تقارير وملفات إضافية

لماذا يجب على دول العالم فتح حدودها الآن وبسرعة؟ كارثة أكبر من كورونا قد تقع

يصعب في الوقت الحالي تصورُ تهديدٍ أكبر لرفاهية العالم من جائحة كورونا. فثمة أكثر من 23 مليون شخص ثبُتت إصابتهم بالفيروس -وحتى هذا العدد على الأرجح لا يمثل سوى جزء بسيط من حجم الانتشار الفعلي للفيروس- وتُوفي أكثر من 800 ألف شخص من جراء الإصابة به. كما عصف الوباء بالاقتصاد العالمي، ليَتوقع البنك الدولي أن ينخفض الناتج المحلي العالمي بأكثر من 5% هذا العام، وهو كساد عالمي حقيقي أشد وطأة بكثير من الانكماش الذي لحق بالاقتصاد العالمي في عامي 2008 و2009.

لكن، وعلى الرغم من ذلك، فإن واقع الأمر أن جائحة كورونا ليست أكبر تهديد يواجهه العالم. فالخطر الأشد اليوم هو النزعة القومية الآخذة في التزايد، والتي ما انفكت تهدد بتقويض التعاون الدولي في القضايا الحيوية، وذلك ليس على مستوى الصحة العامة العالمية فحسب، وإنما على مستوى التعامل مع التغير المناخي ومسائل التجارة العالمية، بحسب تقرير لمجلة Foreign policy الأمريكية.

كما أن ردود فعل الحكومات على الوباء، والتي ركزت على إغلاق الحدود وحظر السفر والإجراءات الحمائية فيما يتعلق بإنتاج السلع الطبية وغيرها من المنتجات وحظر تصديرها، كلها سياسات تغذي الرواية التي تزعم أن الأشخاص الأجانب والسلع الأجنبية ثغرةٌ ينفذ منها الخطر والضعف. ومن ثم، ففي الوقت ذاته الذي تكافح فيه الحكومات للسيطرة على الوباء، فإنها بحاجة ماسة أيضاً إلى تغيير منهجها وتبني استجابات أكثر تعاونية، بدلاً من بناء الجدران والانفصال عن بقية العالم. ويشمل ذلك التحرك قدماً في أسرع وقت إلى إعادة فتح الحدود بين الدول.

ما يقرب من تسعة أشهر منذ تفشي الفيروس لأول مرة في الصين، ولا تزال الحدود بين الدول مغلقة إلى حد كبير. تراجع استخدام المعابر الحدودية البرية بنسبة 97% عن العام الماضي. وحتى الدول الأوروبية، ومنها الدول الأعضاء الـ25 في ما يسمى بمنطقة شنغن التي كانت قد ألغت جميع القيود على السفر بين دولها، أغلقت حدودها في مارس/آذار، وبعد أن أعادت فتحها جزئياً هذا الصيف، عادت الآن لتبدأ في إغلاقها في بعض الحالات مرة أخرى.

وعلى الرغم من أن الاتحاد الأوروبي أوصى دوله الأعضاء بإعادة فتح أبوابه أمام البلدان التي تعتبر “آمنة من الناحية الوبائية”، ومنها الصين واليابان وكوريا الجنوبية، فإن حدوده لا تزال مغلقة أمام معظم بلدان العالم الأخرى، ومنها الولايات المتحدة. حتى إن بعض الدول الأعضاء مثل بولندا والمجر رفضت إعادة فتح حدودها أمام أي دولة أخرى على الإطلاق. كما تظل الولايات المتحدة مغلقة أمام المسافرين القادمين من الصين والبرازيل والاتحاد الأوروبي وأيرلندا.

كذلك دفع النقص الأولي في الإمدادات الطبية ومعدات الحماية الشخصية البلدان إلى محاولة إعادة توجيه الإنتاج الصناعي في القطاعات الحيوية، مثل المعدات الطبية، إلى الداخل المحلي. وهكذا خصصت اليابان أكثر من ملياري دولار لإغراء الشركات اليابانية بالعودة من الصين، ومنها شركة Iris Ohyama، وهي شركة تصنع أقنعة الوجه الطبية. وعمدت أكثر من ثمانين دولة ومنطقة جمركية في بداية الأزمة إلى تقييد تصدير أقنعة الوجه والقفازات وغيرها من معدات الوقاية والأدوات الطبية. 

كما وقع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب هذا الشهر أمراً تنفيذياً يفرض على الوكالات الفيدرالية شراء الأدوية الأساسية والمعدات الطبية الرئيسية من الشركات المصنعة الأمريكية فقط، وتعهد بمليارات الدولارات في هيئة إعانات حكومية لدعم الإنتاج المحلي. وخلال توقيعه على الأمر، قال ترامب: “يجب ألا نعتمد أبداً على دولة أجنبية لتلبية احتياجات أمريكا الطبية أو غيرها”.

كان اللجوء إلى ضوابط وإجراءات التقييد على التجارة الحدودية بهدف تعزيز الإنتاج المحلي أمراً مفهوماً، وحتى يستحق الثناء في المراحل الأولى من الوباء. فبالنظر إلى أن فيروس كورونا ينتشر بالدرجة الأولى عن طريق الاتصال الشخصي الوثيق، كان السفر الدولي السبب الأساسي في تفشي المرض في جميع أنحاء العالم. لكن القيود فاقمت من مشاعر الانغلاق والخوف من الآخرين بين الجماهير القلقة، وهو ما يظهره استطلاع حديث، حيث سئل مواطنون أوروبيون عن الكيفية التي تغيرت بها آرائهم خلال الأزمة، فقال 57 % إنهم يريدون الآن ضوابط أشد صرامة على الحدود، وأصبحت هذه الإجابة الأكثر شيوعاً. 

وفي الولايات المتحدة، يؤيد 78% من المستطلع آراؤهم إغلاق الحدود وقيود الهجرة للحد من انتشار الفيروس. ويريد ثمانية من كل عشرة كنديين أن تظل الحدود مع الولايات المتحدة مغلقة لبقية هذا العام على الأقل.

أي أن التدابير الاحتياطية أفسحت المجال لرسالة أشد خطورة، مفادها أن أفضل طريقة لكي تحمي الدولة نفسها من الفيروس هي إبعاد الأجانب وتقليل الاعتماد على السلع الأجنبية. وليس من المستغرب أن نرى المثال البارز على ذلك في الولايات المتحدة، إذ استخدمت إدارة ترامب الأزمة لرفض جميع طلبات اللجوء على الحدود، وإيقاف إجراءات الهجرة، ومنع معظم العمال الأجانب من دخول البلاد.

الأمر الأشد إثارة للقلق هو تبني هذا النوع الجديد من الركون إلى النزعة القومية حيال المهاجرين من قبل دولٍ لا تزال تعتبر منارات لليبرالية، مثل كندا، التي أبدى مواطنوها عدوانية شديدة حيال وجود مجموعة من الأمريكيين المسموح لهم بالدخول، لدرجة أن بعضهم أخذ يشوه السيارات التي تحمل لوحات ترخيص أمريكية. ومن جهة أخرى، تأتي نيوزيلندا، الدولة الأبرز دولياً في مكافحة الوباء، فقد أوقفت انتشار البلاد في فترة وجيزة وأبقت حدودها مغلقة أمام جميع المواطنين الأجانب على أمل منع تفشي المرض مرة أخرى في المستقبل. إنه انعكاس مخيف للجدل العالمي الذي مفاده أن العزلة الذاتية لدولةٍ جزرية أصبح فجأة نموذجاً لسيطرة واعية على الوباء.

هؤلاء القادة يلعبون بالنار، فكما رأينا في أعقاب هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول، من السهل جداً إثارة المخاوف بشأن الأجانب الخطرين. وفي الولايات المتحدة، بنت السلطات مشروع الأمن الداخلي بالكامل بعد 11 سبتمبر/أيلول على فكرة أن البلاد يمكن أن تحمي نفسها من أمراض العالم عن طريق إحاطة نفسها بفقاعة من الأمن والأمان. إلا أن هذا الوهم كان له عواقب وخيمة، فما بدأ كممارسة عقلانية لمحاولة التعرف على الإرهابيين وإبعادهم، تحول إلى هوس بالجدران الحدودية في وجه أولئك الفارين من التعذيب والاضطهاد، وأقفاص للأطفال المهاجرين بعد فصلهم عن والديهم. والمساعي الحالية لاحتواء الفيروس من خلال الضوابط الحدودية تعاني من قصر النظر ذاته.

فعلى الحكومات، بدلاً من ذلك، أن تبدأ فوراً في وضع خططٍ لإعادة فتح حدودها بأمان. ويجب ربط هذه الخطط على نحو وثيق بالمقاييس الصحية والتوسع في إجراءات الاختبار وتعقب المخالطين للسيطرة على الفيروس وطمأنة المواطنين. المتطلبات الفنية صعبة، لكنها ليس أصعب مما كانت عليه بعد 11 سبتمبر/أيلول، عندما سنّت السلطات أكواماً من الإجراءات الجديدة على الحدود والمطارات للقبض على الإرهابيين والحيلولة دون المخاطر الأمنية الأخرى. يمكن أن يطلب من المسافرين إجراء اختبارات فورية قبل المغادرة وعند الوصول. ويمكن أن يطلب من الزوار أيضاً تنزيل تطبيقات تتبع لجهات الاتصال من أجل تتبع تحركاتهم بغرض تحديد المخالطين ووقف أي تفش جديد للفيروس، كما تفعل الصين.

وينبغي ألا تكون هذه المبادرات مبادرات وطنية بحتة. يجب أن تعمل البلدان معاً بدرجة وثيقة لوضع نهج مشترك لتنسيق تدابير الصحة العامة وإعادة فتح الحدود تدريجياً ولمشاركة التقنيات المختلفة، مثل تلك الخاصة بالاختبار والتعقب. هناك حاجة ماسة اليوم إلى مبادرات حدود ذكية تدمج تدابير الصحة العامة والسفر. كما يجب على الدول الأوروبية أن تعمل على بروتوكول مشترك بدلاً من أن تسلك كل دولة طريقها الخاص. كذلك ينبغي إطلاق مناقشات دولية من خلال مجموعة العشرين والهيئات المتخصصة مثل “منظمة الطيران المدني الدولي”.

وفي السياق ذاته، يجب على النقاشات بخصوص سلاسل التوريد أن تبتعد عن نموذج الاكتفاء الذاتي وأن تخطو نحو نموذج قائم على المرونة يقر بأنه لا يمكن لأي بلد أن ينجح في حماية مواطنيه من خلال العمل بمفرده. وفي هذا الإطار، دعا المفوض التجاري الأوروبي، فيل هوغان، إلى مبادرة دولية “لتيسير الوصول العالمي إلى منتجات الرعاية الصحية بأسعار معقولة، وخاصة للبلدان الضعيفة التي تفتقر إلى القدرات التصنيعية الكافية”. يمكن أن يشمل ذلك إلغاء التعريفات والقواعد الجديدة التي تحكم قيود الاستيراد والتصدير خلال الأزمات. وتحتاج البلدان أيضاً إلى التعاون فيما يتعلق بتطوير وتوزيع اللقاحات، والابتعاد عن المسار الحالي المرتكز على “قومنة اللقاح“، حيث تتنافس الاقتصادات الكبرى لإعلان أيها يمكنه حماية مواطنيه أولاً.

وربما الأهم من كل ذلك، أن الحكومات بحاجة إلى تغيير رسالتها العامة. فالحدُّ من انتشار فيروس كورونا مشكلة عالمية وليس مشكلة وطنية على مستوى كل دولة. لن يكون أي بلد آمناً ما لم تتم السيطرة على الفيروس في كل مكان آخر. يجب أن تصبح تلك الأزمة مثالاً على كيفية تعاون العالم لحل مشكلة مشتركة، وربما وضع نموذج لمعالجة مشكلات أخرى مثل التغير المناخي أو التدفق الدولي للاجئين. لكن ما يحدث حتى الآن، هو أن الوباء آخذ في التحول بسرعة إلى دراسة حالة تاريخية في كيف تفرق الأزمات بين البلدان.

المصدر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى