تقارير وملفات إضافية

لماذا لم تعد الولايات المتحدة مؤهلة لقيادة العالم حتى لو خسر ترامب الانتخابات؟

غالباً ما يُنظَر إلى أن القيادة الأمريكية للعالم باعتبارها أمراً مُسلَّماً به، على الأقل في واشنطن، فقد اضطلعت الولايات المتحدة بهذا الدور لأكثر من سبعة عقود بعد الحرب العالمية الثانية.

  سيكون من السهل التفكير في أنه إذا صوَّت الأمريكيون ضد رئاسة دونالد ترامب، وجلبوا الأممي الملتزم جو بايدن إلى البيت الأبيض، سيغدو بإمكان الولايات المتحدة أن تعود “على رأس الطاولة”، مثلما زَعَمَت مقالة بايدن الأخيرة في مجلة Foreign Affairs الأمريكية. 

لكن القيادة العالمية ليست استحقاقاً أمريكياً، حسبما ورد تقرير لمجلة Foreign Affairs الأمريكية. 

فلقد قطع ترامب تقاليد القيادة العالمية للولايات المتحدة بطرقٍ عديدة وطويلة ومألوفة. لكن بينما يحبِّذ أغلب حلفاء واشنطن (باستثناءاتٍ قليلة ملحوظة مثل إسرائيل والمملكة السعودية) الميل تجاه “أيِّ شخصٍ إلا ترامب”، سوف يتطلَّب استعادة الدور الأمريكي البنَّاء في العالم أكثر بكثير من مجرد إعلان عودة الولايات المتحدة لدورها والسير في اتجاهٍ معاكس لكتيب قواعد ترامب. لابد أن تتعامل البلاد مع التحوُّلات الرئيسية في موقعها العالمي. 

إن “الديمقراطية الأعظم في العالم” التي تدَّعي نفسها كذلك قد شردت منذ نهاية التسعينيات، فخلال أكثر من عقدين فقط شهدت البلاد عزل رئيسين في انتخاباتٍ تقرَّرَت في النهاية بواسطة المحكمة العليا، واندلعت حربٌ مثيرة للجدل في العراق، وتسبَّبَت أزمةٌ مالية في صدمةٍ عبر العالم. وفي العام 2008، انتخبت البلاد سيناتوراً أسود يتمتَّع بشعبيةٍ للرئاسة، لتترنَّح بعد ثمانية أعوام لاحقة في اتجاهٍ مختلفٍ تماماً بعد انتخاب ضيفٍ تلفزيوني عنصري يلوم حلفاء الولايات المتحدة على العلل التي تعاني منها بلاده. 

السؤال لماذا يجب أن يثق أصدقاء الولايات المتحدة، حتى لو خسر ترامب انتخابات 2020، في أن السياسة الأمريكية ستظلُّ داخل منطقة التوازن لفترةٍ طويلة؟ في المقابل، سيتعيَّن على الحلفاء المُقرَّبين التحوُّط في رهاناتهم في حال تحوَّلَت الولايات المتحدة مرةً أخرى في الانتخابات الرئاسية التالية، أو حتى بعد انتخابات التجديد النصفي في 2022. 

لم يجعل أداء السياسة المحلية للولايات المتحدة منها نموذجاً يُحتذى به في الحكم الفعَّال. 

تحتل البلاد المرتبة 27 من بين 31 دولة في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية من حيث العدالة الاجتماعية، وهذا يعكس سياساتٍ تعود إلى ما هو أبعد بكثير من ترامب نفسه. ظلَّت المساواة الاقتصادية تتراجع منذ أكثر من 40 عاماً، في حين أن “وفيات اليأس” (نتيجة الانتحار) تتزايد بسرعة. وتشوِّه العنصرية المُمَنهَجة صورة البلاد في الخارج باعتبارها نصيراً للديمقراطية والعدالة وسيادة القانون. 

هذه هي “الظروف الموجودة مُسبَّقاً لجسمنا السياسي”، بحسب تعبير فييت ثانه نغوين، المؤلِّف الحائز على جائزة بوليتزر، وهذه الظروف انعكست في استجابة الولايات المتحدة لجائحة فيروس كورونا المُستجَد. لم تكن أيُّ دولةٍ نموذجيةً في تعاملها مع الجائحة (حتى نيوزيلندا شهدت بعض العدوى في المجتمع بعد مرور أكثر من ثلاثة أشهر دون إصابات)، لكن ما مِن دولةٍ أخرى تقاتلت فيها الحكومة داخلياً، بالتوازي مع احتجاجاتٍ ضد الإغلاق ترفع السلاح داخل المجالس التشريعية. وتعرَّضَت مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها، التي كانت من قبل بمثابة المعيار الذهبي لاكتشاف الأمراض ومكافحتها على الصعيد العالمي، إلى الإضعاف والإهمال. 

وبحلول منتصف يوليو/تموز، تُوفِّيَ عددٌ من الأمريكيين بسبب كوفيد-19 أكثر مِمَّن لقوا حتفهم في حروب فيتنام والخليج وأفغانستان والعراق مجتمعين. وبحلول سبتمبر/أيلول، زادت الوفيات بكوفيد-19 زيادةً أخرى بنسبة 43%. ورغم التدهور الاقتصادي المتواصل، لا تزال البلاد تصارع من أجل تجاوز الألاعيب السياسية. لماذا قد يعتقد أيُّ شخصٍ في العالم أن الولايات المتحدة يمكن أن تقدِّم قيادةً عالميةً جادة؟ حتى هانز مورغنثاو، الأب الفِكري لسياسات القوة، شدَّد على الحاجة إلى “التركيز .. والجهود المبذولة لخلق مجتمعٍ في الوطن يكون بمثابة نموذجٍ يمكن للدول الأخرى أن تحذو حذوه”. 

فكِّروا في الأمر: إذا كان 17% فقط من الأمريكيين يثقون في الحكومة، لماذا يجب أن يثق الآخرون في الولايات المتحدة؟ 

خلال معظم القرن والنصف الأول لها، استفادت الولايات المتحدة من مسافتها التي تفصلها جغرافياً عن أوروبا وآسيا للبقاء بصورةٍ عامة منعزلة عن العالم. لم تعزل البلاد نفسها بصرامةٍ، لكنها اختارت انتقائياً متى وأين تنخرط. وبعد العام 1945، قبعت الولايات المتحدة على قمة العالم باعتبارها القوة المهيمنة، من الناحية العسكرية والاقتصادية والأيديولوجية والدبلوماسية -وزادت الهيمنة في هذه النواحي مع انهيار الاتحاد السوفيتي في العام 1991. واليوم تجد الولايات المتحدة نفسها ليس في انعزالٍ عن العالم ولا على قمته، بل في خضمه، وهي تشكِّل الأحداث والقوى العالمية وتتشكَّل من خلالها على السواء. 

واليوم لم يعُد العالم هو ذلك الذي يمكن لدولةٍ -سواء كانت الولايات المتحدة أم الصين- أن تقبع على القمة فوق الآخرين. فلقد جعلت التحوُّلات في العلاقات بين الدول مثل هذه الهيمنة أقل ترجيحاً. 

يمكن للقوى العظمى أن تهيمن بسهولةٍ أكبر عندما يكون هناك تهديدٌ أمني يوحِّد مجموعة دول ذات مصالح متباينة. لنأخذ أوائل القرن التاسع عشر مثالاً على ذلك، حين ظهر تحالف أوروبا بعد خراب الحقبة النابليونية، أو الحرب الباردة حين كان الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي ينظر كلٌّ منهما للآخر باعتباره تهديداً وجودياً وسعت دولٌ أخرى للحماية من تلك القوة العظمى أو الأخرى. لم يتشكِّل في القرن الحادي والعشرين بعد تهديد أمني شامل مشترك كهذا. لم تنجح إدارة الرئيس جورج دبليو بوش في خلق وحدةٍ بحربها العالمية ضد الإرهاب في أعقاب الحادي عشر من سبتمبر/أيلول. ولقد أصبحت الصين أكثر عدوانية، ومن المُرجَّح أن تظل المنافس الرئيسي للولايات المتحدة لعقودٍ من الزمن، لكن جهود الولايات المتحدة لإثارة “الرعب الصيني الجديد” كانت محدودةً بالنسبة للدول التي ترغب في الحفاظ على العلاقات مع كلا البلدين. 

وفي عالم اليوم الذي يتسم بالتهديدات والمصالح المتشعِّبة نسبياً، تشعر دولٌ قليلة أن أفضل خدمة لها هي علاقة حصرية إلى حدٍّ كبير مع قوةٍ رئيسية واحدة فقط. خلال الحرب الباردة، كان حلفاء الولايات المتحدة في أوروبا وآسيا يخشون حقاً أن يغزوهم الاتحاد السوفييتي أو يحاول تقويض أنظمتهم السياسية. وقليلون هم من لديهم مخاوف مماثلة اليوم، وفي المقابل يشعر قليلون بالحاجة إلى اختيار أحد الجانبين دون الآخر. هناك مثلاً توتُّراتٌ كبيرة لدى الهند وأستراليا مع الصين، لكنهما لا يزالان يتعاونان مع بكين في الأمور ذات الاهتمام المشترك. وعلى الرغم من كلِّ الدعم الذي قدَّمَته إدارة ترامب لإسرائيل، فإن الصين الآن هي أكبر شريكٍ تجاري آسيوي مع تلك الدولة، وهي مستثمرٌ بارزٌ بشكلٍ متزايد في اقتصادها. وربما تتجه المملكة السعودية، وهي مُفضَّلة لدى ترامب، إلى الصين من أجل برنامج أسلحة نووية. 

خلال الحرب الباردة وبعدها مباشرةً، كانت الولايات المتحدة حاميةً جذَّابة، بسبب تفوُّقها لعسكري ومركزيتها في الاقتصاد الدولي. ومع ذلك، لا يقدِّم أيٌّ من هذين العاملين نفوذاً مماثلاً اليوم. وبينما تظلُّ قوة الجيش الأمريكي حاسمةً للردع الممتد عبر الشراكات مع الناتو ومنطقة المحيطين الهادي والهندي، فإن ما يقرب من 20 عاماً من الحرب في أفغانستان والعراق، بتكلفةٍ تزيد عن 6 تريليونات دولار، توضح الفائدة المحدودة للتفوُّق العسكري لتحقيق الأهداف الاستراتيجية. وانخفضت حصة الولايات المتحدة من الناتج العالمي الإجمالي، من 51% عام 1951 و25% عام 1991 إلى حوالي 15%. وتسبَّبَت العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة على إيران وفنزويلا وكوريا الشمالية في تكاليف اقتصادية باهظة، لكن دون الامتثال لمطالب الولايات المتحدة. 

خلال الحرب الباردة، كانت الولايات المتحدة قادرةً على القيادة، جزئياً عن طريق تقسيم العالم إلى ديمقراطيات من ناحية وأنظمة استبدادية من ناحيةٍ أخرى. لكن هذا الانقسام الأيديولوجي له حدوده. الحلفاء الديمقراطيون هم الشركاء الطبيعيون للولايات المتحدة، وتظلُّ السياسة الخارجية الأقوى لمواجهة الصين وروسيا والدول الاستبدادية الأخرى سياسةً جماعية في المقام الأول. لكن الولايات المتحدة لطالما كانت غير متسقة، إن لم تكن منافقة كذلك، في اعتبار بعض الدول غير الديمقراطية حلفاء أو شركاء. خلال الحرب الباردة، واليوم، تتطلَّب قضايا مثل الحدِّ من التسلُّح وعدم انتشار الأسلحة النووية وتغيُّر المناخ والأوبئة، كما ندرك الآن، أن تتعاون الولايات المتحدة مع الأنظمة الاستبدادية من أجل تحقيق الأهداف الأمريكية. 

في الواقع، أدَّى المزج بين أزمة كوفيد-19 والأزمة المناخية المتفاقمة إلى أننا نعيش في خضم العالم لا على قمته. وحتى لو كانت الولايات المتحدة لديها سياسات محلية من الدرجة الأولى بشأن الوقاية من الجوائح والتغيُّرات المناخية، ستظلُّ عرضةً لما يفعله الآخرون -أو لا يعرضوا عن فعله. يتسبَّب تغيُّر المناخ في 400 ألف وفاة على المستوى العالم كلَّ عام، مقارنةً بـ16 ألف وفاة بسبب الإرهاب عام 2018، ومن المُتوقَّع أن يرتفع هذا العدد بنسبة 50% بحلول عام 2030. يجب أن يكون بناء القدرة على الصمود ضد مثل هذه التهديدات بناءً مشتركاً على المستوى العالمي. 

المصدر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى