الأرشيفتقارير وملفات

مناسك الحج بين النظرية والتطبيق

من روائع الأديب الكاتب
السعيد الخميسي 
* يظن كثير من  الساسة  والقادة والمفكرين والمثقفين   والخبراء والكتاب وأصحاب الرأي أن أول ميثاق وضع لحقوق الإنسان فى العالم هو ذاك الميثاق الذي وضعته  الجمعية العامة للأمم المتحدة فى باريس فى العاشر من ديسمبر لعام  1948م والمسمى ” بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان  “ والذي أقرت فيه أن يتولى القانون حماية حقوق الإنسان لكى لا يضطر المرء آخر الأمر إلى التمرد على الاستبداد والظلم  . والذي أكدت فيه أيضا إيمانها بحقوق الإنسان الأساسية وبكرامة الفرد وبما للرجال والنساء من حقوق متساوية . وحزمت أمرها على أن تدفع بالرقي الاجتماعي قدماً وأن ترفع مستوى الحياة في جو من الحرية أفسح. ونسوا أو تجاهلوا  كل من سبق ذكرهم أن أول ميثاق لحقوق الإنسان  فى العالم وضعه الرسول صلى الله عليه وسلم فى ” خطبة الوداع ” فى خطبة طويلة جاء فيها : “ أيها الناس : إن دماءكم وأعراضكم حرام عليكم إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا . ألا هل بلغت اللهم فاشهد، فمن كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها. أيها الناس ولايحل لامرئ مال أخيه إلا عن طيب نفس منه ألا هل بلغت اللهم فاشهد . أيها الناس إن ربكم واحد وأن أباكم واحد كلكم لآدم و آدم من تراب أكرمكم عند الله اتقاكم وليس لأعربى على أعجمى فضل إلا بالتقوى ألا هل بلغت اللهم فاشهد . أيها الناس : إن لنسائكم عليكم حقاً ولكم عليهن حق. لكم أن لا يواطئن فرشهم غيركم، ولا يدخلن أحداً تكرهونه بيوتكم إلا بإذنكم ولا يأتين بفاحشة، فإن فعلن فإن الله قد أذن لكم أن تعضلوهن وتهجروهن في المضاجع وتضربوهن ضرباً غير مبرح، فإن انتهين وأطعنكم فعليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف، واستوصوا بالنساء خيراً . “ أين ميثاق الأمم المتحدة من ميثاق الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ؟

* إن فريضة الحج من الفرائض التى تحمل فى طياتها وفى مناسكها دروس تربوية ودينية وسياسية عظيمة لايلتفت إليها كثير من الناس لانشغالهم بالمظهر على حساب الجوهر وبالشكل والصورة على حساب المحتوى والمضمون  . فقد أكد صلى الله عليه وسلم وشرح وفصل تفصيلا دقيقا حقوق الإنسان ماله وماعليه وحقوق المرأة التى يتغنون بل ويتاجرون بها اليوم تحت مظلة حقوق المرأة التي استباحوا عرضها وقتلوها بنتا وزوجة وأما . وتناسى وتجاهل كل هؤلاء أنه  فى خطبة الوداع حرم الرسول صلى الله عليه وسلم سفك الدماء والاعتداء على الأموال العامة والربا والحروب الأهلية وأكد على حقوق المرأة فى قوله ” استوصوا بالنساء خيرا “ إنها خطبة جامعة شاملة وافية وضع فيها الرسول الكريم أسس التعامل بين البشر وبين حقوقهم ومالهم وماعليهم . لكن نظرا للهجمات المنظمة والمرتدة من الملعب المعادى للإسلام ضد كل ماهو اسلامى , فلا يكاد تذكر أي منظمة أو هيئة  دولية بنود تلك الخطبة العظيمة التى لو تدارسوها وفهموها وطبقوها لما جرأت أى منظمة أو هيئة أو سلطة أن تصف الإسلام بأنه دين عنصرى لا يعطى للمرأة حقها , بل يذهبون إلى ماهو أبعد من ذلك وأخطر فيصفون الإسلام بأنه دين العنف والارهارب والله يعلم أن ديننا برئ من هذه التهم الملفقة براءة الذئب من دم ابن يعقوب .

*  إن موقف رمى الجمرات ليس منسكا مبهما ولا غير مفهوم بل هو رمز يتعلم فيه الحاج عملياً أن له عدواً لدوداً خطيرا متربص به  .  أقسم هذا العدو اللدود بعزة الله أن يغوى بنى آدم ويأخذ بأيديهم بل يجرهم إلى معصية ربهم . إن هذا العدو يجب  أن لا يزيد المسلم إلا إصرارا وتصميما  على ضرورة عدم الاستسلام له والانقياد وراءه  , بل لابد من الانتصار عليه والتغلب على وسوسته لكى لا تسقط الأمة فى مستنقع الشيطان الآثم فتكون كالريشة تتقاذفها الأمواج على أى شاطئ ترسو . قال تعالى  : ” قال رب فأنظرنى إلى يوم يبعثون . قال فإنك من المنظرين . إلى يوم الوقت المعلوم . قال فبعزتك لاغوينم أجمعين . إلا عبادك منهم المخلصين . قال فالحق والحق أقول . لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين ” هكذا اقسم الشيطان لله عز وجل أنه لن يترك هذه الأمة لسبيل حالها . بل لابد من الإغواء بكل صوره من انحراف وانجراف واتباع خطوات الشيطان . فهل تعلمت الأمة أن الهدف من رمى الجمرات ليس مجرد حصوات صغيرة ترمى بلا فهم أو وعى فى حوض خرسانى أسمنتى  , بل هو منهج حياة ضد كل من يريد شيطنة وأبلسة هذه الأمة .  لابد من رجم كل من يحاول هدم بنيان هذه الأمة وضربها فى مقتل وتعجيزها حتى تظل مشلولة لاتقف على قدمين ثابتتين .

هل فهمنا ذلك ؟

* وهناك درس عظيم فى قضية ذبح الحيوان سواء كان أضحية أو غيرها لأن الله عز وجل حرم  عملية الذبح بذاتها إلا تكون مقترنة باسم الله حتى تكون الذبيحة حلالا ويجوز أكلها لقول الحق ” ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق ”  إذا لاحق للبشر فى إزهاق روح الحيوان  وسلب حياتها  إلا بتصريح من الله عز وجل .  ومن هنا يأتى السؤال الكبير للذين يستحلون دماء الأبرياء من البشر  ويستبيحون أعراضهم وبيوتهم وأموالهم ونساءهم , من  ذا الذى أعطاكم هذا الحق فى سفك دماء الناس والله حرم ذلك مع الحيوان , فما بالكم مع الإنسان الذى هو صنع الله  . حتى فى أثناء عملية ذبح الحيوان تظهر الرحمة والشفقة بهذا الحيوان فى قول الرسول صلى الله عليه وسلم :” إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته»، إن الإسلام ينهى بصريح الأمر عن ذبح الحيوان بطريقة وحشية انتقامية . فما بالنا بالمسلمين اليوم وهم يذبحون شر ذبحة ويقتلون شر قتلة فى أوطانهم وفى غير أوطانهم بغير ذنب ارتكبوه . إن أعداءنا ينظرون إلينا وكأننا فى درجة أقل من الحيوان . فأنت عربى مسلم , إذا أنت ارهابى أبا عن جد وكابرا عن كابر وليس لك عندنا إلا الموت بكل الأسلحة المحرمة وغير المحرمة . يقتلوننا ويحرقون جثثنا وأحيانا يتركون الجثث فى عرض الشارع لتكون وجبات طازجة للكلاب الضالة . هل يستطيع علماء ومشايخ ودعاة المسلمين اليوم أن يثبتوا لمتشدقى الليبرالية والديمقراطية وحقوق الإنسان والمرأة أن دين الإسلام قد وصى بالحيوان قبل أن يشكلوا هم جمعية الرفق بالحيوان ؟ فأين هم من حقوق الإنسان العربى المسلم اليوم؟ هل تعلمنا ذلك من فريضة الحج ؟

*  وهناك درس سياسي عظيم نأخذه من  مناسك الحج ويتمثل فى التعددية واحترام الرأي الأخر. تأمل قوله تعالى فى التخيير بين البقاء فى منى ورمى الجمرات يوماً ثالثا وبين التعجيل والاكتفاء بيومين فقط ”  فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى  ” فهذه تربية سياسية للمسلمين على التعددية ووجود أكثر من رأى فى الموضوع الواحد . وعلى كل طرف احترام وتقدير رأى الطرف الآخر طالما أن ذلك يتم فى الإطار المنضبط  للشرع الحكيم . إنها الشورى والحرية  وقبول الآخر بلا تأفف أو توجع أو قلق حتى فى فرض من فروض الله . وأيضا يمكننا فهم هذه الصورة الإبداعية من قبول الرأى الآخر ووجوب التعددية فى اختيار نوع النسك الذى يناسب وقت وظروف الحاج  ما بين الإفراد أو التمتع أو القِران ، دون أن ينكر أحد على آخر اختياره نوعاً دون الآخر ، وكذلك فى تخيير كل من المفرد والقارن فى التعجيل بالسعى للحج بعد طواف القدوم أو تأجيله إلى ما بعد طواف الإفاضة . وكذلك فى تخيير جميع الحجاج فى التعجيل بأداء الطواف والسعى يوم العاشر من ذى الحجة أو تأخيرهما إلى ما بعد العودة من منى . أين الديكتاتورية ومصادرة الآراء إذا ؟ أين التحجر والاستبداد بالرأى الواحد ؟ لايوجد هذا إلا فى مذاهبكم وقوانينكم فقط . فهل تعلمنا هذا الدرس العظيم من مناسك الحج حتى لا يحكر أحد على رأى احد ولا يصادر أحد رأى أحد ؟

* درس سياسي تربوى آخر وما أكثرها من دروس الحج ألا وهو المساواة المطلقة بين كل الحجيج فى الملبس والمأكل والمشرب وأداء النسك . فكل الحجيج يلبسون لبس الإحرام الأبيض بلا مخيط وهو شبيه بكفن الأموات , لاتفرقة عنصرية , لا حاكم ولا محكوم , لا أمير ولا حقير , لا صغير ولا كبير . لا أسياد ولا عبيد . لا أبيض ولا أسود , لا غنى ولا  فقير , لا صحيح ولا مريض . الكل يقف فى صعيد واحد  وفى مكان واحد على قدم المساواة  , ويؤدون منسكا واحدا , ويلبون إلها واحدا , ويطوفون ببيت واحد  ويعبدون ربا واحدا . أين التفرقة والعنصرية والطائفية التي يتهم أعداء الإسلام من متطرفى العلمانية واليسارية والماركسية بها ديننا العظيم . إنهم لوعاشوا ألف سنة يؤلفون قوانين ودساتير ليرتقوا بها إلى دين الله فلن يستطيعوا ذلك ولو اجتمعوا له . لأنهم مرضى نفسيين لايملكون غير الهمز واللمز وسوء الفهم وخبث الطوية ورداءة النية تجاه كل ماهو إسلامي. هذه بعض الدروس التربوية والسياسية والاجتماعية  والتى تدل دلالة قاطعة على أن فريضة الحج جوهر قبل أن تكون مظهر ومحتوى قبل أن تكون شكلا . فمتى يستفيد المسلمون من مقاصد دينهم العظيم قبل فوات الأوان ومرور الزمان ؟ إنا لمنتظرون عسى الله أن يهدينا جميعا سواء السبيل ويعيد لأمتنا مجدها وكرامتها وعزتها وقوتها .

والله من وراء القصد والنية 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى