الأرشيفكتاب وادباء

ماهي القيم؟ وكيف نحققها؟ “الجزء الثاني”

بقلم الأديب الكاتب
د. محمد سعيد آل تركي
علاقة القيم ببعضها:

السعي لتحقيق القيمة المادية منفردةً يعتبر من أخطر الأمور على الإطلاق على البشرية جمعاء، أفراداً كانوا أم جماعات أم دولاً، لأن المتقصّد لتحقيق القيمة المادية منفردة، دون وضع اعتبار للقيم الأخرى، يعني ذلك أن هذا المتقصّد عند تحقيق مصلحته يقفز من فوق كل الاعتبارات الإنسانية والأخلاقية والروحية.

أي أن لو كلّف تحقيق مصلحة أحدهم من الأفراد أو الدول اتخاذ أساليب السرقة أو النهب أو السلب أو الاغتصاب أو القتل، أو حتى تدمير البلدان أو قتل الشعوب، أو تجويعهم أو تدمير الطبيعة أو تلويثها، أو القيام بأي عمل في سبيل تحقيق المصالح، لو كلف ذلك كله أو بعضه لما توانت الدول أو الأشخاص عن ذلك قيد أنملة أو تراجعت، ولنا في واقع العالم الحالي خير مثال في الدول الاستعمارية والدول المُستعمَرة، وخير مثال في التدمير البيئي من خلال تلك المؤسسات الرأسمالية الصناعية والتجارية.

ولقد أعطى النظام الرأسمالي الحرية لشعوبه ومؤسساته التعامل على هذا الأساس النفعي المجرد من الخير، وأقام أنظمته منبثقة من هذه الحريات، بل وحامية لأصحابها بقوة الجندي وصرامة القانون، بل وقام زعماء هذه الدول الرأسمالية بتصدير هذه الفكرة لشعوب العالم، وإجبار بعضهم التعامل على أساسها، وسحق كل القيم الأخرى في سبيل المبدأ المصلحي، وتحقيق القيمة المادية المجردة.

إلا أن الدول الغربية وخاصة في أوروبا قامت في العقود الأخيرة بترقيع أنظمتها، ومراجعة فكرة الحرية الملكية قليلاً، وقامت بتغذيتها وترقيعها ببعض الأفكار الاشتراكية بسبب الأهوال التي أحدثها النظام الرأسمالي القائم على تحقيق القيمة المادية المجردة على الفقراء والمساكين والعاجزين والباطلين عن العمل، ولكن هذا الترقيع لم يُزد في حقيقة أمر القيمة المادية المجردة شيئاً، فالمال ورعاية المصالح المادية العامة ليست كل شيء، وبقي التعامل في المجتمعات إكراهاً قائماً على أساس القيمة المادية بصلافتها وقسوتها الهادمة لكل خير .

وكما ذكرت فإن القيمة الإنسانية والأخلاقية تحتاج في المجتمعات الرأسمالية لكثير من التضحية والإيثار لتقديمها على القيمة المادية، ولذلك تكاد تكون القيمة الإنسانية والأخلاقية معدومة تماماً عند الأفراد وتامة في سياسات الدول، وليس هناك من الأنظمة الرأسمالية ما هو قادر على إيجاد القيمة الإنسانية والأخلاقية، وصنعها في أدبيات الناس وأعرافهم.

وإذا افترضنا وجود القيمة الأخلاقية والإنسانية عند بعض الأفراد، فإن ذلك يعتبر من النادر الغريب، الذي قد يقوم به بعض الأفراد المترفين من الفائض الممقوت، أو ممن يتوق منهم أحياناً ليشبع بعض ميوله الغريزية الإنسانية أو الأخلاقية دون أن يمس مصالحه المادية أو رفاهيته.

وبالتالي يجب أن ندرك أن القيم الإنسانية والأخلاقية والروحية ليس لهم واقع في حياة الشعوب اليوم، إذ لن تجد لها موضع قدم من خلال أنظمة الدول، أو من خلال الإيمان بالله والنظام المنزل من عند الله سبحانه وتعالى.

كيف يتم تحقيق القيم كلها عملياً؟

بالتأكيد إن النفس الإنسانية بطبيعتها الاجتماعية، وانطلاقاً من فطرتها السليمة تتوق إلى حياة آمنة مستقرة مسالمة، وإلى علاقات طبيعية تسعدها ولا تكدر عيشها، هذا المطلب الانساني للأفراد ولشعوب العالم أجمع لا يمكن تحقيقه إلا من خلال تحقيق القيم كلها مجتمعة عند الأفراد والمجتمع والدولة.

ولو تابعنا اهتمامات ومطالبات الشعوب سابقاً وحاضراً ومستقبلاً، لوجدناها هي هي لم تتغير، ولن تتغير، ولم تبتعد عن غرائزها الطبيعية، وعندها الميل إلى تحقيق كل القيم التي ذكرت في واقع حياتها الإنسانية والاجتماعية، وهذا هو الأمر الطبيعي الذي عجزت عن تحقيقه الأنظمة الرأسمالية بكافة أصنافها.

إلا إن من الطبيعي أن أول القيم التي هي في الأصل موضع مطالب الأفراد والشعوب هي القيمة المادية، لأنها تتعلق بشكل مباشر مع حاجات الإنسان العضوية، التي لا تعرف رحمة مع كيان الإنسان الجسدي، فليس للإنسان الخيار إلا أن يشرب ويأكل وينام ويقضي حاجته، ولن يتردد عن القتال أو رفع السلاح في وجه من يقف في طريق إشباع حاجاته العضوية هذه.

إلا أن الناس لم يُخلقوا في هذه المواجهة المسلحة لانتزاع لقمة العيش من بعضهم البعض، ولكنهم خُلقوا ليعيشوا سوياً في مواجهة الطبيعة لانتزاع لقمة العيش منها، ولذلك نجد بني الإنسان فيما بينهم يألفون ويُألفون في مواجهة الحياة سوياً، لذا فإن البشر في أمسّ الحاجة للعلاقات السوية بينهم، كما هم في أمس الحاجة إلى تنظيم هذه العلاقات، بشكل يحقق سعادة جميع الناس مع بعضهم البعض، دون أن يكون هناك طغيان أحد منهم على أحد، وحتى يكون اجتماعهم نعمة لهم وليس نقمة عليهم، ولكن هذا التنظيم في العلاقات المرجوة لن يحقق ما لم يكن هذا قائماً على أساس تحقيق كل القيم الروحية والإنسانية والأخلاقية مجتمعة إلى جانب تحقيق القيمة المادية في العلاقات.

وعلى هذا الأساس تقوم عقيدة الإسلام، ويقوم نظامه على تحقيق كل القيم الأربعة في آن واحد، انطلاقا من القيمة الروحية التي تعتمد على الإيمان بالله، وتوافق وتشبع غريزة التدين الطبيعية في كل نفس بشرية، ونجد أن باقي القيم تتحقق بكيفية قد حددها نظام الإسلام، وعلى وجه الخصوص القيمة المادية، فيقوم المؤمن بالله بتنفيذ أحكام الله في كيفية كسبه للعيش، وفي كيفية حيازة المال، وفي كيفية صرفه، هذه الكيفية وتلك نجدها تتحقق ويتحقق معها القيمتان الإنسانية والأخلاقية نقية من كل تغليب للمصالح الشخصية وظلم أي طرف من الأطراف.

وتقوم دولة الإسلام بتنفيذ حكم الله في المعاملات الاقتصادية والاجتماعية وغيرها، والتي تتحقق معها القيمتان الإنسانية والأخلاقية بين الناس من خلال هذا التطبيق، فنجد أن درجة الرضا والسعادة والقبول عند المجتمع الإسلامي فاقت في يوم كل المجتمعات العالمية، ونجد أن الأعراف والعادات والتقاليد الراقية التي تكونت من خلال حكم الإسلام فيهم قد رقت عن كل عادات وتقاليد وأعراف في العالم، عند فقرائهم كما هي عند أغنيائهم، وعند أقويائهم كما هي عند عجائزهم، وعند كبرائهم كما هي عند سفهائهم.

ويجدر بنا أن نضرب مثلاً: فإن قام تاجر بعمله، وهو البيع والشراء، فهو يحقق القيمة المادية، أما إذا قام بفعل التجارة بالكيفية التي أمره الله بها، فهو يحقق القيمة الروحية التي يُرضي الله بها، فيكسب بها الأجر والثواب، وكون أن أحكام الله تحرّم الغش أو الظلم أو التدليس في البضاعة أو الغلو في الأسعار أو الاحتكار وغيره، فإن هذا التاجر يحقق القيمة المادية والروحية والانسانية في آن واحد، أما إذا كان هذا التاجر أو ذاك قد أقرن مع فعله الصدق والأمانة وإعطاء النصيحة وحسن التعامل والاتقان في الصناعة المطلوبة منه شرعاً، فإنه بالتالي يحقق القيمة الأخلاقية إلى جانب القيم الأخرى المادية والروحية والإنسانية مجتمعين في عمل واحد.

هذا على المستوى الفردي والجماعي، أما على مستوى دولة الإسلام التي تقود نظاماً اقتصاديا متكاملاً، فإننا سنرى عندما تعود بإذن الله تعالى ما رآه آباؤنا وأجدادنا السابقون من نهضة راقية وعز وخير كثير ورحمة بين المسلمين.

أما القيمة الروحية منفردة فهي التي تتحقق في الشعائر التعبدية التي يقوم بها العبد والمتعلقة بعلاقته بالله سبحانه وتعالى كالصلاة والصوم والزكاة والحج وحمل الدعوة أو التسبيح وما شابه هذه الأفعال خالصة لله وحده وليس فيها رياء أو سمعة أو تحقيق قيمة مادية أو غيرها.

ويحقق الإنسان كذلك القيمة الأخلاقية أو الإنسانية منفردة إذا أحب الإنسان أن يتصف بها لنفسه، مسلماً كان أو غير مسلم، فقد تجده منضبطاً في أعماله، صادقاً في أقواله وأفعاله، محافظاً على وعده وعهده، وقد تجده طيب المعشر، حسُن الصحبة، لين الجانب، لطيف، كريم، رحيم، وقد تجده يحترم الناس ويسمع منهم، ويتواضع لهم، وقد تجده بارّاً بأهله ووالديه وجيرانه، وغير ذلك من الصفات الأخلاقية التي يستطيع أيّ إنسان أن يتبناها لنفسه، فيتصف بها طائعاً محباً لها ومحباً الاتصاف بها، ولكنها تبقى فردية بداهة، فتكون عند المسلم الذي يتصف ويقوم بها لنوال رضوان الله ثابتة لا تتغير في السراء والضراء وفي كل وقت، وتتلون عند غير المسلم بتلون مصالحه.

فعسى أن أكون بهذا البحث قد اهتديت لأمر القيم وواقعها عند المسلمين وغيرهم واهتديت للإجابة على ذلك الأوروبي الذي عجب من مساعدتي له وأنا لا أحقق في فعلي معه قيمة مادية كما هو معتاد في بلادهم ومن منطلق مبدئهم الرأسمالي الصرف.

،،،،، والحمد لله رب العالمين ،،،،

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى