ثقافة وادب

“نحن لا نبكي على الشهداء”.. عن المرأة المسلمة التي قادت مقاومة الاستعمار الهولندي طيلة ربع قرن!

“نحن نساء آتشيه، لا نذرف الدموع على الشهداء”، قالت هذه الكلمات السابقة تشوت نياق دين، وهي إحدى النساء المسلمات الأسطوريات في تاريخ إندونيسيا، والتي قاومت الاستعمار الهولندي طيلة ربع قرن تقريباً. وقبل أن نقصَّ عليك حكايتها فلنذكّرك بأنّ إندونيسيا فيها نحو 225 مليون مسلم.

دخل الإسلام مبكراً إلى الهند وإندونيسيا وما حولها من الجزر والمملكات، عبر التجارة المزدهرة بين جزيرة العرب ودولة الإسلام في العموم والهند والصين وجزر جنوب شرقي آسيا.

تأسّست في شمالي جزيرة سومطرة “إندونيسيا” سلطنة اسمها “آتشيه دار الإسلام”. كانت دولةً قوية بمعايير عصرها، وقد بدأ حكمها لأجزاءٍ من إندونيسيا عام 1496. وتأسست على يد السلطان علي الدين محياة شاه، وسميت عاصمتها “باندا آتشيه”.

كانت مناطق جنوب شرقي آسيا والهند والصين تعتمد بالأساس على التجارة البحرية، وبسبب غناها هذا كانت دائماً مطمعاً للقوى الاستعمارية.

ظلّت سلطنة آتشيه قويّة في القرنين السادس والسابع عشر. وكانت قد بدأت بينها وبين الدولة العثمانية مراسلات، باعتبار أنّ الدولة العثمانية هي الدولة الإسلامية الرئيسية التي بإمكانها حماية سلطنة آتشيه من القوى الأوروبية الطامعة فيها.

كانت قوة البرتغال التجارية قد بدأت تصعد في ذلك الوقت، وهي التي ساهمت في إضعاف دولة المماليك بمصر والشام بعدما هزمت أسطولهم في معركة ديو البحرية عام 1509.

بعد مراسلات سلطان آتشيه مع السلطان سليمان القانوني استطاع أن يحظى بحمايته من قوة البرتغاليين النامية. واستطاع بسبب هذا الدعم أن يوسِّع نفوذه في جزر إندونيسيا.

ولكن كعادة الدول التي تكون في ذروة مجدها، تمضي عليها الأيام وتنتهي لتحلّ محلها دولٌ أخرى أصبحت أقوى وأكثر شباباً. وهكذا، مع بداية تدهور وانهيار السلطنة العثمانية، كانت القوى الأوروبية قد بدأت تنهش جسد السلطنة الطويل الممتدّ، والدول التي تحت حمايتها أيضاً.

وهكذا وصل الاستعمار الهولندي إلى سلطنة آتشيه المسلمة، لتبدأ مسيرة طويلة من الكفاح والمقاومة.

عندما وُلدت تشوت نياق دين عام 1848 لم تكن تعرف قَدَرَها، ولم تكن تعرف أن الحكومة الإندونيسية ستمنحها بعد وفاتها بنحو نصف قرن لقب “بطل إندونيسيا الوطني” في 2 مايو/أيار عام 1964.

وُلدت تشوت في عائلةٍ أرستقراطية مسلمة بالإقليم الإداري السادس في سلطنة آتشيه عام 1848. وكان والدها، تيوكو نانتا سيتيا، ضمن الطبقة الأرستقراطية الحاكمة في هذا الإقليم، وكانت والدتها تنتمي أيضاً لعائلة أرستقراطية.

درست تشوت التعاليم الدينية وشؤون الحياة الأسرية، واشتهرت بجمالها، وتقدَّم العديد من الرجال للزواج بها حتى قرَّر والداها تزويجها بتيوكو إبراهيم لامنغا، أحد أبناء العائلات الأرستقراطية أيضاً.

أعلن الاستعمار الهولندي الحرب على سلطنة آتشيه في 26 مارس/آذار عام 1873. كانت الحملة العسكرية الأولى للآتشيين، خلال الجزء الأول من الحرب، بقيادة بانجليما بوليم والسلطان علاء الدين محمود شاه الثاني.

في المقابل، أرسل الجيش الهولندي حملةً عسكرية مؤلفة من 3 آلاف جندي بقيادة الجنرال يوهان هارمن رودولف كولر؛ للاستيلاء على قصر السلطان نفسه، ما يعني السيطرة على العاصمة وعلى كل شيء في سلطنة آتشيه.

مع ذلك، تلقّى سلطان آتشيه مساعدةً عسكرية من إيطاليا وبريطانيا، إذ كانتا منافستين لهولندا في ذلك الوقت. أدّت هذه المساعدات إلى تحديث جيش آتشيه سريعاً وارتفع عدد قواته من 10 آلاف إلى 100 ألف جندي.

نجح جيش آتشيه في صد هجوم القوات الهولندية هذه المرة، بل لقي الجنرال الهولندي كولر حتفه في المعركة.

وبعد ستة أشهر فقط من تلك الحملة، في نوفمبر/تشرين الثاني من العام نفسه، خلال الحملة العسكرية الثانية لسلطنة آتشيه، نجح الهولنديون في الاستيلاء على التقسيم الإداري السادس الذي وُلدت فيه تشوت نياق دين، بعدها سيطروا على قصر السلطان نفسه في عام 1874.

خلال تلك الفترة نزحت تشوت نياق دين هي والكثير من الأهالي. بينما واصل زوجها إبراهيم لامنغا القتال لاستعادة أراضي الإقليم السادس الذي سيطر عليه الهولنديون أول شيء.

بعد أربع سنوات فقط من هذه الأحداث المدمِّرة، لقي زوجها إبراهيم لامنغا حتفه أثناء نضاله ضد الهولنديين المستعمرين. توفي تحديداً في 29 يونيو/حزيران 1878، وكانت تشوت حينها في الثلاثين من عمرها.

عندما جاءها الخبر، تعهدت تشوت نياق دين بالانتقام من الاستعمار الهولندي.

بعد وفاة زوجها بفترةٍ قصيرة تقدّم لخطبتها تيوكو عمر، وهو أحد أبطال آتشيه المعدودين. رفضت تشوت العرض، لكنها وافقت لاحقاً عندما اتفقا على أنه سيسمح لها بالمشاركة في القتال ضد الاستعمار الهولندي.

تزوجا عام 1880، وأنجبا ابنتهما التي سمياها تشوت غامبانغ. وفي معاركها ضد الاستعمار كانت تشوت نياق دين تصطحب ابنتها معها في غرف العمليات، فلم يكن شيء يوقفها عن قضيتها: طرد الاستعمار الهولندي من السلطنة المتداعية.

أُعلِنَ الجهاد المقدس ضد المستعمرين، وانضم المتطوعون إلى القائد تيوكو عمر وزوجته تشوت، وبدأوا في المقاومة على طريقة “حرب العصابات” التي تُنهك عادةً الجيوش النظامية.

كانت جيوش الهولنديين أقوى وأكثر تنظيماً بكثير من المقاومة، بالطبع. وبعد ثلاثة عشر عاماً من زواج تشوت وتيوكو عمر ومقاومتهما معاً، استسلم تيوكو عمر في إحدى المعارك، بسبب ضعف التسليح ونقص الإمدادات. استسلم هو و250 من رجاله عام 1893.

رحَّب الهولنديون باستسلامه، وعيّنوه قائداً تابعاً لهم. لكن، هل قنع عُمر بهذا التعيين؟ هل صالح الاستعمار الهولندي؟ لا.

فقد ظلّ عمر يُخطط سراً للانقلاب على قوات الاستعمار تلك. فلا يعني أنه استسلم تحت ظروفٍ صعبه أنه سيصبح موالياً للاستعمار. فبعد عامين، تلقّى تيوكو عمر أوامر بالهجوم على مدينة آتشيه، لكنَّه بدلاً من ذلك غادر بقواته ومعداته الثقيلة وأسلحته وذخائره الهولندية، مستخدماً تلك الإمدادات لمساعدة الآتشيين.

سُجّلت هذه الحادثة في التاريخ الهولندي باسم “خيانة تيوكو عمر”. وإن رآها المستعمر خيانة بالطبع، فهي وطنية لدى شعب آتشيه.

واصل تيوكو عمر وزوجته قيادة مقاومة الهولنديين بمعداتهم الجديدة حتى أرسل الهولنديون قوات الشرطة العسكرية الملكيَّة. وجد المقاومون صعوبة بالغة في مواجهة تلك القوات، ولقي العديد منهم مصرعهم.

وفي هذا الوضع الحَرج الذي تمرُّ به المقاومة، استغلّ الجنرال الهولندي، يوهانس بنديكتوس فان هوتز، هذه الحالة وأرسل جواسيسه إلى آتشيه.

وعبر الجواسيس شنّ الهولنديون هجوماً مفاجئاً على تيوكو عمر واستطاعوا قتله في معسكره.

ويُحكى أن ابنته عندما علمت بخبر وفاته بدأت في البكاء، فصفعتها والدتها تشوت نياق دين، ثم عانقتها قائلةً: نحن نساء آتشيه، لا نذرف الدموع على الشهداء.

بعد وفاة زوجها، واصلت تشوت نياق دين قيادة المقاومة وحدها ضد الهولنديين بجيشها الصغير حتى انهار في عام 1901. فقد غيَّر الهولنديون تكتيكاتهم العسكرية لتتلاءم مع الوضع في آتشيه.

علاوة على ذلك، عانت تشوت نياق دين من آلام العظام وضعف في النظر مع تقدّمها بالعمر، فقد كانت سنُّها الآن قرابة الستين. وفي الوقت نفسه، ظلَّت أعداد قواتها تتناقص وعانوا من نقص الإمدادات.

قبض الهولنديون عليها بعدما خانها أحد رجالها وأبلغ عنها. هاجم الهولنديون مقرّ قواتها على حين غرَّة. وعلى الرغم من المقاومة اليائسة، فقد أُلقي القبض عليها، لكن ابنتها نجحت في الهرب وواصلت المقاومة.

أُرسِلت تشوت نياق دين إلى العاصمة، باندا آتشيه، وتعافت صحتها تدريجياً. ثمّ قرر الهولنديون نفيها بعيداً إلى سوميدانغ، في جاوة الغربية، لأنَّهم كانوا يخشون من احتمالية حشدها شعب آتشيه من جديد للمقاومة.

وقد توفيت تشوت نياق دين في 6 نوفمبر/تشرين الثاني 1908. لاحقاً، وبعد استقلال إندونيسيا عن الاستعمار، أعلنها أوّل رئيس لإندونيسيا، أحمد سوكارنو، بطلةً وطنية للبلاد في 2 مايو/أيار 1964. 

كما سُمّي مطار باسمها في منطقة وصاية بإقليم آتشيه؛ تكريماً لها.

المصدر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى