تقارير وملفات إضافية

“معاقبة ولي العهد وإعادة تقييم العلاقة”.. ما وراء سحب أمريكا أنظمة باتريوت من السعودية

شرعت الولايات المتحدة في إزالة أنظمة صواريخ “باتريوت” للدفاع الجوي من الأراضي السعودية، كجزء من تقليصٍ أوسع لقواتها العسكرية المتمركزة هناك لمواجهة إيران. وفي حين يصف الجيش الأمريكي الخطوةَ بأنها جزء من انسحاب مخطط يعكس وجهة النظر القائلة إن إيران باتت تشكل الآن تهديداً أقل خطورة، فإن الأنباء عن القرار أثارت جدلاً يتعلق بتوقيت اتخاذه.

يقول موقع Responsible Statecraft الأمريكي، إن مسؤولي إدارة ترامب، خاصة وزير الخارجية مايك بومبيو،  شددوا بوجه عام مراراً وتكراراً على حجم الخطر الذي تشكله إيران على الأمن في المنطقة. ومن ثم، فإن الإقرار بأن إيران باتت تهديداً أقل خطورةً مما كان يُصوّر سابقاً قد يبدو فيه انتقاص من الحجج التي كان يطرحها متشددو الإدارة الأمريكية، مثل بومبيو والمفوض الأمريكي الخاص لشؤون إيران، براين هوك، بأن الولايات المتحدة بحاجة إلى إبداء التيقظ التام وحتى توجيه ضربات استباقية لردع أي أعمال عسكرية إيرانية.

أضف إلى ذلك أن التوترات بين إيران والولايات المتحدة لا تزال محتدمة، وهو ما يزيد من جعل تخفيض الوجود العسكري الأمريكي في السعودية مثاراً للجدل والتكهنات بين المراقبين. وإذا وضعنا في الاعتبار منهجية الصفقات التجارية التي يتبعها ترامب في صنع السياسات ونزوعه الدائم إلى الاستعراض، فإن تأكيد الإدارة أن الدافع الوحيد وراء قرارها هو الحاجة إلى صيانة أنظمة “باتريوت” يبدو غير مقنع.

وعلى الرغم من قراره بتخفيض الوجود العسكري الأمريكي في السعودية، فإن ترامب استخدم بالأمس حق النقض (الفيتو) السابع له خلال رئاسته لرفض مشروع قانون تقدَّم به نواب عن الحزبين الديمقراطي والجمهوري يُلزمه بالحصول على موافقة الكونغرس قبل شن أي عمل عسكري ضد إيران. ومع أن ترامب لم يبدِ أي استعداد للإقرار بأي حدود لسلطته التنفيذية، فإن تقليص الوجود العسكري الأمريكي في السعودية قد يعمل على طمأنة أعضاء الكونغرس، خاصة حلفاء ترامب من الحزب الجمهوري، بأنه لا حاجة بهم إلى الخوف من أنه قد يشعل حرباً على إيران.

في المقابل، يذهب تفسير آخر بحسب Responsible Statecraft، إلى أن إدارة ترامب تشعر أن السعودية بحاجة إلى أن يُذكرها أحد بأن تمتعها بالأمن الذي تضمنه الولايات المتحدة يعتمد في المقام الأول على التزامها بالتفضيلات الأمريكية فيما يخص أسعار النفط. وكانت وكالة Reuters كشفت أن ولي العهد السعودي محمد بن سلمان وافق على خفض إنتاج النفط السعودي بعد أن أجرى معه ترامب مكالمة هاتفية لوّح له فيها بأن عليه فعل ذلك، وإلا فإن الإدارة الأمريكية لن تستطيع منع المشرعين الأمريكيين، ومعظمهم جمهوريون ممثلون عن الولايات المنتجة للنفط، من تمرير قانون يقضي بفرض عقوبات على السعودية. ومع ذلك، على الرغم من موافقة بن سلمان على خفض الإنتاج، فقد شعر ترامب أنه يجب تذكير ولي العهد السعودي بمدى اعتماد مملكته على المظلة العسكرية الأمريكية.

وهو الرأي الذي ينسج على منواله تقريرٌ آخر نشره موقع  Responsible Statecraft أيضاً، إذ يرى دان ديبيتريس، وهو باحث في الشؤون العسكرية والخارجية الأمريكية، أن العلاقات الأمريكية السعودية بحاجة حقاً إلى إعادة تقييم شاملة تستند إلى الحقائق المجردة. فالوضع القائم، حيث الولايات المتحدة ترسل قواتها لحماية المملكة، في حين تنفق السعودية مزيداً من الأموال على جيشها –نحو 61.9 مليار دولار- بمبالغ تفوق الإنفاق العسكري لكل من تركيا وإيران وإسرائيل والكويت مجتمعةً –قرابة 61.2 مليار دولار فقط- وضعٌ لا يتماشى مع حقائق القرن الحادي والعشرين. ومن ثم، يمكن أن يكون قرار إعادة تقييم الانتشار العسكري الأمريكي في المملكة، في حال المضي قدماً فيه، بمثابة نقطة البداية لإعادة تقييم شاملة للعلاقات الثنائية.

ويتابع ديبيتريس بالقول إن النموذج القديم الذي كان أساس العلاقة بين الولايات المتحدة والسعودية على مدى السنوات الـ75 السابقة، القائم على حفظ أمن الرياض مقابل إمدادات نفطية موثوقة لواشنطن، لم يعد قابلاً للتطبيق كما كان من قبل. إذ مع تنامي انتقادات الرأي العام الأمريكي واعتراضه المتزايد على رؤية القوات الأمريكية متورطةً في الشرق الأوسط في الوقت الذي تصر فيه الرياض على اقتراف الخطأ تلو الخطأ في سياستها الخارجية دون خجل، فإن تفاهم عام 1945 لم يعد مناسباً اليوم وقد ولّى زمنه.

ويستدل الكاتب بحقيقة أن واشنطن لم تعُد اليوم بحاجة إلى النفط السعودي لتشغيل مصانع البلاد أو لتغذية النمو الاقتصادي المحلي. وصحيحٌ أن الولايات المتحدة لا يمكنها حماية نفسها تماماً من تقلبات سوق الطاقة العالمية، إلا أن الواقع أيضاً أن الولايات المتحدة باتت أقل اعتماداً بكثير على النفط الخام القادم من الخليج مما كانت عليه في الخمسينيات والستينيات وأوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.

وقد واكب ارتفاع الإنتاج المحلي من النفط انخفاضاً بنسبة 48% تقريباً في واردات الولايات المتحدة من النفط السعودي، وانخفاض بنسبة 50% في إجمالي الواردات النفطية من دول الخليج عن الفترة الزمنية ذاتها. فقد أطاحت طفرة النفط الصخري المحلية بنقطة نفوذٍ رئيسية للدول الأجنبية التي لطالما استخدمت الطاقة سلاحاً في الماضي.

كما أن انهيار أسعار النفط في شهري مارس/آذار وأبريل/نيسان أظهر كيف أن السعودية الآن باتت منافساً مباشراً لقطاع النفط الأمريكي، بحسب التقرير. فقد عمدت الرياض لتوسيع حصتها في السوق، إلى السعي لإخراج المنتجين الأمريكيين من العمل. وهو ما يدركه جيداً النواب الأمريكيون من الولايات المنتجة للنفط، مثل تكساس ونورث داكوتا، ولهذا السبب استشاطوا غضباً عندما قصدت السعودية وروسيا إلى إغراق السوق بالنفط الخام، فمع إمداد السوق بمعروض يفوق الطلب بكثير، ستصبح مئات من شركات النفط الأمريكية معرضة للإفلاس.

أمَّا التفسير الأخير لقرار تخفيض القدرات العسكرية الأمريكية في السعودية، فينطوي على وجهة النظر المعاكسة: وهي أنه قد يكون يقصد إلى إغراء الإيرانيين بالإقدام على عمل عسكري يبرر له بعد ذلك رداً أقوى من الولايات المتحدة. وهو الرأي الذي جاء في تصريحات لمسؤولين في مقال بصحيفة Wall Street Journal، مستدلين باتجاه الولايات المتحدة إلى تعزيز قواتها في السعودية رداً على مهاجمة منشآت النفط السعودية في سبتمبر/أيلول 2019، وهي الاعتداءات التي ألقت الرياض وواشنطن باللوم فيها على إيران.

ومع ذلك، فإن إيران تجنبت التصعيد بوجه عام، حتى بعد مقتل قاسم سليماني في أوائل يناير/كانون الثاني، وذلك بصرف النظر عن “عدم الاحترافية” التي أبداها قباطنة الزوارق الإيرانية في تحرشهم بالسفن الحربية الأمريكية في الخليج. هذه العوامل دفعت أصحاب المواقف المتشددة من إيران داخل البيت الأبيض إلى النظر إلى النظام الإيراني على أنه ضعيف ويوشك على الانهيار، ومن ثَمَّ فهم يأملون أن يؤدي تقليص القوات الأمريكية إلى تغرير إيران باتخاذ تحركات عدوانية تستخدمها الولايات المتحدة لتبرير رد فعل عسكري ساحق.

في النهاية، يرى الأمريكيون أن تخفيض الوجود العسكري الأمريكي في الشرق الأوسط، خاصة في السعودية، هو تطوُّر مرحب به. ومع ذلك، وبالنظر إلى سجل هذه الإدارة الحافل بالعداء تجاه إيران ونهج الصفقات التجارية الذي يتعامل به ترامب حتى مع أقرب الشركاء الأمنيين، فليس من المستغرب أن يثير توقيت هذه الخطوة تكهنات كبيرة.

المصدر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى