تقارير وملفات إضافية

لماذا لا يخشى العسكريون كثيراً تسليم البشير للمحكمة الدولية؟ الحقائق المرعبة بشأن أعداء الديمقراطية السودانية

خلال النوبة الصباحية بمستشفى أم درمان التعليمي، يجتمع المرضى تحت الأشجار في الفناء، انتظاراً لقبولهم. ويمتلك المستشفى 645 سريراً، ويستقبل أكثر من 1500 مريض يومياً. 

وفي الداخل، أحضر محمد الحاج حامد مجلد يحوي وثائق تمثل دليلاً ورقياً على الفساد، حسبما ورد في مقال نشر بمجلة Foreign Policy الأمريكية لريبيكا هاملتون أستاذة القانون بالجامعة الأمريكية في واشنطن، ومؤلفة كتاب «القتال من أجل دارفور». 

تقول ريبيكا: أظهرت الوثائق كيف وضع المُعيّنون سياسياً، الذين يُديرون المستشفى، الأموال المخصصة لخدمة المرضى في جيوب المُوالين لحزب المؤتمر الوطني الذي حكم البلاد طيلة ثلاثة عقودٍ في عهد الرئيس عمر البشير.

وتضيف: أطلعني حامد، الرجل الصريح في أوائل الخمسينات من عمره، على مُحتوى تلك الوثائق. 

وكانت الوثائق عاديةً ولافتةً للانتباه في الوقت ذاته. عاديةً بسبب طبيعتها البيروقراطية: سجلات إنفاق وقوائم موظفين. 

ولافتةٌ للانتباه لأنها كانت مثالاً ملموساً على كيفية التأسيس للفساد في كافة أرجاء السودان خلال عهد البشير.

وعثر حامد على تلك الوثائق في حاسوب المكتب الخاص بسلفه، الجنرال الذي كان مُديراً للمستشفى في السابق، والذي كان من الواضح أنه يُؤمن بأن ديكتاتورية السودان اللصوصية لن تسقط أبداً.

وإبان حُكمه الذي استمر 30 عاماً، بدا البشير وكأنه لا يُقهر. وبمجرد استضافته أسامة بن لادن؛ تحمّل البشير وطأة العقوبات الاقتصادية الأمريكية، وتصنيف السودان «دولةً راعيةً للإرهاب»، ومذكرة اعتقالٍ بحقه من جانب المحكمة الجنائية الدولية. وطوال ذلك الوقت، استخدم النظام محسوبيةٍ واسع النطاق للحفاظ على السلطة. 

وجرى تحويل الأموال المُخصصة للإنفاق العام من أجل إبقاء الأعداء المُحتملين بعيداً عن عاتق البشير. ولكن في ديسمبر/كانون الأول الماضي، خرج السودانيون بطول البلاد إلى الشوارع للمطالبة بتغيير النظام.

ويتمتّع السودانيون بتاريخٍ طويل من الاحتجاجات، إذ أطاحوا بحكومتين منذ استقلالهم عن الحكم الاستعماري. لكن الجهود السابقة لمُعارضة البشير تعثّرت في وجه أجهزة نظامه الاستخباراتية الشرسة، التي اعتقلت وعذّبت المُحتجين بطريقةٍ مُمنهجة. 

ولكن هذه المرة كانت مُختلفة. إذ دخل الاقتصاد في وضع السقوط الحر. وتضاعفت أسعار الخبز ثلاثة أضعافٍ بين عشيةٍ وضحاها. 

لذا شعر الناس الذين عجزوا عن إطعام عائلاتهم بأنّه ليس لديهم شيءٌ ليخسروه. وتواصلت الاحتجاجات، شهراً تلو الآخر، وشكّل الشباب والنساء العمود الفقري لتلك الحركة التي اتّحدت تحت شعار «تسقط بس». وفي 11 أبريل/نيسان عام 2019، عزل الجيش البشير من السلطة.

لكن سيطرة الجيش على البلاد لم تكُن مُبتغى المُحتجين. لذا استمروا في إقامة اعتصامهم أمام مقر القيادة العامة للجيش، بعد أسابيعٍ من الإطاحة بالبشير. 

إذ أوضح لي أحد المُحتجين، في إشارةٍ إلى الانقلاب العسكري الذي أطاح بالرئيس المصري المُنتخب حديثاً عام 2013، بعد عامين فقط من الثورة التي أطاحت بالديكتاتور المصري القديم حسني مبارك: «لم نرغب في تكرار أخطاء مصر حين ترك الناس الشوارع بعد سقوط مبارك».

وفي الثالث من يونيو/حزيران، تعرّض الاعتصام للهجوم. ويجري الآن تحقيقٌ مُستقل في الخطوط الدقيقة للمسؤولية عن ما بات يُعرف الآن باسم مذبحة الخرطوم (مذبحة القيادة العامة للجيش).

لكن الضحايا الذين تحدّثت إليهم ذكروا هجوماً عصابياً على يد ميليشيا قوات الدعم السريع الحكومية التي تحمل العصي، إلى جانب تعرُّضهم لإطلاق النار بواسطة القناصة من مبنى قريب.

وجرى انتشال جثث الموتى من نهر النيل لاحقاً، بعد أن حُمِّلت بالطوب لإغراقها. 

ومن المُذهل أنّ المُحتجّين رفضوا الاستسلام. وفي 30 يونيو/حزيران 2019، استعادوا الشوارع في «مسيرة المليون»، بعد 30 عاماً بالضبط من تولّي البشير السلطة في انقلابٍ عسكري.

وستُذكر مسيرة 30 يونيو/حزيران على أنّها مثّلت لحظةً فارقة في التاريخ السوداني. 

كما كشفت مذبحة الخرطوم أنّ وحشية نظام البشير استطاعت النجاة رغم الإطاحة به، في حين أظهرت مسيرة 30 يونيو/حزيران أنّ ذلك الأمر لن يكون مقبولاً من جانب المُحتجين. 

وأدّت المفاوضات اللاحقة، بين الجيش وبين مظلة ائتلاف مجموعات المُجتمع المدني (المعروفة باسم قوى الحرية والتغيير)، إلى تشكيل حكومةٍ انتقالية تتولّى إدارة البلاد حتى إقامة الانتخابات الديمقراطية عام 2020. لكن هذا الترتيب الانتقالي لا يُؤسّس لسيطرةٍ مدنيةٍ كاملة على الحكومة، كما كان يرغب المُحتجون.

وتتولّى حكومةٌ تكنوقراطية الإدارة البيروقراطية اليومية لشؤون البلاد، لكن رأس الدولة هو عبارةٌ عن مجلسٍ سيادي يضُم 11 شخصاً، ويتألّف من خمسة أعضاءٍ من الجيش وستة من المدنيين. 

ورئيس هذا المجلس هو الفريق عبدالفتاح برهان، ونائبه هو محمد حمدان دقلو (حميدتي) قائد ميليشيا قوات الدعم السريع، والذي اشتهر بسبب الدور الذي أدّاه في المراحل الأخيرة من الفظائع المُرتكبة بدارفور

وفي الأشهر الـ18 الأخيرة قبل انتخابات عام 2022؛ سيُكلّف أحد الأعضاء المدنيين برئاسة المجلس السيادي. ويُعَدُّ هذا الترتيب هو ثاني أفضل خيارٍ مُتاح، لكنه الخيار الذي يسمح به ميزان القوى الحالي.

وطوال ثلاثة عقودٍ من حُكمه، أنهك نظام البشير الموارد البشرية والمالية والطبيعية للبلاد. 

والآن، جرى تكليف الحكومة الانتقالية بوضع أُسس السودان الجديد، الذي يدعم أركان الثورة الثلاثة: الحرية، والسلام، والعدالة. 

ويسرد هذا الترتيب الانتقالي تفويضاً من 16 فقرة، يتضمّن توجيهاتٍ مثل: «حل الأزمة الاقتصادية عن طريق وقف التدهور الاقتصادي، وتفكيك هيكل نظام يونيو/حزيران 1989 لتمكين السلطة، وبناء دولة قوانين ومؤسسات». 

وهي مهمةٌ شاقة، حتى وإن كان أمامهم الثلاث سنوات المُخصصة للمرحلة الانتقالية بالكامل من أجل العمل عليها -ولا يبدو على الإطلاق أنّهم سيحظون بها. وستُحدِّد الأشهر المُقبلة على الأرجح ما إذا كانت الديمقراطية السودانية ستموت قبل ولادتها.

وهناك العديد من السُّبل التي يُمكن أن يفشل السودان من خلالها في الوصول إلى انتخاباته الديمقراطية المُقرّرة عام 2022. وينبُع التهديد الأول من حزب المؤتمر الوطني وأنصاره.

إذ مرّرت الحكومة الانتقالية قانوناً بحلّ حزب المؤتمر الوطني مؤخراً، ولكن ذلك لا يعني أنّ أعضاء الحزب سيخرجون من المشهد السياسي.

ومُنِعَ أعضاء الحزب السابقين من المشاركة في المجلس التشريعي الجديد، لكنّهم يستطيعون فعل الكثير لتقويض الإصلاحات التي تسعى الحكومة الانتقالية لتنفيذها. 

إذ يدفع أنصار الحزب برسائلهم عبر المساجد والشبكات الاجتماعية، بعيداً عن الحكومة. ويبدو أنّ هدفهم هو تأليب المواطنين ضد الحكومة الانتقالية، بدعوى أنّ أعضاء الحكومة عازمون على تقويض الثقافة السودانية التقليدية عن طريق إنشاء دولةٍ علمانية تحترم حقوق الإنسان. 

أما داخل الحكومة فتتمتّع المخاوف حيال وجود «دولةٍ عميقة» في قلب البيروقراطية بشيءٍ من المصداقية. إذ يكره الكثير من البيروقراطيين الحزب دون شك، لكنّ هناك آخرين سيقفون في وجه التغيير بكل تأكيد.

ويكمُن الخطر الآخر في أنّ النُّخب السياسية الراسخة قد تدعو لانتخاباتٍ مُبكّرة.

وحالياً بموجب شروط الترتيب الانتقالي، لا يستطيع أي شخصٍ في الحكومة أو المجلس السيادي الترشُّح لانتخابات عام 2022. 

وهذا يعني أنّ أحزاب المُعارضة الراسخة، التي تأسّست قبل وإبان عهد البشير، لا تتمتّع بسلطةٍ مُباشرة خلال المرحلة الانتقالية.

والنظرية الكامنة في هذا الترتيب هي أنّ المرحلة الانتقالية التي تمتدّ لثلاث سنوات ستمنح الجيل الأصغر، الذين انخرط غالبيته في السياسة للمرة الأولى إبان الثورة، فرصةً لتحضير حملاته الانتخابية.

إذ إنّ الأحزاب السياسية الراسخة ستزيد احتمالية فوزها في حال عُقِدَت الانتخابات مُبكّراً.

وما زاد تعقيد الأمور هو أنّ الجيش، وقوات الدعم السريع، وقوات الأمن الداخلي تمتلك جميعها ولاءات ومصالح وثقافات مُتنافسة. ما يفتح الباب أمام احتمالية دخول مُختلف أجهزة القطاع الأمني في معركةٍ ضد بعضها البعض. وما يزال القطاع الأمني بالكامل مُحاطاً بغلافٍ من السرية رغم الثورة، مع تدفق الأموال دون إدراجها في السجلات الرسمية، ما يجعل مساءلة الحكومة أمراً مُستحيلاً. 

وقدّمت الأطراف الفاعلة الخارجية -بدءاً من الإمارات والسعودية ووصولاً إلى الاتحاد الأوروبي- دعماً مالياً للسودان مُقابل «الخدمات» التي تُوفّرها قوات الدعم السريع.

إذ تخدم عناصر ميليشيا قوات الدعم السريع بوصفهم مرتزقةً في اليمن.

كما جرى تجنيدهم من قِبَل شركاء الاتحاد الأوروبي لمُكافحة عمليات الاتجار بالبشر في السودان والمنطقة المُحيطة (رغم أنّ التقارير تُشير إلى تعليق ذلك الآن). 

وداخلياً، تزداد صعوبة تتبُّع التدفقات المالية. إذ يتراوح تورّط قوات الدعم السريع في عمليات التهريب غير الشرعي بين الذهب (من مناجم دارفور التي يمتلكها حميدتي) والأسلحة (التي يشترونها من جيرانهم في جمهورية إفريقيا الوسطى). 

ولن تكون أيّ حكومةٍ يقودها مدنيون بمأمنٍ من خطر استحواذ القطاع الأمني عليها، حتى يجري إخضاع ذلك القطاع للتدقيق.

وبعد ذلك، هُناك الصراعات التي لم يتم حلها بعد في المناطق النائية من البلاد. إذ إنّ التوصُّل إلى اتفاق سلامٍ مع الجماعات المسلحة، بدءاً من النيل الأزرق ووصولاً إلى دارفور، هو أمرٌ ضروريٌّ من أجل الاستقرار وتمكين الحكومة الانتقالية من تحقيق أهداف الثورة المُتمثّلة في بناء دولةٍ شاملة.

وعلّقت الحكومة الانتقالية تشكيل المجلس التشريعي الجديد مؤقتاً حتى ينتهي التفاوض على اتفاقيات السلام، ليتمكّن مُمثّلوا المناطق النائية من المشاركة فيه.

وهذه خطوةٌ حكيمةٌ على المدى القريب، لكن تشكيل المجلس التشريعي لا يُمكن أن يُؤجّل إلى الأبد.

وأخيراً، يتجلّى الخطر الدائم الذي يتمثّل في تراجع الشعب الذي صنع الثورة عن دعمه للحكومة الانتقالية في حال لم يرى تحسينات مُجزية في حياته اليومية. 

وهذا يجعل من انتعاش الاقتصاد الأولوية القُصوى للحكومة الانتقالية، وسط قائمةٍ مُزدحمة من المهام العاجلة. وصاغها لي أحد قادة حركة الاحتجاج ببساطة، قائلاً: «لقد أظهر الشعب شجاعةً استثنائية، لذا فهو يتوقّع تحقيق نتائج استثنائية».

وبالطبع، حتى في حال نجاح الحكومة الانتقالية في اجتياز السنوات الثلاث المُقبلة؛ فلا يُوجد ما يُفيد بنجاحها في مهمة تحويل البلاد إلى الديمقراطية. وفي رحلةٍ أجريتها مؤخراً إلى السودان، اتضح لي سريعاً مدى صعوبة تطبيق مُثِل الحرية والسلام والعدالة على أنقاض 30 عاماً من الحكم الديكتاتوري.

لكن نطاق هذا التحدّي هو تحديداً ما يجعل من السودان تجربةً حيوية لهذه الدرجة. إذ يتّفق الجميع على أنّ الإطاحة بنظامٍ ديكتاتوري تُمثّل تطوّراً إيجابياً. لكن الدليل الإرشادي لكيفية إدارة الأسابيع والأشهر التالية للإطاحة بديكتاتور لم يتضح بعد. 

وبعد مرور عامٍ واحد من بدء الاحتجاجات المُناهضة للنظام، ما يزال السودان يُوفّر نافذةً على معاناة مُجتمعٍ يسعى لانتشال نفسه من براثن عقود الديكتاتورية.

ويُمكن للمرء أن يحلُم بسيناريو هوليوودي: أن يُطيح الشعب بالديكتاتور، وتختفي كل بقايا نظامه، وتحُلّ الديمقراطية بين عشيةٍ وضُحاها. ولكن على أرض الواقع، تمُرّ الشعوب بفترةٍ مُطوّلة من التنقّل داخل منطقةٍ رمادية.

وبالنسبة للمنوطين بقيادة المرحلة الانتقالية، فهذا يعني مُفاضلةً دائمة بين النهوض بالإصلاحات اللازمة لتحويل السودان إلى الديمقراطية، وبين التصرّف فعلياً بطريقةٍ تعكس المُثُل الديمقراطية التي يأملون في تحقيقها. وسيكون من السهل على الحكومة الانتقالية، ومن دواعي سرور الكثير من السودانيين العاديين، أن يشهدوا تطهير المشهد من كل المرتبطين بالنظام السابق. لكن هذا التوجّه سيُواصل الدائرة التي عصفت بالسودان منذ استقلاله. إذ قال لي محيي الدين الفادح، المُدرس والشاعر: «مُشكلة الثورات السابقة تكمُن في أنّها لم تكُن ثورات. بل كانت مُجرّد تغييرات للنظام».

كانت النقابات العمالية النافذة هي القوة المُحرّكة وراء الاحتجاجات التي أطاحت بالحُكّام الديكتاتوريين السودانيين في السابق، عامي 1964 و1985. 

ولاحقاً، كان عُمر البشير والجبهة الإسلامية القومية، التي أُعيد تسميتها لاحقاً لتصير حزب المؤتمر الوطني، على علمٍ تام بذلك حين وصلوا إلى السلطة عبر انقلابٍ عسكري عام 1989.

وتضمّنت أوائل خطوات البشير بوصفه رئيساً تفكيك كافة النقابات العمالية. واعتُبِرَت كافة الجمعيات المهنية للأطباء، والصحفيين، والمُعلمين جمعيات غير قانونية. 

وبدلاً منها، أقام حزب المؤتمر الوطني منظومةً جديدة للنقابات العمالية، التي يدور تنظيمها في الأساس حول المؤسسات العامة. 

وبدلاً من نقابةٍ للأطباء بطول البلاد، تستطيع تعبئتهم من أجل أهدافهم المهنية، صار لكل مُستشفى حكومية نقابة تجمع كافة العاملين فيه بدءاً من حارس المستشفى ووصولاً إلى الجرّاح الرئيسي.

وصار كونك جزءاً من نقابةٍ مؤسسية يعني أن تكون مُلتزماً تجاه حزب المؤتمر الوطني، وولاؤك يعني حصولك على المعاملة التفضيلية المُوثّقة في مجلد مانيلا الخاص بحامد. 

إذ كان الأطباء المُبتدئون الستة على قائمة أعضاء حزب المؤتمر الوطني في مستشفى أم درمان التعليمي يتقاضون أجراً شهرياً يصل إلى 340 دولاراً أمريكياً، في حين كان نظراؤهم الذين ليسوا أعضاءً في الحزب يتقاضون أجرهم الذي يُعادل 40 دولاراً فقط بالجنيهات السودانية. وكانت تلك المدفوعات السياسية تُسلّم من المال العام. 

وفي مثالٍ على ذلك، تتبّع حامد شيكاً للمستشفى بقيمة 195 ألف جنيه سوداني (4500 دولار أمريكي) من أجل «احتياجات المعمل» التي لم يطلُبها أو يستلمها أحد.

ومن أجل تشغيل المنظومة، وضع حزب المؤتمر الوطني أشخاصاً مُعيّنين سياسياً -مثل سلف حامد- لإدارة كل منشأة. 

علاوةً على عملاء جهاز الأمن والمخابرات الوطني السوداني الذين يُزرعون في كل مكان. لكن النقابات المهنية، المحظورة خلال عهد البشير، نجحت في مواصلة العمل في الخفاء. لكن أعضاءها اعتادوا دفع ثمن ذلك بالتعرّض للأعمال الانتقامية التي تراوحت بين خصومات الأجور وبين الاعتقال والتعذيب.

وعلى مدار 30 عاماً، أضفى حزب المؤتمر الوطني طابعاً مؤسّسياً على منظومة السيطرة والمراقبة تلك في كل مستشفى، ومدرسة، ومؤسسة مالية، ووزارة حكومية داخل البلاد. 

وأخبرني عاملون من مُختلف الأعمار والطبقات في أكثر من مناسبة، خلال العقد الذي قضيته في تغطية أخبار السودان: «النظام يعلم وقت دخولنا الحمام». 

لكن حقيقة أنّ حزب المؤتمر الوطني لم يكُن يمتلك الرغبة أو الموارد الكافية، لمراقبة كل المواطنين طوال الوقت، لم تخطر ببالهم من الأساس. وبمجرد أن ترسّخ الإيمان بأنّ حزب المؤتمر الوطني له عيونٌ في كل مكان؛ لم يعُد أحدٌ يشعر بالأمان.

في مواجهة هذا الإرث؛ ضغطت قوى الحرية والتغيير، وهو تحالف مجموعات المجتمع المُدني الذي يقود الحركة الاحتجاجية، على الحكومة الانتقالية من أجل تجريم النقابات المؤسسية التي شكّلها حزب المؤتمر الوطني

لكن أعضاءً من الحكومة السودانية الجديدة أوضحوا لي بجديةٍ أنّ الحكومة الانتقالية تُحاول تجنُّب تكرار أفعال النظام الذي حلّت محله. فضلاً عن أنّ الكثيرين يعتقدون أنّ الإقالات الجماعية السياسية ستُثير ذكريات الماضي المُخيف. 

علاوةً على أنّهم يقولون إنّ قانون العمل الدولي يُوفّر حماياتٍ للنقابات القائمة، بغض النظر عن تاريخها.

وكان حلّ الحكومة الانتقالية للخروج من هذا المأزق هو تحديد موعد انتخابات جديدة للمناصب القيادية في النقابات المؤسسية القائمة. 

وخلال الأشهر الثلاثة التي تسبق تلك الانتخابات، أُضيف ممثلو المجتمع المدني إلى اللجان الإدارية لتلك النقابات. علاوةً على ذلك، صاغت الحكومة قانوناً جديداً لتقنين النقابات المهنية التي واصلت العمل في الخفاء إبان عهد البشير.

وأعرب الصحفيون، من إحدى النقابات المهنية السرية، الذين تحدّثت إليهم عن ارتياحهم إزاء فكرة تقنين النقابات. لكنّهم لم يكونوا راضين عن اتجاه الحكومة الانتقالية لإصلاح النقابات القائمة. 

وبحسب الصحفي أحمد أحمد، أصدرت نقابة عمال حزب المؤتمر الوطني 8000 بطاقة صحفية تُرخّص للناس العمل في وظيفة الصُحفي. 

وقال إنّهم تلطّفوا بإدراج 1500 صحفي فقط من أصل 8000، أما الباقون فكانوا عملاءً لجهاز الأمن والمخابرات الوطني الذين اختارهم حزب المؤتمر الوطني. 

لكن جميع حاملي البطاقات يستطيعون التصويت في الانتخابات المُقبلة. 

ورغم تمثيل المُجتمع المدني الآن في اللجان الإدارية لتلك النقابات، لكن أحمد يخشى أنّ أعضاء حزب المؤتمر الوطني يتمتّعون بالعدد الكافي للتصويت من أجل إعادة أنفسهم للسلطة، وبالتالي ستُضفي الانتخابات شرعيةً على النظام الذي يتحكّم فيه حزب المؤتمر الوطني بكل بساطة.

استثمرت الحكومات السودانية المُتعاقبة مواردها المالية لفترةٍ طويلة في العاصمة الخرطوم، على حساب الاستثمارات في المناطق النائية من البلاد، وذلك استنساخاً لنظامٍ تأسّس في ظل الاستعمار البريطاني.

ووصل المُعدّل الإجمالي لمحو الأمية في البلاد إلى 61% فقط. وبالنسبة لسعداء الحظ الذين حصلوا على التعليم، فإنّ تقدُّم حياتهم المهنية يقتصر على خيارين عادةً: الانضمام إلى حزب المؤتمر الوطني، أو مُغادرة البلاد. وتنعكس هذه الحقيقة على كادر البيروقراطيين الذين يتعيّن على الحكومة الانتقالية جذبهم لتنفيذ إصلاحاتها.

وخير مثالٍ على ذلك هي وزارة العدل في الحكومة الانتقالية، التي يقودها الآن نصرالدين عبدالباري. فبعد أن تخرّج في المرتبة الأولى على دفعته بجامعة الخرطوم، حصل عبدالباري على درجة الماجستير من جامعة هارفارد الأمريكية، وكان يُعِدُّ شهادة الدكتوراه بمركز الحقوق في جامعة في جامعة جورجتاون حين جرى ترشيحه لمنصب وزير العدل. وبالعودة إلى الخرطوم، صار مسؤولاً عن الإصلاح الكامل للنظام القضائي السوداني.

وفي وقتٍ لا بُد أن يكون فيه أيّ شخصٍ شغل منصباً قيادياً في الحكومة من الجيل الحالي مُرتبطاً بحزب المؤتمر الوطني، فإنّ افتقار عبدالباري للخبرة الحكومية بالكامل يُعَدُّ ميزةً استثنائية.

وفي يومه الأول داخل وزارة العدل، استدعى عبدالباري كافة رؤساء المناصب المُختلفة. وعلى غرار الآخرين الذين تحدّثت إليهم في القيادة الانتقالية، كان عبدالباري حريصاً على نقل الروح المُتطلّعة للأمام، والإشارة إلى استعداده للعمل مع أيّ شخصٍ يرغب في دعم التحوّل الديمقراطي. وخلص إلى أنّ غالبية موظّفيه لم يكونوا من أنصار حزب المؤتمر الوطني، بل كانوا بحاجةٍ إلى وظيفةٍ فقط. 

ولكن في الوزارة التي تضُم 1600 موظف بيروقراطي، لا يتحدّث أحدٌ الإنجليزية بالدرجة الكافية للرد على رسائل البريد الإلكتروني الواردة، والتي تحمل عروض مساعدةٍ من الحكومات والمانحين الغربيين المُتطلعين لرؤية نجاح الديمقراطية في المنطقة.

ولا شكّ أنّ هناك العديد من المُحامين السودانيين الذين يُجيدون اللغة الإنجليزية. لكن غالبيتهم كانوا جزءاً من نخبة حزب المؤتمر الوطني الحاكمة، أو ما يزالون جزءاً من سوداني الشتات الذين يصل عددهم إلى خمسة ملايين شخص. 

أما الأشخاص من خارج هاتين الجماعتين، فهم ينتمون إلى جماعةٍ ثالثة من المهنيين الذين قضوا سنوات في الصراع ضد حزب المؤتمر الوطني من داخل السودان. وهم يرغبون في الديمقراطية، لكنّهم قلقون بدرجةٍ مفهومة من المشاركة في النظام الانتقالي الذي يشمل أعضاءً بالجيش خدموا تحت إمرة حزب المؤتمر الوطني، ومن بينهم حميدتي.

قالها لي فيصل صالح، وزير الثقافة والإعلام السوداني الجديد، بابتسامةٍ مُرهقة: «إنّ تغيير القوانين هو الجزء السهل. لكن التحدّي يكمُن في كيفية تغيير العقليات». 

وصالح هو واحدٌ من أولئك الذين ظلّوا داخل السودان للنضال ضد حزب المؤتمر الوطني. وبعد أنّ صار صحفياً مُستقلاً في بلدٍ تُعتبر الصحافة المُستقلة داخله بمثابة هجومٍ على الدولة؛ تعرّض للاعتقال عدة مرات. 

وهو لا يشعر بالارتياح مُطلقاً حيال مشاركة الجيش في الحكومة الانتقالية. «ولكنّهم هنا رغم ذلك» على حد تعبيره. لذا وافق صالح على الانضمام للحكومة الانتقالية، مع الاعتراف المُعتاد بأنّ كلاً من الجيش والمُجتمع المدني لا يمتلكان السلطة الكافية للسيطرة على البلاد بمفردهم.

ويبدو أنّه بين عشيةٍ وضُحاها، أُعيدت كتابة القوانين التي قضى صالح حياته المهنية يُعاني منها. لكن الاستثمار في الإصلاحات القانونية بمعناها الحقيقي سيتطلّب عمليةً أطول بكثير. 

وعليك التفكير في أمر ثقافة السرية الحكومية السائدة.

إذ أوضح صالح: «العقلية السائدة [بين بيروقراطيي الحكومة] هي أنّه من المحظور عليك مُشاركة أيّ معلومات، إلّا في حال أُعلِمتَ صراحةً بأنّ ذلك مسموحٌ لك». وكُنت على علمٍ بهذا الوضع المُفترض. إذ كانت مُحاولة الحصول على أبسط المعلومات العامة من مسؤولٍ حكومي أمراً شبه مُستحيل، خاصةً في الأجزاء البعيدة من السودان. 

وأوضح صالح ذلك قائلاً: «يُمكنك أن تسألهم أكثر الأسئلة وضوحاً، ولكنّهم لن يُجيبوك». وأضاف أنّه علاوةً على ذلك، يجب أن يحدث التغيير الثقافي من الجانبين: «لا نمتلك ثقافة الصحافة الاستقصائية. والناس ليسوا مُعتادين على التفكير بأنّ تلك المعلومات من حقهم».

وعلى غرار أعضاء الحكومة الانتقالية الآخرين؛ يُكافح صالح من أجل الموازنة بين النهوض بأهداف المرحلة الانتقالية، وبين الحفاظ على الالتزام الثابت بتجنُّب تكرار سلوكيات النظام السابق. وتعرّض أعضاء الحكومة الانتقالية للهجوم من جانب الإسلاميين وغيرهم من أنصار حزب المؤتمر الوطني. 

وخلال خُطَب الجُمعة، ينتقد الأئمة الذين يوصفون بالمُتشددين الحكومة الانتقالية عادةً بوصفهم بالمُلحدين الذين لا يُعارضون النظام السابق، بل يُعارضون الإسلام. 

ويكتبون المقالات الافتتاحية في الصُحف المحلية، وينشرون انتقاداتهم على الشبكات الاجتماعية. ودعا النشطاء صالح لوقف تدفُّق الرسائل المُناهضة للحكومة الانتقالية.

لذا أوضح: «هُم يُريدون منّي أن أُسيطر على الإعلام. لأنّهم اعتادوا أنّ هذه هي وظيفة وزير الإعلام». 

وفي لحظةٍ من الهشاشة المُذهلة، قد تبدو فرصة تقليص حجم مُؤيّدي حزب المؤتمر الوطني فرصةً مُغرية. لكنّه أضاف: «لا أستطيع فعل ذلك. إذ إنّه سيتعارض مع كل المبادئ التي حاربنا من أجلها طوال تلك السنوات«.

ويتجاوز حجم الجرائم التي ارتكبها حزب المؤتمر الوطني أو ساعد عليها، إبان عهد البشير، حدود الخيال البشري. إذ مات أكثر من مليوني سوداني خلال الحرب الأهلية التي خاضها النظام في ما بات يُعرف الآن بجنوب السودان. وعاماً تلو الآخر، قضى أطفال جبال النوبة طفولتهم في الاختباء تحت الصخور لتجنُّب القنابل التي تُرسل لتدمير شعبهم.

وأدّى العُنف في دارفور إلى فرار قرابة الـ2.7 مليون سوداني من منازلهم، بالتزامن مع اغتصاب النساء والبنات، وذبح الصبية والرجال. 

وهذه هي فقط أبرز الأمثلة على سجلات تمتد لـ30 عاماً من الإرهاب الذي انفجر في وجه الشعب السوداني. وفي مواجهة هذه الجرائم إجمالاً؛ يبدو مفهوم العدالة غير قابلٍ للتصديق، وربما مُهيناً في حدود القانون الجنائي على الأقل.

لكن البشير نفسه يقبع الآن في زنزانة سجنٍ سوداني، ويجب على الحكومة الانتقالية أنّ تقرّر ما ستفعله به.

وفي عام 2009، أصدرت المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي بهولندا مذكرة اعتقالٍ بحق البشير، بتهمٍ تشمل الإبادة الجماعية، على الفظائع التي أشرف عليها في دارفور. وغطّت التهم جزءاً فقط من الجرائم التي أشرف عليها إبان عهده كرئيس، أما بالنسبة لمن نجوا من تلك الفظائع، فهم يُمثّلون علامةً نادرة وملموسة على أنّ العالم شاهد مُعاناتهم. 

خارج دارفور، تأثّر الكثير من السودانيين بالحملة التي نسّقها البشير مع دولٍ إفريقية أخرى لتشويه صورة المحكمة الجنائية الدولية، بوصفها محكمةً مُناهضةً لإفريقيا.

وهو مأزقٌ وضعت المحكمة نفسها فيه بالتركيز على القضايا الإفريقية إجمالاً

وتُواصِل عائلة البشير الدفع بهذه الحجة حتى يومنا هذا. إذ قال لي مُحمد حسن البشير، شقيق عمر البشير، بإصرار: «إنّها محكمةٌ تسعى لإعادة استعمار إفريقيا».

وفي الوقت الحالي، يُواجه البشير مُحاكمةً من جانب القضاء السوداني بتُهم الفساد، مع احتمالية حصوله على حكمٍ بالسجن لعشر سنوات بحدٍ أقصى. وتضمّنت إجراءات المُحاكمة حتى يومنا هذا شهادة البشير من داخل قفصٍ حديدي. 

ومن المُقرّر أن يصدُر الحكم في الـ14 من ديسمبر/كانون الأول. ويرى أهالي دارفور في تلك التُّهم عرضاً جانبياً، في حين يضغط الاتحاد الأوروبي على الحكومة الانتقالية من أجل تسليمه إلى لاهاي ليُحاكم على الجرائم الدولية. وبالنسبة للحكومة الانتقالية، فلم يتضح بعد على الإطلاق كيف سيتعامل القضاء السوداني مع الاتهامات التي تتجاوز تُهم الفساد التي يُحاكم عليها البشير حالياً. ورغم أنّ إصلاحات القانون السابقة أدخلت الجرائم الدولية في قانون العقوبات السوداني، ولكن ليست هناك خبرةٌ قضائية في إدارة هذا النوع من القضايا. 

وربما يعُج القضاء السوداني بالمُوالين لحزب المؤتمر الوطني، المشكوك في استقلاليتهم على نطاقٍ واسع، أكثر من أيّ مؤسسةٍ عامةٍ أُخرى.

وبالنظر إلى كل الأمور الأخرى، فإنّ إرسال البشير إلى لاهاي قد يكون أضعف أساليب المقاومة من قبل الحكومة الانتقالية، على الرغم من رد الفعل الذي سيُواجهونه من أنصار حزب المؤتمر الوطني والعديد من السودانيين الآخرين. 

بعكس البديهي، ربما تكون حسابات أعضاء الجيش في المجلس السيادي مُشابهة لحسابات الحكومة الانتقالية الميالة لتسليم البشير.

إذ إنّ حميدتي، وبرهان إلى حدٍّ ما، متورّطان بشكلٍ مُباشر في الفظائع المُرتكبة في دارفور، لكن أفعالهما ليست محل تركيزٍ في قضية المحكمة الجنائية الدولية. 

وفي الوقت ذاته، لا يرى البشير سبيلاً للخروج بنفسه من المأزق خلال مُحاكمةٍ سودانية، وذلك لأنّ حميدتي -أكثر الرجال نفوذاً في السودان الآن- هو الشخص الذي قد يحرص البشير على توجيه أصابع الاتهام إليه.

وبغض النظر عن الكيفية التي ستُقرّر بها الحكومة الانتقالية التعامل مع الموقف؛ يظل السؤال حول ما سيدور مع البشير جزءاً ضئيلاً من قائمة مشكلات العدالة الانتقالية التي تُواجه البلاد. 

على المدى القريب، يجري تحقيقٌ الآن في مذبحة الخرطوم. وبالنظر لأنّ الكثير من عمليات القتل جرت أمام مقر القيادة العامة للجيش، حيث شوهدت قوات حميدتي وهي تُهاجم المُحتجين بعُنف؛ فإنّ هذا التحقيق سيُزعزع استقرار الترتيب الانتقالي دون أدنى شك، بغض النظر عن النتيجة التي سيتوصّل إليها حول هوية من يتحمّل المسؤولية عنها. 

وعلى المدى المتوسط والبعيد، يجب على المجتمع بأكمله أن يبدأ عملية التعافي من الخوف، وانعدام الثقة، والصدمة الواضحة التي تأتي في أعقاب 30 عاماً من الديكتاتورية.

يقول الكاتبة: كانت الكهرباء مقطوعةً في غالبية أجواء الخرطوم ليلة التقيت بأمجد فريد. 

وجلسنا في الخارج على ضوء القمر، ليحكي لي عن العام الصاخب الذي عاشه.

وكان فريد قد تنحى للتو بعد 10 أشهرٍ قضاها رئيساً لتجمع المهنيين السودانيين، وهي منظمةٌ جمعت تحت لوائها كافة النقابات المهنية السودانية التي عملت في الخفاء إبان عهد البشير. ورغم أنّ تجمع المهنيين السودانيين تشكّل عام 2012، لكنه لم يتحرك على الأرض فعلياً حتى عام 2018. 

وشارك فريد في ما تبيّن أنّه قرارٌ محوري في شهر ديسمبر/كانون الأول عام 2018، بعد أن بلغت الضغوط الاقتصادية على الشارع نقطةً تُهدد بقلب الأوضاع، بتحويل حملة تجمع المهنيين السودانيين للمطالبة بحدٍ أدنى للأجور إلى دعوةٍ لتغيير النظام.

وفي الأشهر اللاحقة، كان دور تجمع المهنيين السودانيين أساسياً في تأسيس قوى الحرية والتغيير، والتي صارت المفاوض الرئيسي نيابةً عن المجتمع المدني خلال الترتيبات اللاحقة للحكومة الانتقالية. لذا فهو، بعبارةٍ أخرى، شخصٌ فكّر كثيراً في مستقبل بلاده.

تقول الكاتبة إن: الفكرة الرئيسية التي خرجت بها من حديثي إليه طوال ساعتين هي شعورٌ داخلي بحجم المخاطر التي تتهدّد الشعب السوداني في اللحظة الحالية.

إذ أوضح فريد المشاعر التي استمعت إليها تدريجياً طوال رحلتي. فالناس يُعانون من أجل التعرّف إلى جانبٍ ثابت من حياتهم تغيّر منذ اندلاع الثورة. 

فما يزال الاقتصاد ضعيفاً، لذا فإنّ الحياة اليومية صعبة. لكنهم جميعاً أشاروا إلى شيءٍ يُشبه الشعور بالكرامة. إذ قال لي أحد أمناء المخازن: «الآن أستطيع أن أسير ورأسي مرفوع».

لم يرغب الشعب السوداني في أن يحكمه البشير مُطلقاً. ومع اتضاح أثره السام على مواطنيه والمنطقة المحيطة، تنقّل العالم الغربي بين جهود الإدانة غير المجدية وبين عروض الترضية. وفي الوقت ذاته، تحمّل السودانيون العاديون وطأة أفعاله. وإبان الإطاحة به، كانت رسالتهم واضحة: هذا النظام لا يُمثّلنا.

وتكمُن السخرية بالطبع في أنّ الترتيب الانتقالي الذي وصلوا إليه لا يُمثّلهم أيضاً. فمع وجود أعضاء الجيش من النظام السابق في المجلس السيادي؛ تصير النتيجة هي ثاني أفضل الترتيبات الممكنة. 

لكنّه كرّر الرأي الذي استمعت إليه كثيراً خلال العديد من المحادثات التي أجريتها في الأيام العشرة السابقة، إذ كان فريد يرى أنه من غير الواقعي أن تتوقع عرض أفضل ترتيبٍ ممكن بعد ثلاثة عقودٍ من الديكتاتورية. وقال: «هل ما تزال هناك جيوبٌ للنظام السابق؟ نعم. ولكننا نحاربها».

وعلى غرار العديد ممن تحدث إليهم، الكاتبة يُدرك فريد بوضوح مدى خطورة الترتيب الحالي.

لكن هذه اللحظة ستظل اللقطة المضيئة لهذا الجيل. وربما كانت احتمالية النجاح ضئيلة، لكن فرصة المحاولة لن تتكرّر مستقبلاً قبل مضي عقود، لذا فهي تستحق استثمار كل شيءٍ ممكن لإنجاحها.

ويُريد الشعب السوداني بأكمله، حتى أنصار النظام السابق، أن تُلغي الولايات المتحدة تصنيفها للسودان دولةً راعيةً للإرهاب.

وربما تكون هناك تطلّعاتٌ غير واقعية في ما يتعلّق بتأثير إلغاء التصنيف على الاقتصاد السوداني، لذا يتعيّن على الولايات المتحدة إعداد سياسات إنقاذ للمساعدة على تحفيز تعافي اقتصاد السودان.

لكن ذلك لا يُغيّر حقيقة أنّ الرغبة في إلغاء تصنيف السودان كدولةً راعيةً للإرهاب، تمنح الولايات المتحدة نفوذاً يُمكن أن يُساعد أولئك المتطلعين للديمقراطية، في حال استغلاله بذكاء. إذ كان التصنيف بمثابة ردٍ على أفعال النظام الذي أطاح به الشعب السوداني، ولا خلاف على أن السودانيون يستحقون إلغاء هذا التصنيف. 

وبعبارةٍ أخرى، ليس الوقت مناسباً لتفرض الولايات المتحدة سلسلةً من الشروط التي من شأنها أن تؤجل إلغاء التصنيف أكثر. 

بل تستطيع الموافقة على إلغاء التصنيف بشرط أن تقدم الحكومة السودانية تدقيقاً فاحصاً عن قطاعها الأمني، وخاصةً قوات الدعم السريع. ومن شأن هذا الشرط أن يكون مرتبطاً بتقليل تهديد الأنشطة الإرهابية في السودان، مع دعم أولئك المتطلعين للديمقراطية داخل البلاد في الوقت ذاته.

من الناحية الرسمية، تُعتبر قوات الدعم السريع خاصعةً لسيطرة الحكومة الانتقالية. 

ولكن الميليشيا لا تستجيب في الواقع سوى لأوامر حميدتي، العضو الوحيد في الحكومة الانتقالية الذي يُمسك بزمام كافة العمليات المالية التي تورطت فيها قوات الدعم السريع.

وفتح هذا الصندوق الأسود سيمنح الولايات المتحدة بعض الطمأنينة حول أنّ الأموال التي تتدفق على القطاع الأمني السوداني تُستخدم لحماية الأمن العام، ولا تُحول لتمويل المنظمات الإجرامية والإرهابية. 

وعلى القدر نفسه من الأهمية، تقطع تلك الخطوة شوطاً كبيراً لمساعدة القاطنين داخل السودان في التزامهم بإحلال الديمقراطية في البلاد. 

إذ تتطلّب الديمقراطية أن يكون قطاع البلاد الأمني خاضعاً لسيادة القانون، وليس خاضعاً لعملياتٍ عسكرية-تجارية خارج نطاق المساءلة.

ويقول حميدتي نفسه إنّه ملتزمٌ بأهداف الثورة، لذا فإنّ هذه هي فرصته لإثبات ذلك.

وربما لن تُحلّ المشكلة بطلب الولايات المتحدة إجراء تدقيق، كما أنّ هناك أسباباً عديدة للاشتباه في مدة دقة نتائجه النهائية.

لكن النتيجة النهائية ليست هي المطلوب هنا، بل عملية التدقيق في حد ذاتها. إذ ستدعم العملية الإصلاحيين في الداخل ليطرحوا الأسئلة التي يجب طرحها، وتمنحهم فرصة الحصول على بعض الإجابات. وسواءً كان الطلب هو إجراء تدقيق أو غيره؛ سيظل السؤال التوجيهي الذي يُحرّك سياسات كافة الأطراف الخارجية الراغبة في دعم التطلعات الديمقراطية للشعب السوداني هو: هل ستدعم هذه السياسة الأشخاص الساعين للإصلاح؟

وهناك العديد من الأمثلة التي تُنبئ بمدى سوء المستقبل السوداني في حال فشل الترتيب الانتقالي، بدءاً من الدول السبع المحيطة بها (مثل ليبيا ومصر وجنوب السودان) ووصولاً إلى الجماعات الإرهابية مثل بوكو حرام وجماعة الشباب. 

ولكن من الخطأ افتراض أنّ الفشل هو أمرٌ لا مفر منه. إذ إنّ هناك طريقاً للمضي قُدُماً، بالمشاركة المكثّفة والإدارة الوثيقة من جانب كافة الراغبين في رؤية سودانٍ ديمقراطي ينبثق عن المرحلة الانتقالية.

وسيتطلّب ذلك صبراً للالتزام بالانتقال الذي قد يخطو خطوتين للأمام، ثم ثلاث خطوات للوراء. كما سيتطلّب تجربة خياراتٍ خارج إطار الأدوات التقليدية، وعدم التخلّي عن ما هو جيد سعياً وراء الكمال. والأهم من ذلك هو أنّه سيتطلّب احتراماً لحق أولئك الذين فقدوا الابن، والابنة، والأم، والأب في سبيل أن تصل البلاد لهذه المرحلة.

إذ يقول فريد، بمزيجٍ من الفخر والإحباط: «في الوقت الذي كان العالم بأكمله يتطلّع خلاله إلى تطبيع العلاقات مع نظام البشير؛ نجح الشعب السوداني بمفرده في الإطاحة بالنظام السابق. فما الذي يُريده المجتمع الدولي من الشعب السوداني أكثر من ذلك؟».

المصدر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى