تقارير وملفات إضافية

من سيفوز في النهاية الغنوشي أم قيس سعيد؟ قصة الخلاف السياسي في تونس والسيناريوهات المتوقعة

تتواتر الأحداث السياسية في تونس بنسق متسارع وخطر ربما لا تقدر حتى ساعة إيقاف الوقت على مجاراتها وتحديد مداها. العديد من القرارات السياسية والتحركات البرلمانيّة طغت على المشهد الوطني في اليومين الماضيين على خلفيّة ملف تضارب المصالح وشبهات الفساد التي اتُّهِم بها رئيس الحكومة التونسية إلياس الفخفاخ. هذا في الظاهر، أو ما يطفو على سطح الأحداث، إلاّ أن الواقع السياسي المتحرك في البلاد يشي بأكثر من ذلك إذا ما أردنا تجميع قطع البازل السياسي وتشكيل صورة متكاملة الملامح لواقع الصراعات الحزبية والبرلمانية والرئاسية في دولة “الاستثناء الديمقراطي” في المنطقة العربية.

قضية تضارب المصالح التي طغت على غيرها من الأحداث المحليّة بعد إثارتها في لقاء صحفي مع رئيس الحكومة في قناة تلفزيّة خاصّة بتاريخ 14 يونيو/حزيران 2020، كانت الفتيل الذي أشعل حملة الاتهامات والانتقادات والتهجمات على إلياس الفخفاخ من قبل مناوئيه وأهم شركائه في الحكم (حركة النهضة) على حد سواء. الحملة الشديدة التي تعرض لها إلياس الفخفاخ قبل البتّ في صحّة الاتهامات الموجهة له قضائياً، واستباقاً لتقرير اللجنة البرلمانيّة التي كُلِّفت بالتحقيق في هذا الملف تُوّجت بقرارات وتحرّكات سياسيّة وبرلمانية في غاية الخطورة والأهميّة، سواء في علاقتها بالاستقرار الحكومي أو بمصير البلاد في ظل الصعوبات الاقتصادية والاجتماعية التي تعيشها تونس بسبب تأثيرات أزمة وباء كورونا والمشاكل المتراكمة منذ سنوات، والمتمثلة خصوصاً في ارتفاع نسبتي البطالة والتضخم وارتفاع المديونية الخارجية وتراجع نسبة النمو الاقتصادي وتدني المقدرة الشرائية..

سلسلة الأحداث الساخنة التي انتهت باستقالة الفخفاخ مساء اليوم، بدأت بتصريحات رئيس الجمهورية التونسية قيس سعيد خلال اجتماعه برئيس الحكومة والأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل نور الدين الطبوبي والتي ردّ فيها على الأخبار التي تداولها أعضاء من حركة النهضة حول التقائه برئيس الحركة راشد الغنوشي والاتفاق على البدء في مشاورات تشكيل حكومة جديدة، حيث كان صارماً ومفاجئاً كعادته وقال في كلامه أنه “لن يقبل بأي مشاورات تهم تشكيل حكومة جديدة ما دامت الحكومة الحالية قائمة، وكاملة الصلاحيات”. وذكّر بأن ّ “المشاورات لا يمكن أن تحصل إلا إذا قدم رئيس الحكومة استقالته أو سحبت منه الأغلبية المطلقة بمجلس نواب الشعب الثقة”. وقد أراد من كلامه حسب سياق الأحداث توجيه رسالة مضمونة الوصول للنهضة ورئيسها بأنه لا يزال متمسكاً برئيس الحكومة الذي كلّفه بمهامها، وأن المبادرة لم تخرج من يديه بعد كل ذلك في إطار ما يقتضيه الدستور.

تصريحات قيس سعيد استفزّت قيادة الحركة، ما دفعها لعقد اجتماع مجلس شورى الحركة للتداول في مسألة سحب الثقة من رئيس الحكومة إلياس الفخفاخ، وكانت نتيجة التصويت بأغلبيّة 70 صوتاً لصالح سحب الثقة مقابل 20 صوتاً لصالح الاستقرار الحكومي وتحفظ 04 أعضاء عن التصويت. وتم إثر ذلك تكليف رئيس الحركة راشد الغنوشي بالتشاور مع الأحزاب لتشكيل حكومة جديدة. وفي الوقت الذي اتجهت فيه حركة النهضة للحل القصووي لحلّ الخلاف مع رئيس الحكومة انطلقت بالمقابل الكتل النيابية (الكتلة الوطنية، الكتلة الديمقراطية، كتلة الإصلاح، كتلة تحيا تونس) بجمع الإمضاءات لعريضة سحب الثقة من رئيس البرلمان راشد الغنوشي. وبالرغم من أن الأسباب المعلنة تتمحور حول ارتباطاته الخارجية بالرئيس التركي أردوغان ودولة قطر واتهامات بعلاقته بـ”الإرهاب” (اتهامات عبير موسي رئيسة الحزب الدستوري الحر الموالي للنظام القديم)، إلا أن قرار الحركة ورئيسها سحب الثقة من رئيس الحكومة وإخلالها بـ”العقد السياسي” بين المكونات الحكومية التي تشكل النهضة الجزء الأغلبي فيها من حيث عدد الوزراء، اعتبرت أيضاً من العوامل المهمة التي دفعت باتجاه الإمضاء على عريضة سحب الثقة.

غير أن ما أحدث الفارق في سلسلة الأحداث المتعاقبة الأخيرة هو تمكّن حركة النهضة من جمع 105 أصوات من جملة 109 أصوات المطلوبة عند التصويت على سحب الثقة داخل البرلمان حسب ما ينص عليه الفصل 97 من الدستور التونسي، الأمر الذي دفع رئيس الحكومة إلياس الفخفاخ لتقديم استقالته لرئيس الجمهورية، وهو ما يعيد الكرة لملعب رئيس الجمهورية لتكليف رئيس حكومة جديد بعد التشاور مع الأحزاب الفائزة في الانتخابات الأخيرة، في عملية استباقية للتصويت حول سحب الثقة من رئيس الحكومة وما يعنيه من عودة المبادرة لحركة النهضة لتعيين رئيس حكومة من اختيارها باعتبارها الحزب الفائز بالأغلبية في الانتخابات حسب ما جاء في الدستور التونسي. وهكذا يسدل الستار على الفصل الأوّل من فصول الصراع السياسي والبرلماني حول الحكم في تونس.  

تعود قصة التوتر بين حركة النهضة ورئاسة الحكومة المستقيلة لما قبل عهدة إلياس الفخفاخ، عندما فشل مرشح حركة النهضة لرئاسة الحكومة الحبيب الجملي في نيل ثقة البرلمان، بالرغم من فوز الحركة في الانتخابات التشريعية أكتوبر/تشرين الأول 2019 بأغلبية نسبية 20% وحصولها على 52 مقعداً من جملة 217 مقعداً في مجلس نواب الشعب، وحتى عندما عادت المبادرة لرئيس الجمهورية لتكليف رئيس حكومة بعد التشاور مع الأحزاب لم يلقَ المرشحين الذين زكتهم الحركة لمنصب رئيس الحكومة القبول، ووقع الاختيار على إلياس الفخفاخ الذي رشحه حزب رئيس الحكومة السابق يوسف الشاهد (تحيا تونس) الحاصل على 4% فقط من نتائج التصويت في الانتخابات التشريعية، ولم يمانع ترشيحه حزب التيار الديمقراطي الذي يتولى زعيمه محمد عبو وزارة الحوكمة ومكافحة الفساد والوظيفة العمومية في حكومة الفخفاخ.     

تعيين الفخفاخ الذي لم يحصل خلال ترشحه للانتخابات الرئاسية 2019 سوى على 0.34 %  مثّل بداية الدحرجة لكرة الثلج، إذ لم تستسغ حركة النهضة الفائزة في الانتخابات أن يسحب من تحتها البساط ولا يكون لها اليد العليا في الحكومة، الأمر الذي جعلها تشترط أن يكون لها تمثيل وزاري مهم داخل الحكومة وتحاول أن تقحم لاعباً سياسياً جديداً في المعادلة الحكومية لطالما اتهمته بالفساد خلال حملته الانتخابية، وهو حزب قلب تونس لرجل الأعمال والإعلام المتهم بقضايا تهرب ضريبي وتبييض أموال نبيل القروي.

 إشراك حزب قلب تونس كان سيكون بمثابة الرافد لها داخل الحكومة والبرلمان إلا أن رفض الفخفاخ ومن ورائه حزب التيار ورئيس الجمهورية لمشاركة حزب قيادته متهمة بالفساد لم تهضمه الحركة، لأنها ستبقى بالرغم من حضورها الوزاري الأغلبي في الحكومة، دون حليف يعدّل كفّة التوازنات الحزبية داخل الحكومة مثلما هو الحال في البرلمان. وقد ظهرت انعكاسات هذا التوتر بين الطرفين فيما بعد تحت قبة البرلمان، من خلال تعطيل أو تمطيط النقاشات والمصادقة على مشاريع قوانين تقدمت بها رئاسة الحكومة في البرلمان، ليصل التوتر لأوجه في قضية تضارب المصالح التي استثمرتها الحركة وحليفها قلب تونس بشكل جيد لإضعاف موقف إلياس الفخفاخ ومن ورائه رئيس الجمهورية قيس سعيد الذي كلفه بتشكيل الحكومة، وصولاً لقرار مجلس شورى الحركة سحب الثقة منه وتقديم استقالته.

العلاقة بين حركة النهضة وقيس سعيد قبل وصوله لكرسي الرئاسة لم تكن علاقة متوترة ولم تشبها خلافات مثلما هي الحال عليه اليوم، بل على العكس، فحسب مؤسسات سبر الآراء ساند جزء لا بأس به من قواعد النهضة ترشح قيس سعيد في الدور الأول من الانتخابات الرئاسية 2019، بالرغم من وجود أحد مؤسسي الحركة عبدالفتاح مورو كمرشح للحركة ساعتها إلا أنه لم يتحصّل سوى على 14.8%من الأصوات مقابل 18.4% لقيس سعيد. وفي الدور الثاني ذهبت معظم أصوات الحركة الإسلامية لقيس سعيد ليفوز بنسبة 72.7%. الحركة كانت تنتظر ساعتها رد الجميل من خلال التوافق معها على عدة ملفات أبرزها رئاسة الحكومة والملف الليبي والعلاقات الخارجية مع حلفائها التقليديين (قطر، تركيا..)، إلا أنها اصطدمت بشخصية مبدئيّة صارمة قليلة الخبرة بالسياسة وكواليسها ومناورتها، ومن هذه النقطة بدأ التوتر ليتحول لاحقاً لخلافات، خصوصاً مع رئيس الحركة ورئيس البرلمان راشد الغنوشي، لا يبدو أنها ستندمل عن قريب.

رئاسة الحكومة

 كما سبق وأشرنا سابقاً أن إلياس الفخفاخ، الذي كلفه رئيس الجمهورية بتشكيل الحكومة، لم يكن من بنات أفكار حركة النهضة الحزب الفائز في الانتخابات التشريعية، كما أن عدم تشريك حزب قلب تونس الذي صوت لصالح راشد الغنوشي عند انتخابه لرئاسة البرلمان في ظل وجود أحزاب في الائتلاف الحكومي لا تلقى هوى سياسياً لدى بعضها البعض مثل حزب التيار الديمقراطي الذي سبق وأن استقال أمينه العام محمد عبو من حكومة الترويكا الأولى بعد الثورة 2012، التي كانت ترأسها حركة النهضة بحجّة عدم منحه الصلاحيات الكافية في وزارته لإصلاح الإدارة التونسية ومكافحة الفساد، إضافة إلى حزب الشعب (قومي ناصري) وهو كذلك من خارج دائرة الحلفاء والأصدقاء بالنسبة لحركة النهضة، كل ذلك زاد في توتر العلاقة مع رئيس الجمهورية وتغذية الخلافات بين الطرفين.

كما أن المسار السياسي البرغماتي الذي تتبعه حركة النهضة وسياسة تبادل المصالح وبناء صدقات مرحلية تخدم برامج وأهدافاً معينة للحركة في الحكم والإقليم لم يكن ليتقاطع مع رئيس خرج من رحم الجامعة بصرامة رجل العلم المختص في القانون الدستوري والزاهد في المغانم الاقتصادية والامتيازات التي يمكن أن يوفرها له موقعه في السلطة.

الموقف من ليبيا  

على الرغم من التقاطع الظاهري في الموقف الدبلوماسي من ليبيا بين حركة النهضة والرئيس قيس سعيد والمتمثل في إيجاد حل سلمي للأزمة الليبية والاعتراف بحكومة فائز السراج كممثل شرعي للشعب الليبي حسب اتفاقية الصخيرات بالمغرب المعترف بها أممياً، إلا أن التهنئة التي توجه بها رئيس البرلمان راشد الغنوشي لفائز السراج بمناسبة استرجاع قاعدة “الوطيّة” الجوية من قبضة قوات خليفة حفتر قائد قوات شرق ليبيا، يبدو أنها أزعجت الرئيس قيس سعيد في ظل الدبلوماسية التونسية منذ فترة حكم الراحل الباجي القايد السبسي القائم على الحياد الإيجابي مع مختلف أطراف الصراع في ليبيا والساعي لتجميع مكونات الشعب الليبي من أجل إيجاد حل سلمي للصراع الدائر هناك.  

أيضاً مبادرة الغنوشي بتهنئة لتركيا في وقت حساس سياسياً ليلة سقوط حكومة الحبيب الجملي عند التصويت عليها في البرلمان، كل ذلك راكم الخلاف بين الرئاستين (رئاسة البرلمان ورئاسة الجمهورية)، وهو ما دفع قيس سعيد أخيراً للخروج من أجل توضيح هذه المسألة الدستورية، حيث قال إن “الدولة التونسية واحدة. ولها رئيس واحد في الداخل والخارج”. تصريحات سعيد في هذا السياق جاءت دفاعاً عن صلاحياته الدستورية، بما أن الدبلوماسية الخارجية من مشمولات رئيس الجمهورية حسب الدستور التونسي المنظم للسلطات. كما أنها عبرت عن خشيته من عزلته السياسية والدبلوماسية والقفز على صلاحياته الدستورية.

السيناريوهات المتوقعة

كل المعطيات والوقائع التي سبقت تؤدي لخلاصة وحيدة وهي أنه لا يوجد رابح أو خاسر في معركة كسر العظام الدائرة حالياً بين مختلف مكونات المشهد السياسي، بسبب انعدام الثقة بين الأحزاب السياسية في تونس.

السيناريو الأول: العودة لــ”حكومة الرئيس”، وقد بدأت فعلياً باستقالة رئيس الحكومة إلياس الفخفاخ، مما يعني أن المبادرة تعود فعلياً لرئيس الجمهورية الذي سيجري في غضون عشرة أيام “مشاورات مع الأحزاب والائتلافات والكتل النيابية لتكليف الشخصية الأقدر من أجل تكوين حكومة في أجل أقصاه شهر”، حسب مقتضيات الفصل 89 من الدستور التونسي،. هذا السيناريو هو الأقرب للتحقيق والأكثر واقعية لاستعادة الاستقرار السياسي في البلاد. إلاّ أن هذا التمشي يبقى مشروطاً بمدى توافق الأحزاب الرئيسية الفائزة في انتخابات أكتوبر 2019 على الشخصية التي سيكلفها رئيس الدولة لتشكيل الحكومة الجديدة، وهو أمر ليس بالهيّن خصوصاً بوجود تنافر حاد  بين مكونات قطبي الائتلاف الحاكم الحالي.

السيناريو الثاني: عدم التصويت في مجلس نواب الشعببمنح الثقة للحكومة الجديدة  المقترحة في حال وقع اختيار رئيس الدولة لمرشح لا يقبله أحد الأحزاب البرلمانية وخصوصاً الحزب الأغلبي حركة النهضة، وهو ما يعني دستورياً حل البرلمان وإعادة الانتخابات التي لن تكون نتيجتها مضمونة في هذه المرة لأي طرف سياسي، خصوصاً حركة النهضة التي خسرت ما بين انتخابات 2011 وانتخابات 2019 قرابة 1.300.000 صوت من خزانها الانتخابي، هذا دون الحديث عن صعود حزب عبير موسي الذي تصدر نسب سبر الآراء في الانتخابات التشريعية القادمة، حسب آخر إحصائيات مؤسسة “سيغما كونساي”. وبالتالي فإن الذهاب في هذا الخيار “شبه الانتحاري” لن تكون نتائجه مضمونة للأحزاب الفائزة في انتخابات 2019، ولن يقدم عليه أي طرف وخاصة الحزب الأغلبي إلا بعد استنفاد جميع أوراقه لتكليف رئيس حكومة ممن يرضى عنهم.

هنالك منفذ وحيد في هذا السيناريو الصعب وهو أن يستغل رئيس الدولة صلاحياته الدستورية ولا يذهب مباشرة لحل البرلمان، وإنما يستعيد المشاورات مع الأحزاب حول مرشح جديد لرئاسة الحكومة.

 السيناريو الثالث:

  ويتمثل في عودة الاغتيالات السياسية أو العمليات الإرهابية. سيناريو مرعب ولا شك لكنه غير مستبعد، خصوصاً مع حالة التأزم السياسي الحالية التي تذكر التونسيين بأجواء الاغتيالات التي حدثت في 2013 للزعيمين اليساريين شكري بلعيد ومحمد البراهمي. وهو ما سيدفع البلاد، لا قدر الله، إلى اضطرابات سياسية وأمنية خطيرة لا يمكن التنبؤ بمآلاتها.  

المصدر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى