تقارير وملفات إضافية

لا عودة إلى الوضع الذي كان قائماً.. احتجاجات العراق أخطر تحدٍّ للنظام المفروض منذ عام 2003

تمثل الانتفاضة الجارية في العراق أخطر تحدٍّ برز حتى الآن في مواجهة النظام السياسي القائم بعد عام 2003. إذ أخذت الاحتجاجات الجماهيرية التي اجتاحت بغداد والمحافظات الجنوبية، تتصاعد حتى أصبحت تهديداً، أكبر حتى من التهديد الذي مثله تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في عام 2014، يُنذر بانهيار النظام السياسي القائم برمته، كما يقول فنار حداد، الباحث في «معهد الشرق الأوسط» في واشنطن.

ويضيف حداد في مقالة له بموقع Middle East Eye البريطاني، أنه «نادراً ما خلت طبقة سياسية من الجدارة والكفاءات مثلما خلت تلك الطبقة التي ما انفكت تسيء حكم العراق منذ عام 2003 وما بعده، طبقة لن يندبها عند رحيلها، حال حدوثه، أحد. ومع ذلك، فإن هناك المسألة الملحة التي تتعلق بكيف يمكن إضعاف مخالب سيطرتهم على السلطة، وما الخطوات القادمة حال التخلص منهم».

يقول حداد إن رد الحكومة سلّط الضوءَ على أسوأ الجوانب الهيكلية في نظام الدولة العراقية. جوانب كان أبرزها تحلّل السلطة وحقيقة أن الدولة في العراق قد تمثل أي شيء سوى كونها فاعلاً موحداً، غدا أمراً واضحاً إلى درجةٍ مؤلمة منذ بداية الأزمة.

الأمر الأكثر مأساوية، هو أن افتقار النظام العراقي إلى التجانس وانعدام المسألة الذي تتسم به الحياة السياسية في العراق قد أخذا يتسببان في عواقب وخيمة: أكثر من 250 قتيلاً، و10 آلاف مصاب أو نحو ذلك خلال الشهر الماضي فقط.

تعكس الخسائر الفادحة الخوفَ الذي أثارته تلك الاحتجاجات في أوساط الطبقة السياسية الحاكمة. كذلك يُبرز مدى هيمنة القوة العسكرية والسياسية وعدم وجود عملية صنع قرار مركزية. ومن هنا جاءت التصريحات الرسمية لرئيس الوزراء عادل عبدالمهدي فيما يتعلق بمهاجمين وقناصة مجهولين بين قوات الأمن، وهي تصريحات تؤكد عجزه باعتبار أنه قائد أعلى للقوات المسلحة.

يلفت العنف الانتباه أيضاً إلى تجاهلٍ متواتر لحقوق الإنسان، وإلى يد القمع الثقيلة التي ينتهج الأمن التعامل بها. ويتضح عدم تجانس النظام هنا أيضاً: إذ ليست كل أذرع الدولة مشتركة بنفس القدر في عمليات سفك الدماء غير المبررة وغير الضرورية.

تشير أصابع الاتهام في تلك المرحلة إلى شرطة مكافحة الشغب وقوات سوات الخاصة العراقية و «العناصر المجهولة» المذكورة أعلاه بوصفها مسؤول عن سفك الدماء. تظهر لقطات فيديو انتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي قوات أمن ترتدي ملابس سوداء وقناصة لا تُعرف انتماءاتهم تستهدف المتظاهرين. ويُزيد القلق أنه لا يمكن لأحد أن يقول على وجه اليقين من هم هؤلاء، غير أن الشكوك موجهة صوب منظومة من الميليشيات شبه العسكرية المتحالفة مع إيران والتي تنشط في العراق.

في الوقت نفسه، أعربت بعض أجنحة المؤسسة الأمنية، تشمل عناصر من جهاز مكافحة الإرهاب العراقي ومن قوات الشرطة والجيش، عن تضامنها مع الاحتجاجات. وبالمثل، سلطت الأزمة الضوءَ على حالة الفوضى الكامنة في بنية نظام الحكم العراقي.

أعربت بعض أجزاء الائتلاف الحاكم في البداية عن دعمها للاحتجاجات، في حين أكد آخرون أنها كانت نتاج مؤامرة دولية تسعى إلى تدمير العراق. ومع ذلك، فإن اشتداد وطأة الاحتجاجات وانتشارها وكثافتها أجبر الطيف السياسي برمته، في نهاية المطاف، على إبداء دعمه التام لـ «الاحتجاجات المشروعة».

تعكس الرسائل المختلطة طبيعةَ النظام السياسي العراقي. فقد كانت جميع الحكومات العراقية منذ عام 2003 «حكومات تشكلت بالتوافق» بين جميع الجهات الفاعلة الرئيسة، رغم التناقضات والعداوات الكامنة والأهداف المتعارضة فيما بينها. لكنَّ الخط الرسمي لردود الأفعال ما انفكت تؤكد أن هناك عناصر إجرامية دخيلة تعمل سراً بين المتظاهرين.

بعد كل انتخابات، يجري تقسيم المناصب السياسية بين الأحزاب الرئيسة في نظامٍ يتسم بالتواطؤ فيما بينه على الحفاظ على السلطة والوصول إلى موارد الدولة لسرقتها، والتي تُنهب على دفعات من خلال الفساد ونسيج شبكات المحسوبية التي تغطي كل جانب من جوانب الحياة العامة والاقتصادية.

يستهدف الغضب الشعبي اليوم هذا النظام بالذات: نظام قسّم العراقيين إلى طبقة حاكمة قليلة الأفراد وهؤلاء الذين على صلة بهم، وأغلبية ساحقة من العراقيين الفقراء والمستبعدين.

ومع ذلك، فإن الخلل الهيكلي الذي برز أكثر ما برز خلال الأزمة الحالية هو مدى الانفصال التام للطبقات الحاكمة عن المزاج العام للشعب.

إذ لا يبدو أن الأقلية الحاكمة من الأحزاب قد أدركت بأي شكل طبيعة الاحتجاجات وعدائها لمنظومة الحكم برمتها، كما أنها لم تستوعب كفايةً مدى تصميم المحتجين الذين أوضحوا مراراً وتكراراً أن تغيير الوجوه، والوعود بالإصلاحات المستقبلية، والإعانات المالية لن تكون كافية لإنهاء الاحتجاجات.

هذا الانفصال بين الحكام والمحكومين هو، في جزء منه، قضية جيل كامل. إذ تمثل كل رسالة شعبوية أو بادرة تعاطف تصدر عن الطبقات الحاكمة، محض تحايل لا طائل من ورائه، في أحسن الأحوال، بالنسبة إلى جيل الشباب الذي ولد معظمه بعد عام 2003، ومن ثم فهو لا يتأثر بأي استدعاء لمركزية الطائفة أو تخويفٍ من حكم بعثي أو إسلام سياسي. حتى إن حتمية «حكم الشيعة» للبلاد لم تعد قضية مثيرة للمشاعر في جمهور شيعي أصغر سناً، نما وهو لم يشهد حقيقة أخرى غير حكم الشيعة للبلاد.

لا يهتم هذا الجيل كبيرَ اهتمامٍ «بالتضحية الشيعية» ومظلوميتها واستحقاقاتها، فهو أكثر اتقاداً بالغضب من إخفاقات المنظومة الحاكمة وخللها الوظيفي والإجرام والفساد الذي اتسمت به منذ عام 2003.

وحقيقة أن نحو 58% من العراقيين هم دون سن 24 عاماً تجعل من الأمر أكثر إلحاحاً للطبقات السياسية العراقية وتحتم عليهم الاستماع إليهم وفهمهم: «احترموا شبابكم» سيكون نصيحة جيدة للمؤسسة السياسية العراقية إذا أرادت المضي قدماً.

والآن تعرب، حتى أكثر عناصر النخبة السياسية تشدداً، عن تضامنها الداعم للإصلاح. ومع ذلك، فإن الحقيقة هي أن أي تغيير حقيقي في نظامٍ ما يتطلب، في نهاية المطاف، من المستفيدين الرئيسيين من هذا النظام التضحيةَ بوضعٍ قائم كانوا يعتمدون عليه في زيادة ثرواتهم وتمكين نفوذهم في حكم البلاد.

يعرف المحتجون أن انتظار حدوث مثل هذا «الانتحار السياسي» هو انتظار لوهمٍ وانشغال بما لا طائل من تأمله. إذ بدون تهديد حقيقي لمصالح النخبة الحاكمة، فلن يكون هناك باعث حقيقي على التغيير. ومن هنا كانت دعوات الإضراب العام، ومحاولة بعض المحتجين إغلاق المنشآت النفطية وميناء أم قصر.

والحقيقة هي أنه على الرغم من الاعتراف بالمظالم الشعبية، فإن العراق واقع في مأزق مسدود الجانبين بين إرادتين متصارعتين: إرادة الاحتجاجات التي ترمي إلى إزالة الطبقات الحاكمة وإحداث تغييرات عميقة في النظام، وإرادة الطبقات السياسية التي تسعى إلى إنقاذه أو على الأكثر إلى نسخة «معدَّلةٍ» منه.

ستحاول الطبقات السياسية الحاكمة انتظار تجاوز الأزمة على أمل أن تفقد الحركة قوتها. فالحكومة تشعر بأن مرور الوقت في صالحها: إذ لا يزال الموظفون المدنيون يذهبون إلى أعمالهم، وقد تؤثر الأغلبية الصامتة، في نهاية المطاف، السلامَ والاستقرار بدلاً من تعبئة واحتجاجات جماهيرية لا تنتهي.

ستحاول الحكومة من جانبها أيضاً تهدئةَ الوضع بمزيج من سياسة الترهيب والترغيب. قد تتمثل سياسة الترغيب في زيادة في الحوافز مصحوبةً بإجراء تغييرات في الوجوه البارزة للنظام مع الحفاظ على علاقات القوة والتحالفات الأساسية التي يقوم عليها النظام الحالي.

كما يمكن أن يتصاعد استخدام سياسة الترهيب، التي استُخدمت بالفعل في حملة قمع قاسية، لتتحول إلى صورة أكثر تطرفاً تسعى إلى سحق الاحتجاجات على نحوٍ شامل، وتحويل ساحة التحرير إلى ساحة «سلام سماوي» جديدة.

الطبقات السياسية منقسمة على نفسها ولم تتمكن بعد من تشكيل استجابة موحدة ومتماسكة. وما يزيد من حدة المطالب القصوى للمتظاهرين العنفَ الذي ووجِهوا به والافتقار التام إلى طبقات سياسية تمثلهم وتعبر عنهم. هذه ليست علامة تعنّتٍ بقدر ما هي رد فعل على عدم تجاوب الحكومات العراقية المتعاقبة، والتي دائماً ما تألفت من القلة الحزبية والشخصيات السياسية ذاتها.

لقد شهد العراق منذ عام 2011، وأكثر من ذلك منذ عام 2015، احتجاجات شبه سنوية قوبلت تكراراً بوعود الإصلاح، فقط لكي يستمر العمل كالمعتاد بعد ذلك.

وهنا تكمن جذور المأزق: ليس هناك معارضة سياسية رسمية يمكنها تحمّل مسؤولية الإصلاح، وتفتقر الطبقات السياسية إلى المصداقية اللازمة لإقناع المحتجين بأن هناك تغييراً ذا مغزى سيجري تطبيقه. ومن ثم فإن هذا يترك لنا طرفين متعارضين ونظام سياسي: أحد الطرفين يريد أن ينقذه، والآخر يريد إعادة بنائه.

تعُجُّ منشورات العراقيين على الشبكات الاجتماعية بخرائط الطُرق المُقترحة للإصلاح، وبدأت الطبقات السياسية في بعض الأحيان استخدام نفس مصطلحات ومقترحات تلك المنشورات خلال تصريحاتها العامة. وتدور خرائط الطُرق تلك حول عددٍ من النقاط المُشتركة، مع اختلافاتٍ طفيفة، ومنها: استقالة الحكومة، وحلّ البرلمان، وتشكيل حكومة تسيير أعمال مُصغَّرة تتألَّف من تكنوقراطيين مُستقلِّين لن يُسمح لهم بترشيح أنفسهم في الانتخابات مُستقبلاً.

وتُكلَّف حكومة تسيير الأعمال بتشكيل لجنةٍ مُستقلة للإشراف على الإصلاح الدستوري، وصياغة قوانين جديدة للانتخابات والأحزاب.

كما سيجري تشكيل لجنةٍ انتخابية مُستقلة جديدة، وتغيير نظام الحكم إلى نظامٍ رئاسي. وسيحدث كل ذلك في غضون عامٍ واحد، وتُعقد بعده انتخاباتٌ عامة تحت إشراف الأمم المتحدة، مع مراعاة ولادة نظامٍ سياسي جديد يقبل الوافدين الجُدد من خارج أوليغارشية الحزب الحاكم. وطُبِعت نسخةٌ من خارطة الطريق تلك في «توك توك»، أول منشورات الحركة الاحتجاجية.

لكن «الشيطان يكمُن في التفاصيل»، كما جرت العادة دائماً. فكيف ستُشكَّل تلك اللجان؟ ومن سيُعيِّن أعضاءها؟ وكيف سيكون بالإمكان تشكيل حكومةٍ مؤقتة أو لجان إصلاح، مع تجاوز الأوليغارشية الحاكمة وحماية هياكل الإصلاح من تدخُّلاتها؟

ومن المفهوم أن يهزأ الرأي العام بفكرة تشكيل الطبقات السياسية للجانٍ مُكلَّفةٍ بإنهاء هيمنتهم السياسية. علاوةً على أنَّ البدائل الانتخابية للأحزاب الحاكمة ستظل غير واضحةٍ حتى تتمخَّض حركة الاحتجاج عن منظماتٍ سياسية.

ويجب أن تُحدِّد دعوات إشراف المُستقلين والمهنيين على لجان الإصلاح كافة الخطوط العريضة لآليات اختيار أولئك الأشخاص وتمكينهم. وسيرفض العديد من المُحتجّين مشاركة الأوليغارشية الحاكمة في مبادرات الإصلاح، وسيعتبرون الطبقات السياسية والإصلاح أمرين مُنفصلين.

ورغم ذلك، لم تتضح بعد كيفية تشكيل هيئات الإصلاح واختيار أعضائها، مع استبعاد أحزاب مؤسسات الدولة التي ستستشهد بالعوامل الدستورية والانتخابية لتبرير وجودها.

من الصعب التنبُّؤ بكيفية انتهاء معركة الرغبات تلك. ويجب على من يأملون انهيار النظام أن يحذروا من رغباتهم. إذ إنَّ الانهيار الكامل سيكون كارثياً بقدر انهيار الدولة آخر مرةٍ قبل 16 عاماً، رغم استبعاد هذه الاحتمالية. أما بالنسبة لمن يتوقَّعون ذروةً وشيكة؛ فربما عليهم أن يتريّثوا لبعضٍ من الوقت.

إذ يتظاهر الجزائريون للأسبوع الـ37 على التوالي. في حين تتظاهر حركة «السترات الصفراء» الفرنسية منذ أكثر من عام. وكذلك هو الحال مع شعب هايتي. كما أمضى مواطنو هونغ كونغ أكثر من سبعة أشهرٍ في الاحتجاج. وتطول القائمة على هذا النحو. ويبدو أن بعض التغييرات ستحدُث حتماً في العراق، لكنها لن تحدث بين عشيةٍ وضُحاها.

والأدهى أنَّه في حال كان التغيير يلوح في الأفق؛ فما تزال طبيعة ومدى ذلك التغيير -وتكلّفته على طول الطريق- غامضة المعالم. ويتمثَّل أحد السيناريوهات في استمرار الاحتجاجات لشهور، لتتمخَّض بمرور الوقت عن منظماتٍ سياسية تستطيع التوسُّط بصورةٍ أفضل في غمار المعركة بين الشارع ومؤسسة الدولة. ولا عودة إلى الوضع الراهن السابق، لكن الانهيار النظامي ما يزال أمراً غير محتمل الحدوث في الوقت ذاته.

وربما يكون العراق على مشارف نزاعٍ مُطوَّل حول ملامح النسخة المُعدَّلة من النظام. وليس بوسع المرء سوى أن يأمل، في مثل هذا السيناريو، أن يكون الناتج هو إطار عملٍ أكثر استجابةً -وتمثيلاً- للجمهور العراقي. إذ سيشهد السيناريو البديل، أي انتصار قوى القمع، على الأرجح ظهور نظامٍ أكثر استبدادية دون شك.

والأمر الوحيد المُؤكَّد هو أنَّ المُنتفعين وأنصار الدولة لن يحزموا أمتعتهم ليُغادروا عما قريب، بغض النظر عن مدى صمود المُحتجين.

إذ قالها أحد الشخصيات العامة في قوات الحشد الشعبي صراحةً: «هل يعتقدون حقاً أنَّنا سنُسلِّم الدولة والاقتصاد، الذي بنيناه على مدار 15 عاماً؟ أو أنَّهم سيأتون فجأةً ليأخذوا كل شيء؟ مُستحيل! هذه دولةٌ بُنِيَت بالدماء».

المصدر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى