تقارير وملفات إضافية

كيف تستعد السعودية للسنين العجاف؟ الأمر أكبر من وقف مشروع نيوم

يبدو أن المملكة العربية السعودية تستعد لسيناريو كارثي بسبب انهيار أسعار النفط بعد حرب الطاقة الأخيرة مع روسيا وفي نفس الوقت جاء فيروس كورونا المستجد ليعطي ضربة قوية للخطط الرياض التي من المتوقع أن تستغرق وقتاً طويلاً في التعافي من الأزمة الحالية مما يشبه السنين العجاف، بحسب تقرير لموقع AL-Monitor الأمريكي.

ربما يكون وزير المالية السعودي، محمد الجدعان، قدم الرسالة الأكثر منطقية وحسماً للمواطنين بشأن مستقبلهم الاقتصادي: “ستختلف الأمور، وقد يتطلب تدارك الأوضاع بعض التعديلات المؤلمة”. كان يمكن أن يقال الشيء ذاته من أي وزير مالية في دول مجموعة العشرين، فيما يتعلق بتوقعات التعافي الاقتصادي ما بعد أزمة كورونا، لكن بالنسبة للسعودية، كانت فاتورة الحساب التي يجب أن تُدفع ستأتي إن عاجلاً أو آجلاً؛ كل ما فعله فيروس كورونا هو أنه عجّل بقدوم ما كان سيأتي في المستقبل.

إذ الاعتماد على عائدات النفط والإنفاق العام الضخم على الرواتب والمزايا الاجتماعية له حدود. وقد أُثقل النظام بأعباء تزيد عن طاقته. ومما قاله الجدعان: “لا يزال الاقتصاد السعودي يعتمد اعتماداً كبيراً على الإنفاق العام، ومن ثم علينا الحفاظ على التمويل العام حتى نتمكن من الاستمرار في دعم الاقتصاد للسنوات القادمة. المالية العامة بحاجة إلى مزيد من التنظيم.. سنخفض الإنفاق، إن شاء الله، حتى وإن كانت بعض الخطوات المتخذة مؤلمة؛ فهي لصالح الجميع، لصالح البلاد ولمصلحة مواطنيها”.

كيف تبدو إذن الأمور حالَ تطبيق انخفاض كبير في الإنفاق العام في السعودية؟ هناك طرق سهلة لتقليص حجم الإنفاق في الميزانية السعودية، بدايةً بالمشاريع الضخمة مثل مشروع نيوم العملاق المخطط له، وحتى الانتقال إلى ما هو أقل حيث الوزارات والعمل على جعلها أكثر فاعلية وأقل إنفاقاً. ثم هناك قطاع النفقات العسكرية، وهو موضع آخر يسهل العثور فيه على وفورات في التكاليف، كما أن التوصل إلى حل للحرب القائمة في اليمن سيفضي إلى قطع شوط طويل فيما يتعلق بتخفيض الإنفاق، غير أن ما يفوق كل ذلك صعوبةً هو تخفيض فاتورة أجور القطاع العام. 

ومن أجل توفير نوع من الإجراءات الرامية إلى التخفيف من حدة آثار فيروس كورونا وتحفيز البلاد اقتصادياً، كان هناك بعض تراجعٍ عن تطبيق القرارات الخاصة بتحصيل رسوم تأشيرات العمل وخفض الدعم المخصص للكهرباء والمياه، مع تحمل الحكومة 30% من رسوم الاستخدام الخاصة بالمصانع وتعليق بعض رسوم تأشيرات العمالة التي تدفعها الشركات الصغيرة والمتوسطة (التي تضم أقل من 9 موظفين) لمدة ثلاث سنوات، وتخفيض رسوم تأشيرة المغتربين للشركات الصناعية بنسبة 25%. ومع ذلك، فإن الجمع بين إجراءات التحفيز لدعم استثمارات القطاع الخاص، ودعم المرتبات للإبقاء على وتيرة الاستهلاك المحلي وفي نفس الوقت توفير الأموال للوفاء بالتزامات الإنفاق الحكومي، كل ذلك في آنٍ معاً سيكون بمثابة ملء دلوٍ مثقوب من أسفله.

والحال أن السؤال عما يجب استقطاعه من الميزانية أسهل في الإجابة عنه من السؤال عن سبب عدم القيام بذلك من قبل. إذ لا غرابة في أن تحاول إدارة عجز مالي أو أن تحاول الوصول إلى أسواق رأس المال الدولي للحصول على قروض لتجاوز فترة اقتصادية صعبة. ولن تكون السعودية الدولةَ الوحيدة في محاولة القيام بأي منهما. 

لكن ما يجعل هذه الأزمة مزعجة بشدة بالنسبة للمملكة هو أنه لا يوجد أي سبب وجيه يدعوها لتوقع انتعاش الإيرادات المستقبلية إلى ما كانت عليه حتى وقت قريب، لا سيما الفترة الخاصة أو ما يسمى “العِقد السحري” من 2003 إلى 2014، عندما ارتفعت عائدات النفط إلى حد كبير. لقد انتهت تلك الأيام، ومع ذلك فإن نموذج الإيرادات الحكومية لم يُعدَّل، والأمر نفسه فيما يتعلق بأنماط الإنفاق التي لم تتغير. فالأسباب الهيكلية للعجز الحالي هي نفسها كما كانت عندما انخفضت أسعار النفط في أواخر عام 2004. لكن حلول الأزمة المزدوجة المتمثلة في جائحة كورونا مع انهيار أسعار النفط، جعلت المحتوم يقع في وقت أقرب فحسب.

لقد بات إضافة المزيد إلى أرباح عوائد النفط التي جرى تكديسها خلال ارتفاع الأسعار من 2003 إلى 2014 غير ممكن في ظل أسعار النفط الحالية، ولا حتى المتوقعة في المستقبل القريب. وقد أظهرت دراسة لشركة HSBC للخدمات المصرفية، إلى جانب بيانات من وزارات المالية المحلية وبيانات موقع CEIC، أن دول مجلس التعاون الخليجي أبقت باستمرار، منذ عام 2014، على مستويات إنفاق تصل في المتوسط إلى 550 مليار دولار سنوياً، وإن كانت إيرادات 2015-2019 تتراوح بين أقل من 400 مليار دولار بالكاد إلى 500 مليار دولار لكل عام. (هذا في حين بلغ متوسط الإيرادات الحكومية لدول مجلس التعاون الخليجي نحو 700 مليار دولار سنوياً في عام 2012 وأوائل عام 2013). 

ولمّا كان تحقيق الاستقرار الحكومي والاجتماعي أولوية تفوق أي ثمن، فإن المستقبل إذن هو مزيد من الديون، وفي النهاية، نوع مختلف من السياسة المالية. كما أن فاتورة أجور القطاع العام كبيرة على جميع مصدري النفط (العراق مثلاً في وضع صعب للغاية، والكويت كذلك، لكنها لديها المزيد من الموارد لتخفيف ما يبدو أنه سيكون عجز لن ينتهي أبداً).

وفيما يتعلق بالسعودية، فمن الواضح أنه يجب أن يكون هناك عملية تقليص للإنفاق العام، ومع ذلك فإن أجور القطاع العام ستكون آخر من يخضع للتقليص في تلك العملية. (أقرت الحكومة مؤخراً تعديلات من شأنها السماح بتقليص الأجور في القطاع الخاص بنسبة تصل إلى 40%، وقد ضمنت الحكومة في وقت سابق دعمَ أجور المواطنين العاملين في القطاع الخاص بنسبة تصل إلى 60% من رواتبهم من خلال صندوق دعم تبلغ ميزانيته 2.4 مليار دولار). كان هناك بعض المساعي في الفترة من 2016-2019 لتجميد التوظيف الحكومي، وتقليل بعض مزاياه لتحويل أكبر عدد ممكن من المواطنين إلى العمل في القطاع الخاص، لكن الأمر لم يمض بيُسر. وفي الوقت الحالي، فإن الحماية الاجتماعية التي يمتلكها معظم السعوديين تتمثل في الوظيفة الحكومية. وهي أفضل طريقة للحكومة للحفاظ على مستويات الاستهلاك، أو على الأقل الحيلولة دون انهياره.

إن إجراءات الدعم الحكومي تلك تعادل تدابير إعانة البطالة في الولايات المتحدة، لكنها تختلف في أنها لا تفعل أي شيء لتعزيز الإنتاجية أو النمو الاقتصادي. إنه نمط ثابت لإبقاء الناس تحت السيطرة بوصفهم موظفين حكوميين، ودعم الاستهلاك المحلي الخاص بالسلع الأساسية. وفي الوقت الحالي، يبدو المستهلك السعودي مثل نظرائه في جميع أنحاء العالم: مهما كانت قدرته الخاصة بالإنفاق على الملابس والسلع الفاخرة والسفر والاستضافة، فإنه نظراً للإغلاق العام يزداد استهلاكاً للطعام فقط. 

ومن ثم لكي تخفض الحكومة النفقات، يجب أن يتم التخلي عن الإنفاق الرأسمالي أولاً، سواء أكان على المشاريع العملاقة أم حتى على المشاريع الحكومية الضخمة. وتقليص السحب العسكري من الاحتياطيات، وربما أيضاً عن عمليات البيع المحتملة لأصول من صندوق الاستثمار العام، إذ على الرغم من عمليات الاستحواذ البارزة والصاعدة الأخيرة، فإن عمليات الخصخصة المحتملة في الأصول التي جرى التخطيط لها بالفعل قد تجني الآن إيرادات أقل من المتوقع.

أما فيما يتعلق بالعقد الاجتماعي، فإن التقديرات تشير إلى أن المستقبل سيكون مختلفاً. فمتوسط الدخل سيكون أقل. لن يعيش الشباب بالطريقة التي عاش بها آباؤهم. وقد يكتفي معظم الشباب بهذا الواقع إذا شعروا بأن فرصهم وحرياتهم الاجتماعية تستمر في التحقق والانفتاح تحت قيادة ولي العهد محمد بن سلمان. ومع ذلك، فإن ما ظل صامداً بالفعل من خطوات رؤية 2030 هو إعادة هيكلة سوق العمل، إذ سيفقد العديد من العمال الأجانب وظائفهم ويغادرون المملكة، وهو ما يفسح المجال لمزيد من المواطنين للدخول إلى سوق العمل بحكم الضرورة. قد تذهب المصاعب الاقتصادية والتبريرات القوية بالحفاظ على المصلحة الوطنية في مصلحة ولي العهد وتعزيز سيطرته. لكن سيظل هناك العديد من السعوديين الأثرياء وأصحاب النفوذ، ومنهم أفراد من العائلة الحاكمة، يرون قيادته للبلاد فيما يتعلق بحرب أسعار النفط والإنفاق على المشروعات الباذخة دليلاً على فشل عملية انتقال اقتصادية. وهم أكثر من لديه ما يخسره في تدابير التقشف العسيرة القادمة.

المصدر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى