ثقافة وادب

من بيوت «الدعارة» إلى عرش الإمبراطورية البيزنطية.. ما هي قصة ثيودورا أول مدافعة عن حقوق المرأة في التاريخ؟

من بيوت الدعارة إلى عرش الإمبراطورية البيزنطية العظيمة، سلكت ثيودورا طريقاً شائكاً، وكان سلاحها جمالها الأخّاذ وذكاؤها الحاد وشجاعتها الفريدة.

فما قصة هذه الحسناء التي سلبت لبّ الإمبراطور جستينيان، وتحدّت السلطة الباباوية، ودعمت حقوق النساء، وأسهمت في بناء آيا صوفيا، واستخدمت قوتها ونفوذها بقسوة جعلت البعض يصفها بالشيطانة؟

اختلف المؤرخون حول مسقط رأس ثيودورا، فبعضهم قال إن أصلها من مابوغ (منبج حالياً) في سوريا، وبعضهم يقول إنها وُلدت في القسطنطينية (إسطنبول)، لكنهم أجمعوا على أنها عاشت شبابها في القسطنطينية.

بعضهم قال إنها كانت بهجة المدينة، وبعضهم قال إنها قد جلبت العار للقسطنطينية بعملها في بيوت الدعارة في سن مبكرة، ثم توجهها لتمثيل المسرحيات الصامتة الخليعة، التي جعلت رجال المدينة يتهافتون على مشاهدتها.

قيل إن ثيودورا لم تمتلك موهبة عظيمة في التمثيل، لكن جمالها الساحر وشخصيتها الجذابة جعلاها أكثر الممثلات شهرةً في عصرها.

وبعد فترة من عملها في المسرح أنجبت ثيودورا ابناً غير شرعي، ثم اختفت فترةً عن الأعين، ثم انتقلت إلى الإسكندرية، لتعود بعد ذلك إلى القسطنطينية وقد تابت عن عملها السابق، وقرَّرت الاعتماد على غزل الصوف لتكسب قوت يومها.

لكن حياة هذه الفتاة البسيطة تغيَّرت تماماً بعد أن عشِقها جستينيان، الذي كان آنذاك عضواً في مجلس الشيوخ ووريث عرش خاله الإمبراطور جاستين الأول.   

حاله كحال جميع الرجال الذين وقعت أنظارهم على ثيودورا، أغرم جستينيان بها غراماً شديداً، وقرَّر الزواج منها، رغم أن ذلك كان محرماً في ذلك الوقت.

إذ كان من المحرّم أن يتزوج أحد أعضاء مجلس الشيوخ من عامة الناس، فكيف الحال بالزواج من فتاة اشتهرت بالقسطنطينية كلها بأنها كانت تعمل بالدعارة.

لكن جستينيان استطاع لِشدة تعلُّقه بثيودورا إقناعَ خاله الإمبراطور جاستن الأول بأن يُصدر قراراً من مجلس الشيوخ، بالسماح لأعضاء المجلس بالزواج من العامة، وفعلاً تزوَّج جستينيان من ثيودورا، رغم أنه كان يكبرها بحوالي 20 عاماً.

في العام 527م تسلَّم جستينيان عرشَ الإمبراطورية البيزنطية، وإلى جانبه زوجته الإمبراطورة ثيودورا، التي كان لها أثر وسلطة قوية عليه.

وبعد أن أصبحت ثيودورا صاحبة نفوذ وسلطة ظهرت قوتها وذكاؤها في إدارة البلاد، فقد كانت شديدة التأثير على الإمبراطور الذي لا يرفض لها طلباً.

قد أظهرت ثيودورا عطفاً ورأفة بالفقراء وعامة الناس الذين انبثقت من وسطهم، لكن قال بعض المؤرخين إن أثرها على جستينيان لم يكن دوماً إيجابياً، فقد كانت تُغدق بالنعم على من لا يستحقون ذلك، وتنتقم بقسوة من أعدائها.

عاشت ثيودورا في بداية شبابها حياةً قاسيةً؛ إذ اضطرت للعمل في الدعارة، مما دفعها بعد أن أصبحت إمبراطورة لسَنِّ قوانين صارمة لمنع الدعارة القسرية.

حرصت ثيودورا كذلك على شراء الفتيات اللواتي يتم بيعهن لبيوت الدعارة، ثم إطلاق سراحهن وإعطائهن الأموال لتأمين مستقبلهن، وأسَّست ديراً للعاهرات اللواتي يرغبن في التوبة ولا يستطعن إعالة أنفسهن.

فيما بعد تمكَّنت ثيودورا من إغلاق بيوت الدعارة بشكل نهائي، وجعلت من القوادة جريمةً جنائية يعاقب عليها القانون، كما فرضت عقوبة الإعدام على جريمة الاغتصاب، ونهت عن قتل النساء اللواتي يرتكبن الزنا.  

وسَّعت ثيودورا أيضاً حقوقَ المرأة في الطلاق والتملك والوصاية على الأطفال.  

كما استطاعت ثيودورا أن تقنع زوجها الإمبراطور بإصدار مرسوم ينصُّ على أن المرأة التي تعمل بالمسرح والتمثيل مساوية في الحقوق لجميع النساء، إذ كانت الممثلات في ذاك الوقت يعتبرن أدنى مرتبة من بقية النساء.

في العام 532م، وبينما كان يواجه جستينيان تهديداً خارجياً من الفرس، كان يشهد كذلك تهديداً داخلياً من حزبين داخليين، يطلق عليهما «حزب الخضر وحزب الزرق»، اللذين بدآ بثورة أُطلق عليها «ثورة نيكا».

وبالرغم من أن هذين الحزبين يكرهان وينافسان بعضهما البعض فإنهما اتَّفقا على توحيد صفوفهما ضد جستينيان، وراحا يعيثان فساداً في القسطنطينية.

تمكَّن الحزبان من التغلُّب على بعض القوات الحكومية، وهو ما جعل موقف جستينيان حرجاً؛ إذ كانت كل المؤشرات تدل على أنه فاقد للسيطرة، وعلى وشك أن يخسر عرشه، لدرجة أنه فكَّر في الفرار مع مؤيديه من القسطنطينية.

وحدها ثيودورا مَن رفضت هذه الفكرة، وألقت على جستينيان وأصحابه خطاباً تحثُّهم فيه على عدم الفرار، إذ إن الموت هو مصير جميع البشر في النهاية، إلا أن العباءة الإمبراطورية هي خير الأكفان على حدِّ قولها.

كانت لكلمات ثيودورا مفعول السحر على الحاضرين، الذين عدلوا عن قرار الفرار، وبدأوا في التخطيط للقضاء على الثورة عوضاً عن ذلك.

وفعلاً هذا ما كان، إذ أمر جستينيان قائدَه نارسيس باستمالة بعض الرؤوس في الأحزاب بالمال والهدايا، لتأمين انسحابهم من الثورة، مقابل العفو عنهم وإغراقهم بالأموال، ونصب كميناً لبقية المتظاهرين من الأحزاب، إذ حصرهم بساحة، وأحدث فيهم مذبحةً راح ضحيتها ما يزيد عن 30 ألف قتيل.

وبعد القضاء على الثورة زادت مكانة ثيودورا عند جستينيان، وزادت سلطتها ونفوذها، كما زاد تدخلها في شؤون الحكم.

بعد القضاء على ثورة نيكا تفرَّغ جستينيان وثيودورا لإعادة بناء القسطنطينية، ليجعلا منها واحدة من أكثر مدن العالم روعة، إذ أعادا بناء القنوات المائية، والجسور، وأكثر من خمس وعشرين كنيسة، كانت أبرزها على الإطلاق كنيسة آيا صوفيا، التي لا تزال إلى اليوم شاهدةً على العمارة البيزنطية الفريدة.

لكن قيل إن العزة أخذت الزوجين بعد سيطرتهما ثانية على العرش، وأصبحت علاقاتهما مع العامة علاقة السادة والعبيد، كما أنهما كانا يجبران أعضاء مجلس الشيوخ -بمن فيهم الأرستقراطيون- على السجود أمامهما كلما دخلوا عليهما في قاعة العرش.

وكان مسؤولو الحكومة لا يستطيعون الاقتراب من الإمبراطورة إلا بعد استنزاف الكثير من الوقت والجهد، إذ يتعيّن عليهم الانتظار لساعات طويلة في غرفة مزدحمة حتى توافق الإمبراطورة على مقابلتهم لتسيير أمور البلاد.

وكان على كل منهم أن يُظهر احترامه لثيودورا، بأن يركع أمامها ويقبل قدميها، ولا يبدأ بالحديث حتى تأذن له.

مع ذلك بالغ بعضُ المؤرخين في وصف قسوة جستينيان وثيودورا، لدرجة أن وصفوهما بالشياطين الذين شوهدت رؤوسهم تغادر أجسادهم وتطوف بالقصر ليلاً.

كانت المسيحية منقسمة إلى كنيستين شرقية وغربية، وكان جستينيان يسعى لتوحيدهما للحفاظ على وحدة الإمبراطورية الدينية.

لكن ثيودورا كانت مهتمة بدراسة الدين في أواخر حياتها، وكانت تناقش زوجها بطبيعة المسيح، واعتنقت في نهاية الأمر مذهب اليعاقبة، مما أدى إلى اتهامها بالبدعة وتقويض وحدة المسيحية.

وكما هو متوقع كان لقرار ثيودورا باتّباع مذهب اليعاقبة دور في تخفيف حدة تعصب جستينيان للأرثوزكسية، ليس هذا فحسب، بل استطاعت أيضاً بسط حمايتها على الخارجين عن هذا المذهب، وتحدَّت السلطة البابوية، وشجَّعت خُفية قيام كنيسة يعقوبية مستقلة في الشرق.

لم يكن المؤرخون واثقين من سبب وفاة ثيودورا، لكن المرض الذي مرت به والذي أدى إلى موتها فُسر لاحقاً على أنه سرطان الثدي، إذ فارقت ثيودورا الحياة في 548م عن عمر يقارب 48 عاماً.

بكى جستينيان بمرارة عندما فارقت زوجته الحبيبة الحياة، وتم دفن جسدها في كنيسة الرسل المقدسة في القسطنطينية.

وإلى يومنا هذا يوجد رسم من الفسيفساء لثيودورا وزوجها في كنيسة سان فيتالي في رافينا، إيطاليا.

المصدر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى