آخر الأخباركتاب وادباء

مائدة تكون لنا عيدا

من روائع الأديب الكاتب

مهندس محمود صقر

01/02/2023

في مبنى بتصميم حديث تلفُهُ واجهات زجاجية وتتوسطه من الداخل ساحة تطل عليها طوابق المبنى الثلاث، والتي تحوي أعمال الفنان “فينسنت فان جوخ”، وتتوزع فيه الإضاءة بعناية لإظهار أعمال الفنان العبقري في المتحف الذي يحمل اسمه في العاصمة الهولندية “أمستردام”.

تتنقلُ ببصرك وسط أعمال الفنان وضربات فرشاته الجريئة وألوانه المبهجة التي أنتجها في المرحلة التالية من حياته الفنية التي أمضاها في فرنسا، وصور الطبيعة الزاهية التي رسمها متأثرا بالفن الياباني، واللون الأصفر لزهرة دوار الشمس في المزهرية، ولون القمح الذهبي المتمايل في الحقول وقت الحصاد، ولونه مرة أخرى مائلا للاخضرار تحت ظلال زرقة السماء المحملة بالسحب والمنذرة بالرعود.
من وسط هذه اللوحات ذات الألوان الزاهية، يتزاحم زوار المتحف للوقوف متأملين طويلا أمام لوحة تلفها العتمة وتعلوها الكآبة، وتكاد تفاصيلها لا تراها العين إلا بمزيد من القرب والتركيز، إنها فريدة عقد أعمال “فان جوخ”، لوحة (آكلوا البطاطة).

اللوحة تصور عائلة هولندية ريفية تجتمع على وجبة طعام، الطعام بسيط أحادي الصنف من البطاطا التي تنبت في باطن الأرض، والوجوه متعبة بعظام وجه ناتئة، وعيون غائرة، ولون ترابي شاحب، يبدو على الوجوه أثر عمل يومي شاق يمارسونه للحصول على هذه الوجبة البسيطة، والعودة آخر النهار تحت هذا السقف المنخفض والجدران المهترئة.

وبرغم أن الكثير من النقاد يتفقون مع رأي “ثيو” أخو “فينسنت فان جوخ” من أن اللوحة مفرطة الكآبة، إلا أنها أوحت لي بإحساس مضاد، فقد شعرت أمامها بحميمية ودفء اللقاء العائلي حول مائدة الطعام، حتى لو كانت الوجوه متعبة والبيت مهترئ والإضاءة خافتة، فقد مَثَّل التفاف العائلة من الجد للحفيد حول مائدة الطعام، وقيام ربة المنزل بصب القهوة أثناء قيام أفراد العائلة بالأكل مشهدا حميميا دافئا.

تذكرتُ وأنا أمام هذا العمل الفني البديع لحظات يومية يتجدد فيها الدفء العائلي بالاجتماع في وقت واحد حول مائدة الطعام، لحظات عشناها سواء في مدينة أو ريف أو بادية، مشهد كاد أن يتوه في دروب زحام الحياة العصرية التي نعيشها، واللهاث الدائم خلف متطلباتها التي لا تنتهي.

يبدو أن مائدة الطعام لها عمق حميمي دفين ممتد من دعوة سيدنا عيسى للحواريين إلى مائدة العشاء، والتي جسدها “ليوناردو دافنشي” رسما على جدار دير “سانتا ماريا ديلي جراسي”.
وربما يكون لها علاقة بالتعبير القرآني عن طلب ودعاء سيدنا عيسى بنزول مائدة من السماء والتي وصف نزولها بالعيد وما يحمله من فرح وسرور.

﴿ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِّأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنكَ ۖ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى