الأرشيف

قصة وعبرة

قصة وعبرة

بقلم-سلطان-إبراهيم-عبد-الرحيم

بقلم /سلطان إبراهيم عبد الرحيم 

امتزجت ثلاثية البرد القارص والظلام الحالك والسكون الشديد لتضفي على القرية جوا من الرهبة والخوف في ذلك الوقت المتأخر من ليل يناير.. بينما هناك في وسط زراعات القصب قد اجتمع عدد من رجالات الليل في خص يدخنون التبغ ويحتسون الشاي ويستدفئون بنيران موقدهم.. تتعالى أصواتهم بالسمر وتشق ضحكاتهم الصمت في غير هيبة.. وفي ناحية الخص جلس زعيمهم حمزاوي غارقا في تفكيره ممسكا بالنارجيلة يجذب أنفاسا منها بعمق وينفث الدخان بقوة.. وفجأة يهب من جلسته ملقيا بالنارجيلة من يده في توتر باد ليهتف في رجاله:

“لقد حان وقت العمل يا رجال وقد آن لحمزاوي أن يوفي بنذره” .

يهب الجميع وقوفا يستمعون إلى زعيمهم في صمت وعيونهم مشدودة إليه في هيبة وقد تحفزت حواسهم وتهيأت أسلحتهم وهو يقسم أدوارهم قائلا:-

“مغامرة اليوم تحتاج إلى رجال يعشقون الخطر تتعالى همتهم”.

قالوا :- نحن رهن إشارتك يا ريس – طوع أمرك – وخلفك حيث توجهت.

يلتفت حمزاوي إلى عطوة قائلا:- هل فعلت ما أمرتك به ؟!

نعم يا ريس على أكمل وجه.

يصمت برهة ثم يهتف في عزم:- إذا هيا بنا للعمل حتى لا يتأخر الوقت.

انطلق الرجال يملؤهم التصميم على تنفيذ المهمة رغم ما يحوطها من خطر حيث عزموا على سرقة الدار الملاصقة لنقطة الشرطة ليؤكدوا سطوتهم على الناحية كلها وتحديهم لرجال الشرطة.. لذلك تعهد حمزاوي على غير عادته أن يقوم بتنفيذ العملية بنفسه إمعانا في التحدي.

وكان عطوه بالفعل قد نجح في مهمته الموكلة إليه فقد راح الضابط والعسكر في ثبات عميق وصوت شخيرهم قد ارتفع إلى مسامع حمزاوي الذي ابتسم وهو يتسور الدار.. وبخفة الفهد يقفز إلى الداخل.

لم تكن الدار سوى غرفة واحدة لها مدخل يؤدي بابه إلى الشارع الرئيسي بجوار باب النقطة… ألقى حمزاوي نظرة فاحصة على المكان ليجد البقرة في ناحية من الغرفة.. وفي الناحية الأخرى صندوق خشبي قديم به بعض الملابس الرثة.. وفوق غطائه كسيرات من الخبز اليابس وبجواره جرة بها بعض الجبن.. بينما في مدخل الدار قد افترشت صاحبة المنزل حصيرا لها تكومت عليه وسط ثلاثة من صغارها وفوقهم بطانية قديمة.

تردد حمزاوي في حل البقرة من مربطها حين رأى خلو الدار من المتاع ولمس الفقر المدقع الضارب بجذوره في الدار.. ولكنه حسم الأمر وقام بحلها حتى لا يظن أحد أنه تخوف من خروجه بالبقرة ومروره بها من أمام النقطة.

تقدم حمزاوي خطوات وعلى الضوء الخافت المنبعث من لمبة الكيروسين أخذ ينظر إلى هذا البؤس البادي على وجه المرأة المتشحة بالسواد وعلى وجه صغارها الأيتام وللحظة أحس نحوهم بالشفقة.. فصرخت في أعماقه التساؤلات.. ما هذا يا حمزاوي ؟! أين مروءتك يا رجل حتى تسطو على بيت امرأة مسكينة.. وأيتام صغار؟! ألم تجد غيرهم لتفجعهم في بقرتهم التي ربما لم يكن لهم غيرها؟!

لكنه أبعد الخاطر عن ذهنه حين تذكر أنه أوشك على تحقيق حلمه وتمريغ هيبة الشرطة في الوحل.. لم يعد هناك مجال للتراجع يا حمزاوي!! هكذا تمتم وهو يتقدم ليلكز المرأة بقدمه كي تفسح له طريقا ينفذ منه وسط هذا الكوم من اللحم ..

انتبهت المرأة مذعورة وامتقع لونها وتفصد وجهها عرقا.. وأخذت تلهث وهي تتطلع إلى وجه الرجل وإلى يمينه التي تمسك بإحكام ببندقيته الآلية وقد صوبت فوهتها إليها بينما أمسك حبل البقرة في يساره.. فتساءلت وهي تحضن أطفالها وتضمهم إليها في قوة – بصوت متحشرج من أنت ؟! ما هذا؟!  ماذا تريد منا ؟!

لكزها بقدمه آمرا إياها بالصمت فاستوعبت الموقف..

وعلى الفور أخذت تلملم أجساد بنيها الذين قد انتبهوا من رقدتهم مذعورين وقد عقد الخوف لسانهم وازداد تشبثهم بأمهم..

حاول التقدم فلم تطاوعه البقرة..

أخذت المرأة تنظر إليه والدموع تنهمر من عينيها.. نفذت نظراتها إلى سويداء فؤاده.. وقرأ حمزاوي في هذه النظرات الكثير مما لم تنطق به هذه المرأة وعلم أنها تجرعت من كؤوس الأسى حتى الثمالة.. أحست بتأثره فاجترأت على مخاطبته قائلة : لا تخشى شيئا يا ريس فلن أصرخ ولن أفعل شيئا يضايقك فخذ بقرتنا التي لا نملك سواها في الدنيا وتوكل على الله.

 كانت كلماتها كالخنجر الذي يمزق أحشاءه فاهتزت البندقية في يده.. حاول أن يقول شيئا ولكن احتبست الكلمات بصدره مخلفة مرارة شديدة.

 أحست المرأة بأنها حققت شيئا من النجاح فواصلت حديثها.. خذ بقرتنا يا ريس ولكن لتعلم أن هؤلاء الأيتام ليس لهم مصدر رزق ولا مال سواها.. فخذ بقرتنا يا ريس وافجعنا فيها فليست الفجائع بجديدة على الدار والصغار.. فقد مات عائلهم من عدة أشهر ولم ترقأ دمعاتهم بعد.. فخذ البقرة وانصرف يا ريس فلنا رب اسمه الكريم.. خلقنا ويتكفل بنا …

لم يكن حمزاوي منذ أن صار من رجال الليل يتوقع أنه سيجيء اليوم التي تطفر عينه بدمعة.. فلقد كان يرى ذلك عارا لابد من اجتنابه.. وسبة يحاذر لصوقها به حتى أسماه رفاقه بالصخرة.. ولكنه رغما عنه وجد نفسه يبكي وهو يعود أدراجه ليربط البقرة مكانها..

خفض سلاحه ونكس رأسه وخرج من الدار بينما رفعت المرأة يدها إلى السماء داعية له بالستر والعافية وأحس لحظتها بأن باب السماء مفتوح..

تنفس الصعداء حينما خرج لأصحابه الذين فوجئوا بخروجه بدون البقرة.. وراعهم منظره فأمطروه بوابل من الأسئلة هل حدث ما تكره ؟! هل وجدت شيئا لم يكن في الحسبان ؟! هل.. هل.. ؟! لم يجب على أحد ومضى صامتاً.. تهيبوا صمته فصمتوا ومضوا خلفه حتى بلغ أطراف القرية وفجأة وقف متوجها إليهم يقول:-

من الآن أنتم في طريق وأنا في طريق.. ولن أعود إلى السرقة مرة أخرى.

صعقتهم الكلمات وتملكتهم الحيرة حينما انخرط في بكاء شديد لم يعهدوه من قبل بينما صدح المؤذن بآذان الفجر

الله أكبر الله أكبر

عندما أشرقت الشمس خرج حمزاوي من المسجد يمسح بأطراف كمه دمعات تسيل من عين محمرة من طول السهر والبكاء.. وقد عزم على التوجه إلى البيت الذي زاره ليلا.. لكنه هذه المرة جاء ليخطب المرأة إلى نفسه منهيا حياة الصعلكة والعزوف عن الزواج.. عازما على كفالة هؤلاء الأيتام بالمال الحلال نظرت المرأة إلى سيل الدمع المتدفق من عينيه فأحست بصدقه ونبله فقبلته زوجا لها وأبا لأبنائها.

–  تمت –

 

 

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى