منوعات

ما سبب وجودنا، وكيف نتصالح مع هويتنا وطبيعتنا؟ 4 أعمال فنية أجابت عن هذه الأسئلة

سفينة ثيسيوس

تتذكر اليونان القديمة جيداً رحلة البطل الإغريقي ثيسيوس، لأنه في هذه الرحلة تمكن من قتل وحش المينوتور الذي كان يروع أثينا وأهلها، فأحيوا هذا الرحلة الأسطورية على مدار السنين، بأن تبحر سفينة ثيسيوس إلى وجهتها في نفس اليوم الذي أبحر بها قديماً، وتعود مرة أخرى، ومن هنا تناول الفيلسوف فلوطرخس، في  كتابه “حياة ثيسيوس” هذه الأسطورة، طارحاً مُعضلة فلسفية هامة أسماها سفينة ثيسيوس

 ماذا لو أبحرت هذه السفينة لألف عام، وفي كل فترة يكون هناك جزء صغير يجب إصلاحه من السفينة فيتم تغييره بجزء جديد، ومع مرور الألف عام وتغيير الأجزاء غير الصالحة بالسفينة، تغيرت أجزاء السفينة بأكملها، هي بنفس الشكل والهيئة وكل شيء، لكن لم يبقَ من أجزائها الأصلية شيء، فهل تبقى نفسها سفينة ثيسيوس التي أبحر بها منذ ألف عام؟! هوية السفينة تكمن في أجزائها وهيكلها التي تكونها، أم أن هناك أشياء أخرى تحدد هويتها

ولو أضفنا افتراضا آخر، أن هناك
شخصاً ما عثر على الأجزاء الأصلية من السفينة وقام بتجميعها وأعاد بناء السفينة من
جديد، الآن لدينا سفينتان والسفينة الأسطورية هي سفينة واحدة، ستكون تلك السفينة
صاحبة القطع الأصلية أم تلك الراسية في شواطئ اليونان؟

هذه معضلة من معضلات فلسفية متعددة
لمحاولة الإجابة عن سؤال طالما حيّر الجنس البشري على مر العصور وحتى يومنا هذا،
من أكون، وما هي هويتي؟!

 وفي هذا المقال نستعرض مجموعة
من الأعمال الفنية والأدبية؛ التي ناقشت هوية الإنسان التي ليس بالضرورة أن تجيب
على الاسئلة السابقة، بل تضيف المزيد من الأسئلة في هذا الصدد.

افتتح الفيلم مشاهده بتفجير كبير،
خلف عدد هائل من الخسائر البشرية وصلت لآلاف القتلى من المدنيين الأبرياء، جريمة
شنيعة، لكن من الممكن تجنبها بعدما حدثت، ولذلك يُكلف العميل الشاب المعروف بـ
“باركيب” بالسفر عبر الزمن لمعرفة الجاني، ووقفه قبل أن يدبر للعملية
الإرهابية، وتبدأ رحلة البطل في إطار من الخيال العلمي والجريمة والإثارة.

تقوده مهمته للعديد من الشخصيات
والمغامرات، إلى أن توصله  للجاني الحقيقي، ليجده رجلاً عجوزاً يشبهه للغاية،
ويكتشف أنه هو الرجل العجوز ذاته، يعني أن العميل “باركيب” نفسه قام
بتلك العملية الإرهابية وهو في سن متقدم من العمر، يندهش الشاب ويستنكر ذلك، فيحكي
العجوز أن العملية الإرهابية كانت لها منافع كثيرة، وأن البشر الذين ماتوا بها ثمن
بسيط للفوائد التي ستجلبها، يقولها من نوع تقرير الحقائق ولا يظهر عليه أي نوع من
تأنيب الضمير بل ربما يصاحبها ابتسامة صافية، بينما الشاب يرفض ما يقول ولا يرى
الغاية تبرر الوسيلة، وأنه لا يوجد أي مبرر لقتل أُناس أبرياء.

هذا الموقف يستحق الوقوف أمامه
طويلاً للتأمل، لدينا الآن شخصان في مواجهة بعضهما لكنهما نفس الشخص بالفعل وكل
منهما يعرف ذلك ويدركه جيداً، الفرق أنهما في عمرين مختلفين، سنوات من الخبرات
والتجارب تفصل بينهما واشتملت على كثير من التُغيّر في الأفكار والمبادئ
والتوجهات، تغيرات كانت من التضاد والاختلاف لدرجة أن قام الشاب بقتل نفسه العجوز،
فالحقيقة التي يطرحها ذلك المشهد وتلك المواجهة، أن الإنسان يتغير باستمرار وبلا
توقف مع مرور الوقت، إلى مدى قد يبلغ فيه الاختلاف بين الفرد ونفسه إلى الرفض بل
والقتل، فأين تكمن هوية العميل “باركيب”، هل وهو شاب أم وهو عجوز، أم في
نقطة ما بينهما، لا أحد يدري ولا حتى هو.

قد يبدو هذا
المشهد للوهلة الأولى بعيداً عن الواقع ولا يتلامس مع حياتنا، لكن على سبيل
المثال، عندما نرى آراءنا السابقة المنشورة على مواقع التواصل الاجتماعي منذ
سنوات، ألا نشعر بالخجل من أنفسنا وقد نسخر منها أيضاً وربما لو عُرضت علينا نفس
تلك الآراء الآن لرفضناها رفضاً تاماً؟

“أعتقد أني ولدت متأخراً جداً”

مقولة من بطل الفيلم جيل

 لا تتحدد هوية الإنسان من
تعامله مع نفسه فقط، بل أيضاً تلعب عوامل أخرى محيطة به دوراً هاماً في ذلك، وأحد
تلك العوامل هو الزمن الذي نحيا فيه، فهل نحن نعيش في العصر المناسب لنا؟

فقد يرى بعض
المنتمين للتيار الإسلامي أنهم ينتمون لعصر الخلافة الإسلامية الذهبية؛ التي كانت
رايات الإسلام تجوب العالم فيه مبشرة بدين الله، وقد يرى بعض الفنانين أن عصر
النهضة الأوروبي هو عصر التنوير الحقيقي، الذي يتمنون أن يفجروا طاقتهم وإبداعهم
به، لكن هل لو وجدنا حقاً في عصر آخر هل سنكون أسعد، قادرين على تحديد هويتنا؟

هذا ما يناقشه فيلم paris in midnight .. للمخرج آلان وودي الذي تتميز أغلب أعماله بمواضيع فلسفية تُطرح في إطار بسيط ومرح.

فنرى جيل بطل الفيلم الذي يريد أن
ينتهي من روايته التي يؤلفها في زيارته لباريس مع خطيبته المقبلين على الزواج،
والتي لا تشجعه ولا تهتم بمدى جودة عمله القادم وتسخر من رغبته في الإقامة بباريس،
فالبطل يرى باريس نظرة مختلفة، خاصة عشرينيات القرن الماضي الذي يعتقد أنه العصر
الذهبي لباريس ويتمنى أن يعيش به للأبد، وكأن المدينة قد علمت بأمنيته وببساطة
ساحرة تحقق له مطلبه وتأخذه لهذا العصر كل ليلة بعد منتصف الليل.

يقابل فيها كل الفنانين الذين يحبهم
ويقدر أعمالهم بشدة أمثال بيكاسو وسلفادور دالي، وتأتي له فرصة لأن يراجع روايته
إحدى أكبر ناقدي الفنون في هذا الوقت، ويقابل عندها أدريانا الفتاة المتحررة رقيقة
الحس، يتبادلان إعجاباً بينهما لكنه يجد أنها تحن لزمن ماض آخر تراه العصر الذهبي،
وحينما يذهبان إليه يجدان أن فناني هذا العصر لا يرونه عصراً ذهبياً بل عصراً
سيئاً فاسداً لا يوجد به الكثير من الفنانين الحقيقيين، ويحنون لعصر أقدم يرونه
ذهبياً وهكذا دواليك، كل عصر ذهبي يراه شخص من المستقبل، لا يراه أبناء العصر كذلك.

ليطرح الفيلم رؤية واقعية -رغم
خيالها في التقديم- أن الكل يحنون لزمن ماضِ ما كنوع من النوستالجيا، وتعظيم للعصر
الماضي بكل ما فيه من الفنانين والأشخاص الذين نحبهم ونقدرهم ونتمنى لقاءهم،
وأيضاً لأن الحاضر دائماً لا يبدو مثيراً لمن يحيا به.

فيبدو أننا من نحدد كيفية رؤيتنا
للزمن الذي نعيش به، فإما أن نجعل العصر الذي نحيا به مناسباً لنا، أو نختار عصراً
آخر ننتسب إليه.

هي رواية شهيرة للكاتب الإسكتلندي روبرت لويس بلفور ستيفنسون، نشرت لأول مرة في لندن عام 1886، ووصلت شهرتها ونجاحها أن باعت 40 ألف نسخة في ستة أشهر فقط، وذاع صيتها في جميع أنحاء العالم حتى قرأتها الملكة فكتوريا نفسها، وأثنى عليها العديد من علماء علم النفس للدقة التي تصور بها الصراع الداخلي لدى الإنسان ، وتحولت القصة لفيلم سينمائي شهير حاز عليها الممثل فريدريك مارج على جائزة الأوسكار لأفضل ممثل عام 1932.

تتناول القصة حكاية الطبيب جيكيل،
الطبيب الكريم والشهم، الذي استطاع أن يخترع عقاراً طبياً يستطيع من يشربه أن
تنفصل عنه ذاته ويظهر منها الجانب الشرير والسيئ فقط لوقت محدود بحسب الجرعة،
فيكون هو أول المجربين لهذا العقار ويتحول شكل الطبيب لصورة سيئة من البشر تشبه
القرود وتصرفاتها وحشية، تتسم بالخسة والدناءة وأسمى نفسه مستر هايد، والأشخاص
الذين يرون مستر هايد يستغربون كيف لإنسان نبيل مثل الطبيب جيكل أن يرعى إنساناً
فظاً وكريهاً مثل هايد، حتى يعلم أحد الشخصيات بموضوع الدواء المُخترع وأنهما شخص
واحد، وهنا تتساءل الشخصية ومعها القارئ، أين تكمن هوية الإنسان، في جانبه الشرير
أم الخير أم من تكاملهما؟!

وهنا ندرك أن للنفس البشرية أبعاداً
متعددة، غاية في التعقيد ومن الصعب الحكم عليها في موقف أو تصرف أو فترة حياتية
معينة، في مجملها بخيرها وشرها يكمن الإنسان وهويته.

لحظة تحول دكتور جيكل لـ مستر هايد

عام 1560 رسم الفنان الهولندي بيتر بروغل لوحة شهيرة اسمها لوحة سقوط إيكاروس ، إيكاروس تلك القصة الإغريقية الساحرة، فتحكي أنه كان يطير عالياً في السماء بأجنحة صنعها من الشمع والريس، فحذره والده من أن يطير أعلى من اللازم فتذيب الشمس أجنحته، لكنه لم يهتم بتحذيره، فكان مدفوعاً برغبته وشغفه بالوصول للأعلى ويقترب من حقيقة الشمس ومكنونها، لكن الاقتراب من الشمس له عواقبه، فأذابت أجنحته واختل ناموسه وسقط سقوطاً مروعاً، تتحاكى به الحكايات حتى الآن وتتخذه رمزاً، لمن يقترب من حقيقة ومعرفة ما أكثر مما يجب.

لكن الغريب والداعي للتفكير، أن
اللوحة يسيطر عليها موضوعات أخرى غير سقوط إيكاروس، فنرى في مقدمة اللوحة فلاحاً
يحرث أرضه ومعه ماشيته، وغير بعيد عنه شخص يرعى الأغنام، وكلاهما على تلة عالية
تطل على بحر قد أبحر به بعض السُفن، ويلوح لنا من بعيد منظر مدينة مشيدة، وبصعوبة
بالغة تستطيع عينانا أن تلتقط إيكاروس، فنجده في الركن اليمين من الأسفل، يظهر منه
قدماه اللتان تغرقان بالبحر وفوقه تتطاير بعض ريشات أجنحته المُذابة.

وهنا يجب أن نفكر لماذا رسم اللوحة
بهذه الطريقة، التي يظهر بها وكأن شيئاً لم يحدث، الناس تمارس حياتها بشكل طبيعي
للغاية، وسط مأساة تراجيدية حدثت لإيكاروس ولا أحد يهتم أو ينشغل بها، وكأنه يقول
بذكاء لا تجعل الناس يحددون من تكون فالناس مشغولون في أعمالهم وحياتهم وأنت في
قاع يأسك ومأساتك، فلا تخش الفشل من إنجاز شيء ما أو تسعى للنجاح من أجل نظرة
المحيطين بك، فانجح لهدفك أنت وشغفك بما تفعل، ولا تنشغل بأقوالهم.

في النهاية يتضح لنا أن الإجابة عن
سؤال الهوية ليس بهينٍ، رغم أن الكثير من الكتاب والفنانين والفلاسفة حاولوا
الإجابة عنه، لكن يبدو أن هذا السؤال سيستمر مطروحاً مادام الجنس البشري موجوداً،
إلا أن السؤال في حد ذاته هو الذي يفرقنا عن بقية الكائنات، فمنذ نشأة الحياة على
الأرض، ووجود كائنات عاشت لملايين السنين، لم يكن يشغل تفكيرهم سوى الحصول على
طعام والنجاة والتكاثر، لكننا كبشر ومنذ رجل الكهف خرجنا من هذه الدائرة وبدأنا
التساؤل، والتساؤل يتطور لقصص وأساطير تحاول الإجابة، والرغبة في الإجابة أنتجت
حضارة وعلماً وفلسفة، حتى الشعوب البدائية قد لا تجد لديهم علوماً أو حضارة، يروون
حكايات وأساطير محاولين الإجابة عن سبب وجودنا وهويتنا كبشر، والمناقشة الفنية في
عصرنا الحديث تعطيها أبعاداً متعددة، قد تجعلنا نقترب من الإجابة وتُعمق معرفتنا
بذواتنا وبالنفس البشرية.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

المصدر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى