سفر وسياحة

مكتئب أصبح عالماً.. قصة الطفل المجري الذي حقَّق المستحيل قبل نصف قرن

طفل خرج قبل نصف قرن من قريته في المجر إلى بريطانيا لكي يعيش فيها
لاجئاً، كاد أن يقتل نفسه، إلا أنَّ الظروف حالت بينه وبين الموت، لأن القدر كان
يُخفي له مفاجأة عظيمة، وهي أنه ذات يوم سيُصبح طبيباً كبيراً في مجال الطب
النفسي، إنه الطفل اللاجئ في المملكة المتحدة حين ذاك بيتر فوناغي.

صحيفة The Guardian البريطانية رصدت قصة هذا الطبيب، وقالت إنه في عام 1967، أرسل
بيتر فوناغي، الفتي المجري الذي كان عمره 17 عاماً، إلى بريطانيا للعيش فيها، وكان
عازماً على إنهاء حياته. ويتذكر فوناغي تلك الفترة قائلاً: «كنت أعاني
اكتئاباً شديداً في السادسة عشرة من عمري، وكانت لديَّ أفكارٌ وميول انتحارية. ولو
أقدمت الآن على تقييم نفسي آنذاك لأُصبت بقلقٍ بالغ على نفسي، لأنني كنت أعرف
بالضبط كيف سأفعل ذلك. والسبب ليس غامضاً، ولا مفاجئاً، فقد كنت فتى مجرياً هبط في
إنكلترا، ولم يكن قادراً على التحدث باللغة الإنجليزية».

وبحسب الصحيفة البريطانية، لم يكن الشاب فوناغي، الذي كان يقيم مع
إحدى العائلات في منطقة حدائق كيو غربي لندن يريد تناول الطعام أو مغادرة غرفته.
وكان كذلك يكره التحدث إلى الناس، ويواجه صعوبةً شديدة في الدراسة. وعن ذلك يقول:
«كنت مكبوتاً للغاية، وكنت في مدرسةٍ ثانوية حديثة مع أطفال فشلوا في امتحان
السنة النهائية من المرحلة الابتدائية، وكان اهتمامهم الرئيسي هو كرة القدم».

ولحسن الحظ، أدرك أحد الجيران آنذاك أنَّ فوناغي كان في مأزق، وأرسَل
الصبي، الذي أصبح فيما بعد واحداً من أبرز علماء جيله المتخصصين في علم نفس الأطفال،
إلى مركز آنا فرويد الوطني للأطفال والأسر في بلدة
هامبستيد
بشمالي
لندن، من أجل تلقي المساعدة.

وقد أسست آنا فرويد، ابنة سيغموند فرويد -الذي يُعَد مؤسِّس علم
التحليل النفسي- هذا المركز بعد هروبها من النمسا مع عائلتها قبل الحرب، حين كانت
طفلةً صغيرة. وفي البداية، ساعد المركز الأطفال النازحين بسبب قصف لندن، وأولئك
الذين كانوا عائدين من معسكرات الاعتقال. واليوم، يواصل المركز -الذي يُعد أحد
المؤسسات الخيرية الرائدة في هذا المجال- العمل مع الأطفال المتأثرين بالصدمات،
بمن فيهم أولئك الذين عانوا سوء المعاملة أو تأثروا بحوادث كبيرة مثل حريق
غرينفيل، بحسب الصحيفة البريطانية.

قال فوناغي متحدثاً عن فترة علاجه في هذا المركز للصحيفة البريطانية:
«استطاعت المُعالجة التي رأتني أن ترى ما وراء المعاناة التي كنت أواجهها،
وأن ترى شخصاً آخر لديه بعض الكفاءات والقدرات، شخصاً قادراً على النجاح إذا
أُزيلت بعض الموانع، والسلوكيات المُثبطة، واكتُشِف جانبه الأكثر إيجابية».

وروى أنَّه -حين كان يبلغ من العمر 17 عاماً- ذهب إلى إحدى الجلسات
العلاجية في سيارةٍ قديمة متهالكة من طراز فورد أنغليا، كان مسروراً ومعتزاً بها،
وأنَّه تمتم في داخله مع مُعالجته عن حبه لتلك السيارة «فنهضت (المُعالِجة)،
ومشت إلى النافذة، ونظرت قائلةً: «بيتر، إنها سيارة رائعة». وقدَّرت
اعتزازي بها، فرأيت آنذاك أنَّ كل ما أحتاج إليه هو شخص آخر يقدر حماسي، وهذا يغرس
حقاً الثقة لدى المرضى، ويجعل (أطباء المركز) مصدراً موثوقاً للمشورة، وأشخاصاً
تأخذهم على محمل الجد».

إنَّها قصة قصيرة ممتعة. يرى فوناغي أنَّ كسب ثقة الأطفال أمر بالغ
الأهمية، إذ قال: «يأتي الأطفال إليَّ وهم في حالة من الحذر المفرط بشأن
العلاقات بسبب ما حدث لهم. إنهم لا يثقون في أي شخص، ولا يثقون فيما أقوله، ولا
يثقون في أي معرفة يجب أن أقدمها لهم».

ومع ذلك، ففي بعض الأحيان لا يحتاج الطفل إلى مستشارٍ احترافي، بحسب
ما يرى فوناغي، الذي أضاف: «بعد أزمةٍ ما مثل تفجير مانشستر أو جسر لندن،
فأسوأ شيء يمكنك فعله هو الذهاب مباشرةً إلى مجموعةٍ من خبراء الصحة العقلية
لمحاولة التحدث إلى الفتية الصغار حول ما حدث. هذا أمرٌ مُضِر، ويمنع الشخص من
الوصول إلى ارتياحٍ طبيعي».

بل المهم في هذا السياق هو العلاقة بين الطفل والآخرين، مثل الأصدقاء
والعائلة والمعلمين. إذ قال فوناغي: «أؤمن تماماً بأنَّ المحنة تتحول إلى
صدمةٍ نفسية حين يشعر عقلك بأنَّك وحيد، لذلك إذا كانت لديك علاقات جيدة، فهي في
الواقع تساعدك على استيعاب تلك التجربة».

والآن، وفي رحلة شخصية رائعة، أصبح فوناغي (66 عاماً) هو الرئيس
التنفيذي للمركز، وسيترأَّس في الأسبوع الجاري الافتتاح الرسمي لفرعه الجديد في
منطقة كينغز كروس، في خطوةٍ تُعتبر وداعاً لموقعه التاريخي في هامبستيد وارتباطه
العميق بالتحليل النفسي.

فاليوم، سيكون التحليل النفسي مجرّد تخصص واحد في المركز الجديد،
الذي سيحتضن مدرسةً للتلاميذ المستبعدين من التعليم النظامي السائد، من أجل
«الحفاظ على معنى ما نحاول فعله»، على حدِّ قول فوناغي.

وسيجمع الفرع الجديد بين ثلاثة أفرع سابقة، وسيُجري بعضاً من أكبر
التجارب العشوائية المضبوطة على الصحة العقلية، وسيضم خبراء في علم الأعصاب والصحة
العقلية والرعاية الاجتماعية والتعليم، في إطار سعيه إلى تحسين الفهم العالمي لنمو
الطفل.

ويأتي افتتاحه في وقتٍ تحظى فيه المخاوف بشأن الصحة العقلية للطفل
بأهميةٍ قصوى. فهناك الآن واحد من كل ثمانية أطفال تتراوح أعمارهم بين 5 سنوات و19
سنة في إنجلترا -أي حوالي 1.25 مليون طفل- يعاني اضطراباً عقلياً واحداً على
الأقل. وصحيحٌ أنَّ المجتمع يدرك تلك المشكلة، ويرجع ذلك جزئياً إلى الاعترافات
الصريحة بها من الساسة والمشاهير، لكنَّ فوناغي يقول إنَّ هناك أشياء كثيرة عن
هوية المتأثرين بتلك المشكلة، وأسباب تأثُّرهم ما زالت مجهولة، بحسب الصحيفة
البريطانية.

ويعتقد فوناغي أنَّ الدور الذي تؤديه الثقافة في تكوين الذات أمرٌ
جدير بالدراسة. إذ قال: «في مجتمعنا، لاسيما بين الأطفال من خلفيات الطبقة
الوسطى، يعطي الأهل تنمية الذات أولويةً، لكنَّ المجتمعات غير الغربية الأخرى تعطي
تطوير فهم الآخرين الأولوية».

بيد أنَّ ذلك يحمل مخاطر «ففي الغرب، يشعر الطفل بأنَّه الملك،
ومركز كل شيء»، حسبما ذكر فوناغي. وهذا قد يجعلهم أقل مرونة في التعامل مع
الإحباطات والانتكاسات. «ويمكن أن يكون ذلك هو السبب وراء ارتفاع معدل انتشار
الاكتئاب والقلق، الذي يُعَد أعلى في مجتمعنا من المجتمعات الأخرى»، وفقاً
لما يراه فوناغي. ومع ذلك، لا توجد عصا سحرية يمكنها تغيير ذلك. إذ يرى فوناغي
أنَّ المجتمع بحاجةٍ إلى تقبُّل أنَّ مشكلات الصحة العقلية أمرٌ حتمي لدى البشر،
وقال: «أعتقد أن ذلك يرجع إلى الخيال المفرط. فالحمير الوحشية لا تصاب
بالقرحة، صحيحٌ أنَّها تعيش في بيئة شديدة التوتر، لكنَّها لا تصاب بالقرحة. بينما
يصاب البشر بالقرحة لأنَّهم يتخيلون كل الأشياء الرهيبة التي يمكن أن تحدث».

يستعرض فوناغي بعض الإرشادات التي يمكن للوالدين اتباعها من أجل صحةٍ
عقلية أفضل لأطفالهم:

اقرأ مع طفلك

«هناك رابطةٌ قوية دائمة بين العائلات والأطفال تقوم على
الاهتمامات المشتركة والإثارة والتساؤل المشتركين، وكل ذلك يمكن تحقيقه بالقراءة
من أجل المتعة لاستكشاف عوالم ومفاهيم جديدة تطلق خيالاتهم. فالأطفال لديهم العديد
من الاحتياجات التنموية التي يمكن تقديمها في وقتٍ واحد عبر القراءة مع الوالدين
أو مُقدمِّي الرعاية الذين يحبونهم ويثقون بهم. وهناك كذلك فوائد معرفية وشعورية
على المدى الطويل، فالقراءة المشتركة تعزز الأداء التنموي والتعليمي المتعلق
بالعلاقات الشخصية في الحياة اللاحقة».

كن متواضعاً

«تواضع الوالد أمام طفله مهمٌ جداً بقدر أهمية تواضعه لأي
إنسانٍ آخر، صحيحٌ أنَّ أولياء الأمور ينبغي أن يكونوا موثوقين وجديرين بالطاعة،
لأنَّهم أكبر سناً وأحكم، لكن ليس هناك أحد معصوم، لذا فالقدرة على الاعتراف
بالأخطاء أمر مهم».

لا تخف من قول «لا»

«بعض الكلمات مثل «لا» و «لا تفعل ذلك»
يمكن أن تكون أفضل تدخُّلٍ ممكن، إلا عندما تؤدي إلى سوء سلوك، عندئذٍ يجب على
الوالد استخدام استراتيجيات بديلة».

تحدث عن الصحة العقلية

«معظم الفتية الصغار يقررون أسلوب حياتهم بأنفسهم في فترة
المراهقة. ولكن بالنسبة لعدد صغير، يمكن أن تصبح المشكلات مستمرة وتهدد العلاقة
بين الوالد والطفل. لذا فالتحدث مبكراً، قبل أن تصبح المشكلات عميقة جداً، غالباً
ما يُجدي نفعاً».

الإشراف أساسي

«الإشراف الأبوي مهمٌّ إلى حدٍّ لا يُصدَّق. فإذا لم يكن
الطفل خاضعاً للإشراف، فقد ينحرف».

المصدر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى