلك فيضانات تغرق،ليجد أن لاجدوى من ذاك الشر المستطير،ولا نجاة من هذا المصير الخطير.

فراح بأقصى مايملك من منطق يتقصى حقيقة الشر في هذا العالم،ليحدد معالمه في دائرتين:

دائرة شر طبيعي و دائرة شر أخلاقي

فالشرور الطبيعية رآها ماثلة أمامه في الكوارث التي تضرب بالطبيعة أو الأمراض التي تفتك بجسد الإنسان …

أما الشرور الأخلاقية فهي كل مانأت عن النزعات الأخلاقية،وباءت بنوايا الفاعلين الأخلاقيين؛كالقتل و الإستبداد،وغير ذلك

غير أنه لم يدرك دائرة شر ثالثة،فيها تتداخل الأولى بالثانية،فيحدث شر يبدو وكأنه طبيعي بينما هو بنوايا اخلاقية انسانية،فيعبث الإنسان بالطبيعة ويبث فيها أوبئة جرثومية،أو يحتقر فيها ذاتًا انسانية،لمجرد تجرُّد من ماهيته الحقيقية،واستعلاء فارغ على كل من يقاسمه البشرية.

وكأنّ خطاب أنا خلقتني من نار وهو خلقته من طين الذي في القرآن الكريم،وحي لايزال يتنزّل على الأنفس الشيطانية،لتصير العنصرية،الكراهية،القتل،التدمير مشروعة بشرعية الأفضلية،فأن تكون مثلا من عرق إفريقي،أو بعقيدة اسلامية ،فإنك حتمًا ستتحول الى شر وجب سحقه دون مبالاة بدعوى الحرية،فمن ذا الذي يمكن أن يجرّم من يدوس بقدميه على صرصور،أو يجعل لمقتل نملة شعوبًا تثور؟

فماهيتك الإنسانية لم تعد كما هي،فالحرية التي منحنا خالق هذا الكون لنميز بها بين الخير والشر،صارت دريعة لممارسة كل شر،فكما يقول المفكر الفرنسي الذي انصف الثورة التحريرية الجزائرية “ادغار موران “ :“في البعض من الحالات يمكن أن يحدث فعل سلمي عنفًا غير متوقع،وفي حالات أخرى يمكن أن يفضي فعل عنيف إلى السلم…التاريخ يختلط مع الهذيان، وفيه يمتزج الصخب والعنف بعقلانيات ملتبسة،وهذا مبرر آخر لكي أكون معاديًا للعنف،ورافضا له”

فلم تعد البشرية بحاجة فقط الى قوانين ومواثيق دولية تحمي بها الانسان من الشر،بل صارت أحوج الى ضوابط تعرّف بماهية الشر ،فأن يكون الشر في حقبة تاريخية ما،هو نفسه خير في حقبة تاريخية  أخرى،أو يكون غير قابل للقياس كفعل إلا من خلال الفاعل،فيصبح الفاعل هو من يُبقي الشر شرًا أو يحوله إلى خير،كل ذاك هو محض سفسطة وإفضاء للفوضى،بحمل المتناقضات في سلة من المعايير واحدة. 

وقد يبدو للبعض أن ضبط مفهوم للشر ليس ذو أهمية بينما هو من قد يحدد أهمية أي انسان داخل بوثقة هذا المفهوم،فكمثال على ذلك الأحداث الأخيرة في فرنسا،التي جعلت من الفعل الإرهابي الواحد شر إذا ارتبط بالدفاع عن مقدسات دينية،وليس بشر إذا ارتبط بقتل شخصيات إسلامية.

وكما تقول المفكرة كلاوديا كارد بأنه “إن كان احتمال إساءة توظيف مصطلح ما أيديولوجيا سببًا كافيًا للتخلي عن المفهوم،فربما يتوجب علينا التخلي عن كل المفاهيم المعيارية وخاصة “الصواب” و “الخطأ”،فإن المتشككين في الشر لا يعتقدون أنّ علينا التخلي عن كل المفاهيم المعيارية،فلماذا إذن يعتقدون أن علينا التخلي عن مفهوم الشر ؟”

لقد بات تحديد مفهوم الشر ضرورة حتمية،فحتى وإن لم يتمكن مفهوم الشر من توفير تفسير مكتمل لأداء فعل ما،كما تقول المفكرة إيف جيرارد ،فإنه يستطيع تقديم تفسير جزئي،فعلى سبيل المثال فإنّ الأفعال الشريرة هي نتاج دافع معين،فيكون القول بأنّ فعلا ما فعل شرير يعادل القول أنه نتاج ذاك الدافع،وهذا يقدم تفسيرًا جزئيًا لماذا ارتكب الفعل.

غير أن إيف جيراد وهي تحاول نقد نيتشه وغيره من الفلاسفة الذين لايرون جدوى من تحديد مفهوم للشر،قد غفلت عن أمر غاية في الأهمية،ألا وهو تفسير الدافع نفسه،فهناك من يرى دافعه خير بينما هو شر،وهذا يجعلنا ندرك أنّ ماهية الخير والشر لاتتحدد من خلال الدوافع ،وإلا فإننا سنجعل من الميكيافيلية قيمة اخلاقية تحدد معيار الخير مقابل الشر،بينما الذي يحدث أن الإنسان كائن مركب من عوامل مادية وأخرى روحية،وكلما جنح إلى المادية حلّق بعيدًا عن القيم الأخلاقية بصفتها أحد الدلالات الروحية.

فتمركز الإنسان حول المادة جعله وهو يحاول الإبقاء على الإنسان أفنى الإنسانية كقيمة روحية،وقد بدأ هذا الفناء تدريجيًا من مرحلة حاول فيها الإنسان أن ينفصل عن الذات الإلهية،بالتمركز حول ذاته،فصار يعتقد أن لاوجود لإله يقبل كل هذا الشر الذي يحدث في العالم،غير مدرك أن الإله قد جعل الخير والشر مخلوقين ،ولم يجعلهما مطلقين،وإلا تناقض ذلك مع ذاته العلية،فلو كان الخير مطلق لكان إلها،فلا مطلق إلا الله،ثم بعد أن فشل في مرحلة فهم الغاية من خلق الشر والخير وماملّكه الله عز وجل من حرية،إنتقل إلى مرحلة الإنفصال عن الدين،وأسّس  لنفسه المركزية،وجعل من نفسه غاية وكل ماسواه هو مسخّر لخدمة هذه الغاية.

فظهرت الإمبريالية الإستعمارية المتوحشة كمركزية كبرى فيها امتدت مركزية الإنسان إلى مركزية أمة،فصار يمكن لأمة تؤمن بغائية هذه المركزية أن تبيد أمة أخرى،

وظهرت تباعًا لذلك النزعات العنصرية التي حوّلت أممًا إلى وسائل تخدم مصالح أمم أخرى،وظهرت حركات كالنازية والفاشية والصهيونية،..إلخ

ثم عاد الإنسان إلى المركزية الصغرى التي منها انطلق،وصار يبحث عن صورة من الألوهية،فيها يكون هو السيد كفرد على مجموعة من الأفراد،فيُحيي ويُميت،يغني ويفقر،…دون أن يرى في ذلك أي وجه من وجوه الشر،بل يراه غاية كبرى من غايات خلق البشر.

مايجعلنا ندرك أن الشر فلسفة وقيمة مهمة للحفاظ على بقاء دون فناء،معالمها تتحدد بالحرية،وتضبط بالخلاص من المركزية.

                                                                                      

بادية شكاط كاتبة في قضايا الفكر والأمة    

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى