تقارير وملفات إضافية

مأساة إدلب مستمرة، فهل تصبح أكبر مقبرة جماعية في التاريخ؟

الهدنة التي تشهدها إدلب مؤخراً فرصة لالتقاط الأنفاس وإعادة ترتيب الأوراق، لكن المحافظة السورية التي تعد المعقل الأخير للمعارضة لم تعد تشهد أحاديث سياسية تتعلق بالنظام أو معارضيه، بل أصبحت كيفية البقاء على الحياة هي الغاية الوحيدة المتبقية لمدنيين أعيتهم الحيلة واستسلموا للمصير أياً كان.

صحيفة الغارديان البريطانية نشرت تقريراً بعنوان: “هل يتمكن المدنيون اليائسون في إدلب، الذين تلاحقهم الحرب، من الصمود أمام الهجوم الأخير؟”، ألقى الضوء على فصل جديد من فصول المأساة الإنسانية التي ربما تكون الأكبر في التاريخ الحديث على الإطلاق.

وسط عاصفة شتوية هبت الشهر الماضي، نصب مهدي البيجي خيمته على أطراف أحد المقابر، آملاً أن ينجح أخيراً في النجاة من حرب لاحقته هو وعائلته بمحافظة إدلب طوال ست سنوات عصيبة.

وتجمعت مياه الفيضانات في مكان قريب، وعمّ البرد القارس السهول التي استقرت بها الأُسرة؛ التي اعتاد أفرادها أن يكونوا منفيين في أرضهم، لكن انتقالهم للمرة الخامسة تحت القصف استنفد قواهم واستسلموا للمصير التالي الذي قد يسلمهم إليه القدر، حتى لو كان هذا المصير دفنهم في المكان الذي لجأوا إليه.

يقول البيجي (47 عاماً)، وهو صاحب متجر من ريف حلب: “إذا وصل القتال إلينا هنا، فلن نضطر إلى الذهاب بعيداً، وأقله أننا لا نواجه أي مشكلات مع جيراننا في أثناء انتظارنا. ولا يوجد مكان أفضل يمكننا الذهاب إليه”.

وعندما استيقظوا هم وآخرون ممن يقطنون هذه المقبرة التي تجمع بين الأحياء والأموات يوم الجمعة الماضي، ازداد قتلى الحرب قرباً منهم، إذ جُهزت أربعة قبور جديدة، حُفرت في الرمال الحمراء على بُعد أمتار قليلة من الخيام، للوافدين الجدد.

وكان من المفترض أن تصل جثث هؤلاء من آخِر ضحايا الحرب إلى المقبرة ليلاً، لكنهم دُفنوا في المكان الذي سقطوا فيه خلال غارة جوية على مخيم جديد آخر بالجوار، لكن هذه القبور الجديدة ستظل مفتوحة في الوقت الحالي؛ فهي ستُستخدم حتماً في الأيام أو الساعات المقبلة، حتى بعد سريان وقف إطلاق النار في إدلب، الذي يعد أحدث محاولات التوسط لإنهاء معاناة لم يشهد العالم مثيلاً لها مؤخراً.

وفي الجوار، خلد كلبان إلى النوم على قبر رجل وافته المنية منذ فترة طويلة، بعد نجاحهما، بفضل جسديهما الهزيلين، في التسلل إليه بسهولة عبر السياج الصدئ المحيط به، وفيما شخصَ الأطفال بأبصارهم من وراء شواهد القبور، أشار إليهم الكبار لحثهم على الانضمام إليهم في خيامهم المغطاة بالطين.

ولم تظهر طائرات في السماء للمرة الأولى منذ أسابيع، ولم يعد الطريق الأمامي الممتد بين ساحات معارك إدلب التي لا ترحم إلى اليمين، وبر الأمان في تركيا على بُعد تسعة كيلومترات إلى اليسار، مزدحماً بالعائلات اليائسة التي تحاول الفرار.

إذ أوقفوا السيارات التي تقلُّهم إلى جانب الطريق، واستقروا بين بساتين الزيتون وأشجار اللوز التي تصطف على جانبي الطرق التي تربط المحافظة، ووجد فيها أولئك الذين حالفهم الحظ للعثور على أنقاض مهجورة ملجأً. وكانت المخيمات الرسمية، إلى جانب الرعاية الصحية والأغطية، الهدف الأسمى لآخر دفعة من اللاجئين في إدلب، لكن معظمها بلغ طاقته الاستيعابية القصوى عندما اجتاحت الحرب المدن والبلدات ودمرتها عن بكرة أبيها أواخر فبراير/شباط، حيث دمرت الطائرات الحربية الروسية كل شيء تحتها، ومكّنت قوات الرئيس السوري من التقدم باتجاه الشمال.

يقول ساكن آخر من سكان المقبرة، ويدعى أحمد حوش (54 سنة): “سندبر أمورنا بما لدينا في هذا المكان. سينتهي بنا المطاف جميعاً هنا على أي حال”. ووصل رجل آخر، مؤيد حنيش، لتوّه من بلدة أريحا، التي تم إجلاء سكانها، بعد أن كانت قوات النظام والميليشيات الشيعية في الطريق لاقتحامها، وهدأت وتيرة هذا الزخم بعد أن تسببت غارة جوية في مقتل ما لا يقل عن 34 جندياً تركياً في 27 فبراير/شباط؛ وهو ما دفع أنقرة إلى شن هجوم مضاد عنيف، ليس على القوات الروسية التي نفذتها، وإنما على القوات السورية وحلفائها على الأرض.

في قرية الفوعة، على بُعد 10 كيلومترات إلى إدلب، قال عضو المعارضة المسلحة للزعيم السوري، النقيب ناجي مصطفى، إن الهجوم التركي رفع الروح المعنوية لأفراد التحالف المناهض للأسد، وقال عن هجوم تركي عنيف استمر ثلاثة أيام أسفر عن مقتل مئات المقاتلين وتدمير كثير من العتاد العسكري للجيش السوري: “بشار الأسد لم يكن يتوقع أن يواجه ما واجهناه منذ فترة طويلة. إذا درست الجيش السوري جيداً، فستدرك أنهم ليسوا على مستوى الأتراك أو أي أحد آخر. وعندما تدرس الدولة السورية جيداً، فستعرف على وجه اليقين أنها تدار كما لو كانت مزرعةً لعائلة الأسد. هذه ليست دولة حقيقية”.

وتُعرف الفوعة بأنها بلدة شيعية، وهي واحدة من منطقتين من هذه المناطق في شمال غربي سوريا التي كانت نقطة محورية في الجهود الإيرانية لحماية النظام. ويُشار إلى أن الجنرال الإيراني القتيل قاسم سليماني، الذي قُتل بضربة من طائرة أمريكية مسيّرة ببغداد في يناير/كانون الثاني، قضى بعض الوقت في البلدة لتنظيم عملية استعادة حلب أواخر عام 2016، وأشرف أيضاً على إخلائها بعد ذلك بوقت قصير، وقد أفسد هذه الخطوة انتحاري تسبب في مقتل ما يقرب من 160 مدنياً في أبريل/نيسان عام 2017، في أثناء انتظارهم إجلاءهم. ويقع مقر الجماعة المسؤولة عن الهجوم، “جند الأقصى”، الذي أصبح مهجوراً، على أحد الطرق المؤدية إلى مدينة إدلب.

يقول أحد أعضاء المعارضة: “كان عملاً غير أخلاقي، وغير حكيم. ولم يُغفر لهم”، ومن حينها، أصبح الجهاديون، الذين أقاموا معاقل في إدلب طوال الحرب السورية، أقل ظهوراً رغم أنهم ما يزالون حاضرين.

ومع استمرار الحرب، بدأت الجماعة الأكثر هيمنة -المعروفة الآن باسم هيئة تحرير الشام والتي كانت مرتبطة في السابق بالقاعدة- في تصوير نفسها على أنها حامية الثورة المدنية على الأسد، وليست نصيرة الجهاد العالمي، وقال النقيب ناجي، بعد سؤاله عن هيئة تحرير الشام: “الأمر معقد، لأننا أصبحنا متوافقين الآن، والأمور على ما يرام”.

تقول إليزابيث تسوركوف، الباحثة بمعهد أبحاث السياسة الخارجية التي درست هيئة تحرير الشام دراسة موسعة، إن هذه الجماعة تغيرت جذرياً على ما يبدو، وهو ما دأبت الحكومات، التي دعمت المطالب الإنسانية للملايين المحاصرين في إدلب وأصرت على عدم التعامل مع الجهاديين في الوقت نفسه، على المطالبة به. تقول إليزابيث: “لقد قطعوا العلاقات مع القاعدة بالفعل. وهذا التحول استراتيجي وينبع من إدراكهم أنهم لا يستطيعون حكم إدلب في مواجهة النظام دون حماية ودعم أجنبيين من تركيا في هذه الحالة”.

وقد توقف سكان إدلب اليائسون، الذين فر كثير منهم من أماكن أخرى في سوريا قبل أن ينتهي بهم المطاف محاصرين في المعقل الأخير الذي تسيطر عليه المعارضة، عن التفكير في أمورٍ مثل الأطراف المتصارعة وما قد يتمخض عنه الدمار، منذ فترة طويلة. يقول إبراهيم مازن، في أطراف بلدة أريحا، وهي بلدة تقع على سفح أحد التلال غادرها سكانها، الشهر الماضي، مع اقتراب القوات البرية للنظام: “أهلاً بكل من يريد إيقاف الأسد ومرتزقته الشيعة. عدت لرؤية منزلي فقط. لكنه ضاع. كل شيء ضاع”.

وداخل أريحا، كان المستشفى الرئيسي في البلدة مدمراً، بعد أن قصفته طائرة حربية قبل أسبوعين. وكانت بقع الدم متناثرة على أرضية الممر، في حين انتشرت صور الأشعة مثل قصاصات الورق الملون، بين أنقاض إحدى غرف العمليات المدمرة.

وخارج المستشفى، كانت هناك سيارة إسعاف متوقفة، تحطمت إثر تعرضها لانفجار، مغطاة بقماش المشمع. وكانت أخرى مقلوبة على جانبها، بعد أن محت طائرة حربية معالمها. وظهرت الآثار الوحشية لهذه الحرب على المستشفيات وجميع الأشياء الأخرى اللازمة للحفاظ على حياة المدنيين واضحة: إذ طالت يد الدمار سوقاً وأفران خبز ومدرسة وحتى مسجد.

وفي الجوار، وقف رجلان يتفحصان ما تبقى من منزليهما. كان أحدهما، ويدعى زكوة التامر، بوجهه النحيل ونظراته الخاوية، يحمل أربع صفحات من المصحف تمكّن من استخراجها من غرفة نومه. وقال: “إذا كنت أملك هذا، فلا شيء آخر يهم”.

كان محمد الصاحب، العائد الآخر، أوفر حظاً قليلاً. وقال مشيراً إلى شقته في مبنى سكني متضرر: “دعونا نتوقف عن الحديث عن مناطق حظر الطيران. الحقيقة أننا نتعامل مع مناطق حظر الحياة. علينا أن نختار بين الموت أو النزوح. الاتفاق بين الأتراك والروس [الذي وقعوه بموسكو في اليوم السابق] لا يعني شيئاً. الاتفاق الحقيقي هو أنهم لن يتركوا أي شخص وشأنه، خاصة على الطريق السريع M4”.

واستقرت لعبة دولاب هواء صدئة ومحطمة بمنطقة فسيحة بين بنايتين؛ لكن الأنشطة المسلية توقفت في أريحا منذ فترة طويلة.

وعلى طول الطريق الحيوي القريب الذي يطمح كلا الطرفين إلى الاستيلاء عليه، شقت حاملة جنود مصفحة، بقيادة إحدى الجماعات المعارضة، طريقها نحو خط الجبهة بالقرب من بلدة سراقب. يقول النقيب ناجي: “نحن ننقل الحرب إليهم هذه الأيام. ربما ينقلب الوضع”.

وفي إدلب، تجمع حشد ثوري في مسيرة كبيرة بإحدى الساحات المركزية. ولوّح الرجال وعدد قليل من النساء بأعلام المعارضة، وهتفوا ضد النظام السوري وجماعات المعارضة على السواء، ومن ضمنها هيئة تحرير الشام. يقول محمود علي إسماعيل، وهو تاجر من حماة لجأ إلى إدلب قبل ثلاث سنوات: “يمكننا أن نفعل ما نريده الآن. قبل ستة أشهر، كنا جميعاً نواجه مشكلات لو نظمنا مسيرة. كانوا سيطلقون النار في الهواء ويُسكتوننا. لكن هذا الوضع جديد وحقيقي، وأتمنى لو رأى العالم ذلك”.

غير أنه في الحقول الموحلة بالقرب من الحدود التركية، حل الحديث عن واقع النجاة محل الحديث الثوري منذ فترة طويلة. يقول صالح بنعيشي: “عشنا هذا الأمل الزائف بعض الوقت. هذه أحلامهم، ولم تعد أحلامنا. أكثيرٌ علينا أن نطمح إلى أن يطلب العالم من الأسد والروس التوقف؟ آمل أن يلقّنهم ما حدث الأسبوع الماضي درساً”.

وعلى الطريق خلف قاعدة الجهاديين المهجورة، ومع اقتراب فصل الشتاء القاسي القصير من نهايته، كست البراعم البيضاء شجرة لوز تقف وحيدة. يقول أحمد: “ربما تكون علامة على أيام مقبلة أفضل حالاً. كان أجدادنا يستبشرون بها”، وإلى الشمال في المقابر، يقول عبدالرحمن (19 عاماً)، مشيراً إلى شواهد القبور: “لم أعُد أومن بأي شيء. هؤلاء أفضل من أعرفهم. لا أحد منهم يزعجنا”.

المصدر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى