تقارير وملفات إضافية

«لا أحد يريد حرباً».. ما مدى واقعية النظريات التي ترى أن العالم يتجه نحو بيئة أكثر سلماً وأماناً؟

عام 2011، نشر عالم النفس ستيفن بينكر كتابه الأكثر مبيعاً The Better Angels of Our Nature الذي يناقش فكرة جريئة: وهي أن كل شكل من أشكال العنف تقريباً، التي منها الحروب، في تراجع. يقول بينكر إنه بفضل انتشار قيم عصر التنوير، أصبح البشر أكثر سلاماً وأقل تعطشاً للدماء. ورداً على سؤال في مقابلة أجراها عام 2014 حول ما إذا كان البشر سيعودون إلى ماضيهم العنيف، أجاب بينكر: «حسناً، ما نسبة احتمال أن نبدأ في إلقاء العذارى في البراكين ليتحسن الطقس أو أن نعود إلى أسواق الرقيق في «نيو أورليانز»؟ أعتقد أنها منخفضة جداً».

تقول مجلة Foreign Policy الأمريكية إن بينكر لم يكن أول من توقع نهاية الحروب. إذ طرح عالم السياسة جون مولر فكرة مماثلة أواخر الثمانينيات، قال فيها إن حرب القوى العظمى، مثلها مثل العبودية، أصبحت موضة قديمة. ومنذ العقد الأول من القرن العشرين، نُشر ما لا يقل عن ثلاثة كتب تبشر بتراجع الحرب. وكان أشهرها، The Great Illusion، الذي ألفه نورمان أنجيل، والذي نُشر قبل أربع سنوات فقط من بداية الحرب العالمية الأولى (كان مما كتبه: «كيف يمكننا أن نتوقع استمرار الصفات التي تدعو للحرب، في الوقت الذي تتجه فيه اهتماماتنا وأنشطتنا نحو السلام؟»).

وينضم إلى هذا النقاش بير براومويلر، عالم السياسة والإحصاء في جامعة ولاية أوهايو، الذي يقوّض آخر كتاب له Only the Dead فكرة تراجع الحرب. وفي وسط صفحات تحليلات البيانات والإحصاءات، يكتب براومويلر بأسلوب واضح يفهمه القارئ العادي. ويكتب: «على مدى المئتي عام الماضية على الأقل، لا أجد ما يدل على تراجع اشتعال الحروب أو ما تسببه من وفيات، وإنما العكس هو الصحيح». ويحذر قائلاً: «ليس من المستبعد إطلاقاً أن تحدث حرب أخرى تفوق الحربين العالميتين في تدميرهما أثناء وجودنا على قيد الحياة».

ينبع هذا الاختلاف بين براومويلر وبينكر بصفة أساسية من الفرق في فهمهما للبيانات. فمنذ الحرب العالمية الثانية إلى يومنا هذا، يبدو أن الصراع الدولي آخذ في التراجع بالفعل. إلا أن الصورة تبدو أقل تفاؤلاً عن إلقاء نظرة شاملة: فعلى مدار القرنين الماضيين زاد معدل نشوب الصراعات بين الدول فعلياً (لا تظهر الرسوم البيانية لبينكر هذا الأمر، كما يقول براومولير، ويرجع ذلك جزئياً إلى أنها تضم بيانات من أوروبا فقط). 

وبصرف النظر عن الحربين العالميتين، كانت الحرب الباردة هي أكثر الفترات المشحونة بالصراعات منذ حروب نابليون؛ وكانت نهاية الحرب الباردة هي المرة الأولى التي ينخفض فيها معدل اشتعال الصراعات منذ حوالي 200 عام. ومعدل اشتعال الصراعات هو مقياس لعدد المرات التي تلجأ فيها الدول إلى القوة مضافاً إليها عدد فرص وقوع العنف. لكن براومويلر يقول إن النتائج التي توصل إليها تحمل الكثير بغض النظر عن طريقة قياس معدلات نشوب الحروب؛ فحتى عندما يقيم المرء ميل الدول لشن حروب شاملة، كانت الحرب الباردة واحدة من أكثر الفترات التي ازداد فيها الميل إلى الحروب خلال المئتي عام الماضية بعيداً عن الحربين العالميتين.

يميل المتفائلون لفكرة تراجع الحرب إلى اعتبار إحدى الحربين العالميتين أو كلتيهما من الحالات الشاذة، ويركزون بدلاً من ذلك على فترة السبعين عاماً المعروفة باسم فترة «السلام الطويل» التي أعقبتهما. ولكن دون إحصائيات أكثر دقة، يستحيل معرفة ما إذا كان السلام الطويل الذي دام سبعة عقود منذ الحرب العالمية الثانية يدل بشكل قاطع على أن العالم أصبح أكثر سلمية؛ إذ من الممكن أن يكون هذا من قبيل الصدفة فحسب. 

وفي محاولة لمعرفة الاحتمال الأكثر ترجيحاً، يستعين براومويلر بطرق إحصائية رسمية لفصل المعدل الأساسي لاشتعال الحروب ومعدل فتكها عن فوضى التباين العشوائي. ووجد أن معدلات فتك الحروب لم تتراجع في المئتي عام الماضية، سواء عند قياسها بالأرقام المطلقة أو بالنسبة لأعداد سكان الدول المتحاربة؛ وأن قوة أسباب الحرب لم تتراجع بمعدل منتظم؛ ورغم أن معدل اشتعال الصراعات الدولية انخفض نهاية الحرب الباردة،  كان في الواقع يرتفع بشكل مطرد حتى التسعينيات.

تحليل براومويلر للبيانات دقيق ومقنع. وربما كانت أكثر النتائج التي توصل إليها إزعاجاً هي إمكانية تصعيد الحروب. والحروب، مثل الزلازل والهجمات الإرهابية، تتبع توزيعاً غير تقليدي للاحتمالات يعرف باسم قانون القوة: الغالبية العظمى من البيانات صغيرة نسبياً في الحجم، لكن القليل منها كبير بدرجة غير عادية. في الواقع، أحد أهم نقاط قوة كتاب براومويلر هو اهتمامه بالصراعات الأقل شهرة ولكنها عنيفة بشكل ملحوظ. 

على سبيل المثال، عند إحصاء حالات الوفاة في المعارك من حيث نسبتها من سكان الدول المتحاربة، لا تصبح الحربان العالميتان من بين الحروب الثلاث الأكثر فتكاً على مر العصور، إذ تفوقت عليها حرب الباراغواي في ستينيات القرن التاسع عشر، وحرب تشاكو بين باراغواي وبوليفيا في الثلاثينيات، والحرب الإيرانية العراقية في الثمانينيات. ويكتب قائلاً: «تتصاعد الحروب بسرعة أكبر وتصل إلى درجات مذهلة، أكثر من أي شيء آخر موجود في الطبيعة».

ويوضح براومويلر من تحليله للحروب منذ عام 1945 أنه حالما تشتعل الحروب، يظل احتمال تصاعدها اليوم بقدر مدمر هو نفسه الذي ظهر عام 1913 أو 1938. واليوم، يقدر براومويلر أن فرصة تصعيد حرب جديدة لتكون فتاكة مثل الحرب العالمية الأولى تبلغ حوالي 1%. وفرصة اندلاع حرب جديدة يقارب عدد قتلاها ضعف قتلى الحرب العالمية الثانية، التي قتل فيها حوالي 65 مليون شخص، هي واحدة من كل 200. 

قد تبدو هذه النسب منخفضة إلا أن براومويلر يشير إلى: «إذا واصلنا خوض الحروب التي يتجاوز عدد قتلاها 1000 شخص بمعدل حرب واحدة تقريباً كل عامين، يقفز احتمال نشوب مثل هذه الحرب في القرن القادم إلى ما يقرب من 40%. ولأن صدامات القوى العظمى لم تتحول إلى حرب شاملة منذ الحرب العالمية الثانية، تظل «الديناميات التصعيدية التي أدت إلى مجازر جنونية في حرب الباراغواي، وحرب تشاكو، والحرب الإيرانية العراقية والحربين العالميتين ممكنة الآن كما كانت حينها بالضبط».

وفضلاً عن زعمهم أن البيانات تدعم فكرتهم، يزعم أنصار فكرة «تراجع الحروب» أن ثمة تغييراً جوهرياً في إدارة السياسة الدولية قد حدث: إذ يؤكدون أن الحرب أصبحت غير واردة. والبعض، مثل مولر، يعزو هذا التحول إلى التغيير في مواقف البلدان المتقدمة؛ ويشير آخرون إلى صعود عمليات حفظ السلام والمنظمات الدولية، أو الأثر الرادع  للأسلحة النووية. 

ويُرجع بينكر، من جانبه، تراجع العنف لعدة عوامل متداخلة، ومنها ما يسميه «عملية التحضر»، التي من خلالها ساعد توحيد سلطة الدولة في الحد من العنف داخل الدول، و»الثورة الإنسانية»، وتنامي الشعور بالتعاطف الذي ساعد في توسيع نطاق الحقوق ليشمل الناس من جميع الأعراق والنساء، وأدى إلى إلغاء العبودية، وعزز الأعراف التي تمنع الحرب في النظام الدولي.

لا يشكك براومويلر في أن ظهور الدول الحديثة قد قمع العنف داخلها. لكنه يدفع بأن المنافسة العنيفة بين الدول مسألة مختلفة. إذ إن تعقيد النظام الدولي يجعل من الصعب افتراض ترجمة حقيقة أن الناس أصبحوا أكثر سلاماً -إذا كان ذلك حقيقياً- إلى تراجع العنف بين الدول. 

ففي النظام الدولي اللاسلطوي، حيث يجب على الدول أن تتصرف بطريقة استراتيجية للحفاظ على مصلحتها، لا يوجد ما يضمن أن جمهوراً أكثر سلمية سيؤدي إلى سياسة خارجية أقل عنفاً أو إلى عالم أكثر سلماً. إذ كان قرار ألمانيا بدعم النمسا عشية الحرب العالمية الأولى، على سبيل المثال، مستنداً جزئياً إلى اعتقاد بأن القوى الأخرى قد تبنت السلام. إذ قال أحد الدبلوماسيين الألمان إن «إنجلترا سلمية بالكامل، كما أن فرنسا وروسيا لا تميلان إلى الحرب أيضاً». 

أما بالنسبة للأسلحة النووية، فهناك تاريخ طويل من المزاعم بأن التقنيات العسكرية السابقة جعلت الحرب فكرة غير واردة، وصحيح أن الأسلحة النووية قد تمنع تصعيد صراعات القوى العظمى، إلا أنها أوجدت أيضاً طرقاً جديدة يمكن أن تبدأ بها الدول الحرب، على سبيل المثال من خلال الإطلاق العرضي لواحد من مئات الصواريخ التي تحتفظ بها الولايات المتحدة وروسيا في حالة «الإطلاق بمجرد الإنذار».

وتعد مناقشة براومويلر للنظام الدولي أحد أغنى أقسام الكتاب. فرغم أنه لم يجد أي دليل على تصاعد ثابت نحو عالم أقل ميلاً للحرب، يجد براومويلر ما يسميه «جزر السلام» على مر التاريخ، وهي الفترات التي يكون فيها احتمال نشوب صراعات دولية أقل بكثير مما هو عليه في الفترات الأخرى. ويعزو هذه الجزر إلى ظهور الأنظمة الدولية. ويعد النظام الغربي الذي أعقب الحرب أحد الأمثلة على ذلك، لكن ليس من الضروري أن تكون الأنظمة الدولية ليبرالية على الدوام. 

إذ كان «تناغم أوروبا»، على سبيل المثال، الذي تأسس في مؤتمر فيينا في أعقاب حروب نابليون، بعيداً كل البعد عن الديمقراطية، ومحاولة لجعل العالم آمناً للإمبريالية الرجعية ودحر الإصلاح الدستوري في القارة؛ وكان منبوذاً على نطاق واسع، خاصة من قبل الليبراليين البريطانيين مثل اللورد بايرون وريتشارد كوبدن وبيرسي بيش شيلي. إلا أنه حافظ على السلام لمدة أربعة عقود تقريباً، وهي أقل فترة شهدت ميلاً للحروب في بيانات براومويلر.

إن الأنظمة الدولية سلاح ذو حدين، فبينما تسهم في تعزيز السلام بين أعضائها، فإن أولئك الأعضاء معرضين لبدء الحرب مع أطراف أخرى. في الواقع، يقول براومويلر إن وجود أنظمة متعددة بشكل موازٍ، مثل تلك التي كانت موجودة قبل الحرب العالمية الثانية أثناء الحرب الباردة، تجعل من العالم مكاناً أكثر خطورة، خاصة حين يكون تشكلها مبني على مبادئ متضاربة بشأن الشرعية. إذا كان ذلك صحيحاً، فإن الشيء الوحيد الذي يشكل خطورة أكثر من سقوط النظام العالمي الليبرالي الذي تقوده الولايات المتحدة، سيكون المنافسة بينه وبين النظام المنافس الذي تقوده الصين، والذي يتسم بالاستبداد، ورأسمالية الدولة، والمراقبة الرقمية.

اليوم، ومع أوضاع تنبئ بحرب إقليمية في الشرق الأوسط تربو على السنوات الماضية، بالإضافة إلى تداعي النظام العالمي الليبرالي، وتدهور العلاقات الأمريكية-الصينية، يقدم كتاب «Only the Dead» قراءة رصينة للواقع. كان رد براومويلر الرد الأكثر جدية على ادعاءات بينكر حتى الآن. لا شك أن بينكر وغيره من المتفائلين سوف يردون في وقت قريب، وسيستمر الجدال.

لكن، الحصول على إجابة فورية هي أمر مهم، سواء حصل بقصد أو بدون قصد. يفترض براومويلر جدلاً، أن أصحاب نظرية زوال الحرب يشجعون نوعاً معيناً من الرضا، وهو أن من الناحية التاريخية، كانت الدول تعمل باجتهاد أكبر نحو تحقيق السلام العالمي حينما كان خطر الصراع في غاية الوضوح. 

في رأيه هذا، يردد براومويلر صدى صوت هنري كيسنغر، الذي كتب في سنة 1950، عن رحيل «جوقة أوروبا»، أن الإنجاز الذي تحقق في هذه الحقبة كان على حد تعبيره: «لا يحتسب: فترة من السلام استمرت لمدة تقارب المئة عام»، إلا أنه تابع كلامه قائلاً إنه كان «استقراراً متغلغلاً جداً، حتى أنه قد يكون ساهم في حدوث كارثة، لأن في فترات السلام الطويلة يضيع مفهوم المأساة، وقد جرى نسيان أن الدول قد تموت، وأن الثورات قد لا يمكن استعادتها مرة أخرى، وأن الخوف قد يصبح الوسيلة التي يتحقق بها التلاحم المجتمعي». قد شتتت الحرب العالمية الأولى الشعور بالرضا الذي ساد في تلك الحقبة، ما الشيء الذي سيؤدي الدور نفسه بالنسبة لنا الآن؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى