ثقافة وادب

لم تعتنق الإسلام قط، لكنها دعمت محمد الفاتح وساهمت في فتح القسطنطينية، تعرف على مارا برانكوفيتش

بقيت لعقود واحدة من أهم الدبلوماسيين في أوروبا، وحافظت على سلام هش بين العثمانيين من جهة ومسيحيي أوروبا من جهة أخرى، في عهد زوجها السلطان مراد الثاني، وفي عهد ابنه محمد الفاتح من بعده، وبالرغم من أنها لم تعتنق الإسلام يوماً فإنها ساندت الدولة العثمانية، وأيدت فتح القسطنطينية، ورفضت الزواج من الإمبراطور البيزنطي بعد وفاة زوجها السلطان مراد.

بقيت حياتها غامضة لقلة المراجع التاريخية التي تتحدث عنها، وأعطتها شبكة نتفليكس جزءاً من حقها عندما سلطت الضوء على دورها في حياة محمد الفاتح، واعتنائها به صغيراً، وحتّى مساهمتها في فتح القسطنطينية وهو شاب طموح، في مسلسل Rise of Empires: Ottoman. وقد قامت بدورها الممثلة التركية الشهيرة توبا بويوكستون.

السلطانة ماريا، أو مارا خاتون، أو أميريسا، أو ديسبينا خاتون، كلها أسماء عُرفت بها ابنة الملك الصربي دوراد (جورج) برانكوفيتش، الذي حكم منطقة محفوفة بالمخاطر لوقوعها بين الإمبراطورية العثمانية التي تنمو بشكل متسارع في أوج فتوحاتها، والإمبراطورية الهنغارية المتعطشة أيضاً للتمدد.

لم تكن صربيا آنذاك في موقف تحسد عليه، إذ يتوجب عليها إرضاء إمبراطوريتين تتنازعان فيما بينهما، فما كان من الملك الصربي إلا أن حذا حذو غالبية ملوك القرون الوسطى، وقام بتزويج بناته زيجاتٍ تضمن مكانته السياسية.

وهكذا كانت مارا من نصيب السلطان مراد الثاني، بينما زُفَّت شقيقتها كاترينا زوجة لكونت المجر.

عندما عقد زواجها على السلطان مراد الثاني في العام 1435 كانت مارا تبلغ من العمر 21 عاماً، وكان السلطان يكبرها بـ15 عاماً.

وكان هذا الزواج محاولة من الملك الصربي للحيلولة دون غزو الإمبراطورية العثمانية لصربيا، لكن مع ذلك تواصلت الغارات العثمانية من حينٍ لآخر كما ذكر بعض المؤرخون.

تذكر بعض المصادر أن السلطان مراد الثاني لم يكن مهتماً في البداية بالزواج من ابنة ملك ضعيف كالملك الصربي، لكن والد مارا عرض على السلطان مساحات شاسعة من الأراضي الصربية في سبيل إتمام هذا الزواج، من ضمنها مقاطعات دوبوسيكا وتوبليكا، ما شجّع مراد الثاني على اتخاذ هذه الخطوة.

دخلت مارا إلى حرملك السلطان بعد زفافٍ ضخم أقيم في أدرنة، عاصمة العثمانيين آنذاك، وقد كان مراد الثاني متزوجاً قبل ذلك من خديجة خاتون والدة محمد الذي سيصبح الفاتح في المستقبل.  

حظيت مارا بحب واهتمام السلطان كما ذكر المؤرخون، إلا أنها لم ترزق منه بأطفال.

مرت سنوات زواج مارا من السلطان مراد بهدوء حتى عام 1438، عندما أخلف الملك الصربي (والد مارا) وعده بأن يبقى على الحياد في حرب مراد الثاني مع الإمبراطورية المجرية، ومنع الجيوش العثمانية من المرور عبر أراضيه للوصول إلى هنغاريا، وهو ما أشعل غضب السلطان مراد.

عقب ذلك، بدأ السلطان مراد باحتلال الأراضي الصربية، واستولى تقريباً على كامل البلاد، بينما هرب الملك الصربي إلى البندقية. استاءت مارا من الخلافات بين زوجها ووالدها، إلا أن تلك الحادثة لم تكن السبب في انفجار غضبها في وجه السلطان.

فبعد أن عيّن مراد غريغوري برانكوفيتش، شقيق مارا والوريث الشرعي للعرش، حاكماً على صربيا، شكّ السلطان بخيانة غريغوري واتهمه بالتآمر والتواصل مع والده في البندقية، فقام بأسره عام 1441، وزجّ به في السجن إلى جانب أخيه ستيفان الذي كان محتجزاً سابقاً كرهينة لدى الدولة العثمانية منذ زواج مارا قبل ست سنوات.

وبحسب بعض المصادر الأجنبية، فقد سُلب الأخوان برانكوفيتش بصرهما بناءً على طلب السلطان، وأطلق سراحهما بعد ذلك، إلا أنّه أمر بعدم إخبار مارا بالأمر حتى يتمّ.

اشتعل غضب مارا عندما علمت بالأمر، وراحت تصرخ لدرجة أن زوجها جثا على ركبتيه معتذراً لها، بحسب ما ذكر بعض المؤرخين، واعترف أنه تمادى هذه المرة، وأمر بأن يُذهب ببصر الشخص الذي أعمى أخويها كنوع من التعويض.

يعتقد هؤلاء المؤرخون أنّ هذا الحادث يمكننا من فهم أعمق لعلاقة مارا بزوجها، فمن الواضح أن مراد كان يحترم مارا، ويخشى غضبها ويراعي مشاعرها.

وأياً كانت مصداقية هذه الحادثة من عدمها، يبدو أنّ الأميرة مارا كانت ذات دلال لدى السلطان مراد الثاني.

لم تهدأ الأمور بين صربيا والمجر من ناحية والعثمانيين من ناحيةٍ أخرى حتى عام 1444، وبعد بضعة أشهر من السلام تنازل السلطان مراد الثاني لابنه محمد الفاتح عن الحكم وتفرّغ للعبادة.

كانت مارا بمثابة أمٍّ ثانية لمحمد الفاتح، وجمعتهما علاقة قوية جداً، إذ كان بمثابة ابنها الذي لم تلده، ويرجّح مؤرخون أن علاقتهما كانت لتكون مختلفة لو أن مارا رزقت بالأطفال، فقد كان شائعاً آنذاك تصارع الأشقاء في سبيل الحكم، ولا بد أن أولاد مارا -إذا ولدت- كانوا سيشكلون تهديداً لأخيهم الفاتح.  

بعد وفاة زوجها، ضاقت مارا ذرعاً من بقائها بالحرملك، واستأذنت من الفاتح للذهاب إلى صربيا، فأذن لها ما دام الرحيل سيُسعدها، بينما أظهر المسلسل أنّه هو الذي طلب من مارا العودة لأبيها لإمداده بالمعلومات من قصر أبيها، ويبدو أنّ هذه النقطة خلافيّه بين المؤرخين.

بعودة مارا، استرجع والدها الذي عاد إلى عرش صربيا المساحات الشاسعة من بلاده، التي قدمها للسلطان مراد عندما زوَّجه ابنته.

وكانت آنذاك لا تزال مرشَّحة قوية للزواج، إذ يرجح أن عمرها كان يتراوح ما بين الـ32 والـ39 عاماً، وقد تقدم إلى خطبتها الإمبراطور البيزنطي الأخير “قسطنطين الحادي عشر” وعدد من النبلاء، مثل النبيل والحليف التشيكي ضد الهنغاريين، جانا جيسكرو.

إلا أن مارا قد تعهّدت بعدم الزواج ثانية بعد وفاة زوجها السلطان مراد، فرفضت جميع خاطبيها، ومن اللافت للنظر أن والدها وإخوتها احترموا هذا التعهُّد، ويبدو أنّ احترامهم لهذا التعهُّد كان سياسياً، فربما يثير زواجها وهي زوجة السلطان العثماني السابق حفيظة العثمانيين.

لم تمر أيام مارا بسلام في صربيا، فسرعان ما توفي والدها وبدأ الصراع والاقتتال على العرش بين أخيها غريغوري من جهة وعمِّها توماس من جهة ثانية وشقيقها ستيفان من جهة ثالثة، ونما الصراع لدرجة أن مارا فضَّلت العودة إلى الإمبراطورية العثمانية، خاصة بعد وفاة والدتها.

استُقبلت مارا بأذرع مفتوحة عندما قررت العودة إلى ديار زوجها المتوفّى، وقد اختارت مكاناً للإقامة قرب جبل آثوس، وهو جبل مقدس بالنسبة للمسيحيين يقع بالقرب من سالونيك (في اليونان حالياً).

ومن الجدير بالذكر أن الساحل الممتد بين سالونيك وشبه جزيرة كاساندرا سُمي باسم “كالاماريا” أو “ماري الطيبة” تيمُّناً بها.

ومن الجدير بالذكر أيضاً، أن النساء كنَّ ممنوعات من الاقتراب من منطقة جبل آثوس المقدس، إلا أن الرهبان سمحوا لمارا بالدخول إلى المنطقة، لتكون بذلك ثاني امرأة تدخل المنطقة. 

حافظت مارا على وجودها داخل بلاط محمد الفاتح، بعد أن عادت من صربيا، إذ كانت تقدم للسلطان النصح والمشورة، لكنها بقيت مقيمة بالقرب من آثوس في منطقة “جيزيفو”.

ضم بلاطها في “جيزيفو” نبلاء صربيا المنفيِّين، وانضمت إليها لاحقاً أختها كاترينا بعد وفاة زوجها إمبراطور المجر، وقد لعبت الأخوات دور الوسيط بين جمهورية البندقية والإمبراطورية العثمانية خلال الحرب البندقية-التركية بين عامي 1463 و1479.

إذ أرسل البنادقة مبعوثيهم إلى الأخوات اللواتي عملن على نقل الرسائل إلى القسطنطينية بأنفسهم أو مرافقة المبعوثين إلى هناك. 

حافظت مارا على ديانتها المسيحية الأرثوذكسية ولم تعتنق الإسلام، وكان لها نفوذ لا يستهان به في تعيين زعماء الكنيسة الأرثوذكسية في الدولة العثمانية.

إذ كانت ذات سلطة قوية في عهد محمد الفاتح، وظلّت مُؤثّرةً حتى خلال عهد خليفته، بايزيد الثاني.

ونتيجة نفوذها، حصل المسيحيون اليونانيون الأرثوذكس في القدس على امتيازاتٍ خاصة، امتدت لاحقاً لتشمل جماعة دير آثوس.

كما تدخلت مارا في عمليات انتخاب بطريرك الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية، فأقنعت الفاتح بتعيين كاهنها الشخصي، ديونيسيوس، بطريركاً في عام 1465.

لسوء الحظ، لم يدُم ديونيسيوس فترة طويلة في هذا الدور، فحاولت مرة أخرى تعيين رافائيل، وهو راهب صربي، إلا أنه لم يستطع جمع الأموال التي يتعين على البطريرك دفعها لخزينة الدولة.

وكان الرهبان يطلبون وساطتها إذا ما أرادوا القيام بأي شيء يستدعي موافقة السلطان، فلجأوا إليها على سبيل المثال من أجل نقل رفات يوحنا ريلا من فيليكو ترنوفو إلى دير ريلا، وبفضلها تحقّقت أُمنيتهم عام 1469.

توفيت مارا بسلام عام 1487، ودُفنت في دير كوسينيتزا، تاركةً وراءها قدراً كبيراً من الثروة والآثار الدينية، ورغم أن السلام الذي قام بين المسلمين والمسيحيين في ذاك الزمن يُوصف بأنه سلام “هشٌّ”، فإن جهود مارا الدبلوماسية بين الطرفين أسهمت إلى حد كبير في صنع عقود من السلام.  

المصدر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى