تقارير وملفات إضافية

هدف بوتين أكبر من حفتر.. لماذا يشكل التدخل الروسي في ليبيا تهديداً استثنائياً لأوروبا؟

كان لموسكو يد رئيسية في خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، واليوم بدأت روسيا تحاصر أوروبا من ليبيا خاصرتها الجنوبية، والمفارقة أن دولاً تعتبر نفسها قائدة لأوروبا تساعد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على تحقيق حلم القياصرة القديم بالوصول إلى مياه البحر المتوسط الدفيئة.

اللافت أن الإنذار بخطورة الوجود الروسي في ليبيا ومخاطره على الأمن القومي الأوروبي لم يأتِ من باريس أو برلين، بل جاء من واشنطن المتهمة من قِبل شركائها الأوروبيين بالتقاعس عن حماية أوروبا من التهديد الروسي.

بينما فعلياً أدت سياسات بعض الدول الأوروبية إلى تعزيز نفوذ روسيا بشكل غير مسبوق.

وكانت القيادة الأمريكية الإفريقية قد حذرت من أن روسيا نشرت 14 طائرة في ليبيا، وقالت إن هدف روسيا على المدى الطويل لإنشاء موطئ قدم في المنطقة قد يهدد حلفاء الناتو.

وقال الجنرال جريجوري هادفيلد، نائب مدير المخابرات الأمريكية التابعة للقيادة الأمريكية في إفريقيا، إن الولايات المتحدة تتبعت الطائرات المقاتلة من طراز ميج 29 وقاذفات مقاتلة من طراز SU-24 التي كان يقودها الجيش الروسي، مروراً بإيران وسوريا قبل الهبوط في قاعدة الجفرة الليبية.

وهذه القاعدة هي المطار الأمامي الرئيسي لخليفة حفتر في الغرب الليبي.

وقال هادفيلد: “إذا حصلت روسيا على مركز دائم في ليبيا، والأسوأ من ذلك، قامت بنشر أنظمة صاروخية بعيدة المدى، فسيكون هذا بمثابة تغيير في اللعبة بالنسبة لأوروبا والناتو والعديد من الدول الغربية”.

وقال إن “تدخل روسيا في ليبيا يتيح لها الوصول إلى نفط ذلك البلد وقاعدة عسكرية متمركزة استراتيجياً على مسافة قريبة من أوروبا”.

ونفت روسيا وجود صلة بهذه الطائرات ووصفت هذا الزعم بأنه “غباء”.

ولكن روسيا لم تنفِ تحرك هذه الطائرات وتوجهها لليبيا، في رواية تشير إلى أن الاتهام الأمريكي أقرب للحقيقة.

إذ قال فيكتور بونداريف، قائد القوات الجوية الروسية السابق الذي يرأس لجنة الدفاع في مجلس الشيوخ، إن الطائرات ليست روسية، ولكن يمكن أن تكون طائرات تعود إلى الحقبة السوفييتية مملوكة لدول إفريقية أخرى.

وقد اعترض العسكري الأمريكي على التفسير الروسي قائلاً: “إنه لم تكن هناك أي من تلك الطائرات في ذلك الجزء من إفريقيا”. وقال: “لم نشاهدهم يطيرون من روسيا فقط عن طريق إيران وسوريا إلى ليبيا، بل تمكنا من تصويرهم في نقاط متعددة”.

وقال الجنرال الأمريكي إن الجيش الأمريكي يعتقد أن تسليم روسيا طائرات حربية إلى ليبيا ربما لن يغير التوازن على الأرض في الحرب الدائرة بليبيا والذي تحوَّل لصالح حكومة الوفاق، مضيفاً أنَّ هدف موسكو هو ضمان “معقل استراتيجي في شمال إفريقيا”.

هادفيلد أشار إلى أن موسكو قد لا تكون بحاجة إلى انتصار صريح لحفتر لتعزيز المصالح الروسية، مضيفاً: “فيما يتعلق بدعم الجيش الوطني الليبي ودعم المشير حفتر، الأمر لا يتعلق في الحقيقة بكسب الحرب، وإنما بإقامة معاقل“.

وبالنظر إلى ما حدث في سوريا، التي أصبحت موسكو اللاعب الرئيسي فيها، فإنه قد يتكرر نفس السيناريو في ليبيا أو بشكل أسوأ.

 إذ قد يصبح النفوذ الروسي في ليبيا أقوى منه في سوريا في ظل أن حفتر أضعف من الأسد ولا يمتلك لا شرعية الرئاسة ولا تأييد حزب مثل البعث والطائفة العلوية.

كما أن وجود حلفاء آخرين كمصر والإمارات وفرنسا في ليبيا أضعف منه في سوريا.

فلدى إيران مئات الآلاف من الميليشيات على الأرض في سوريا، ولكن رغم ذلك هُمشت إيران إلى حد كبير في الشأن السوري.

وفي ليبيا قد يكون الأمر أفضل للروس، حيث تساعد العديد من العوامل على تعزيز الدور الروسي، مثل قلة سكان البلاد، وطبيعة البلاد الجغرافية المسطحة في أغلبها والقليلة السكان، الأمر الذي يجعل من يسيطر على سماء البلاد يسيطر على أرضها، وهو ما يمكن أن تحققه روسيا عبر الطائرات التي أرسلتها.

تمثل ليبيا التي تحتل مساحة كبيرة من الساحل الجنوبي للمتوسط أهمية كبيرة بالنسبة لأوروبا.

فهي الدولة التي يتحرك منها مئات الآلاف من المهاجرين صوب الشاطئ الشمالي للبحر المتوسط. ويرى مراقبون أن الجماعات الإسلامية المتطرفة، مثل “داعش” والقاعدة يمكن تتخذ من ليبيا ملاذاً آمناً لتنمو وتتوسع وتصدر إرهابها إلى دول أوروبا، ناهيك عن أهميتها الاقتصادية، خصوصاً كمصدر مهم لتوريد الطاقة.

ولكن مع دخول الروس إلى ليبيا تظهر خطورة الموقع الجغرافي الليبي في مجال الأسلحة الاستراتيجية أيضاً.

فبينما تعودت أوروبا الغربية أن يأتي الخطر الروسي عليها من الشرق، كما أن هذا الخطر يوجد بينه وبين أوروبا الغربية دول عازلة كروسيا البيضاء الموالية لموسكو وأوكرانيا الممزقة بين تاريخها الأقرب لروسيا ومستقبل يتمنى جزء من سكانها  أن يكون مع أوروبا، وكذلك بولندا وغيرها من دول الكتلة الشرقية  السابقة التي أصبحت جزءاً من الاتحاد الأوروبي وتشكل منطقة عازلة حقيقية بين أوروبا الغربية وموسكو.

ولكن اليوم بات الخطر الروسي قادماً من الجنوب حيث لا يوجد أرض عازلة بل مياه البحر المتوسط.

وقد يكون لمثل هذا التواجد الروسي في الخاصرة الجنوبية الضعيفة لأوروبا تأثيرات كبيرة، على الدفاعات الصاروخية الأوروبية المنصوبة على أساس أن خطر الصواريخ والطائرات الروسية يأتي من الشرق.

وقد يكون للوجود الروسي في ليبيا تأثير سياسي كبير أيضاً.

فالوجود الروسي في ليبيا يأتي في وقت تحاول فيه موسكو كما فعلت أثناء أزمة كورونا في إيطاليا، الوقيعة بين روما الغاضبة أصلاً من  الاتحاد الأوروبي وبين باريس وبرلين.

وقد يكون وجود قوي لروسيا مشجعاً إلى أن تمضي إيطاليا قدماً في تعزيز علاقتها مع موسكو.

ولكن الدولة الأوروبية الأقرب بفطرتها التاريخية لروسيا هي اليونان الأرثوذكسية.

فعلى عكس دول أوروبا الغربية البروتستانتية والكاثوليكية، تحتفظ اليونان بذاكرة إيجابية تجاه روسيا والعكس، خاصة أن اليونان لم تذُق مرارة الاحتلال الروسي مثل بولندا وأوكرانيا وغيرها من دول شمال شرق القارة.

بل على العكس فقد تزامن ظهور روسيا على الساحة الأوروبية في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، مع اختفاء الإمبراطورية البيزنطية اليونانية المحتوى على يد العثمانيين.

وتعتبر روسيا نفسها وريثة الإمبراطورية البيزنطية في زعامة العالم الأرثوذكسي، والدولتان لهما تاريخ من الصراع مع تركيا.

واليونان أكثر من أي دولة أخرى مرشحة لتبدل ولاءها من الاتحاد الأوروبي لموسكو لو ازداد وزن روسيا في البحر المتوسط.

وبينما يوزع قادة الاتحاد الأوروبي الاتهامات على إدارة ترامب، وإيطاليا واليونان عن المشاكل في ليبيا وتزايد النفوذ الروسي في أوروبا والبحر المتوسط والشرق الأوسط، فالواقع أن إدارة أوباما والدول الأوروبية الكبيرة  هي المسؤولية الحقيقية عن تحقيق بوتين للحلم الذي فشل فيه القياصرة في الوصول لمياه البحر المتوسط الدفيئة.

والبداية لم تكن من ليبيا.

إذ لم تكن بداية الحصار الروسي لأوروبا من ليبيا بل من سوريا، عندما تخاذل الغرب عن دعم الثورة السورية، تاركاً هذه الثورة نهباً للمتطرفين، والتحالف الروسي الإيراني.

والأسوأ عندما ترك الغرب تركيا شريكته في الناتو في خضم أزمة مع روسيا بعد تدخلها في سوريا، وصلت لذروتها بإسقاط أنقرة لطائرة روسية اخترقت الأجواء التركية، وفي ذلك الوقت سحبت دول الناتو منظومة باتريوت من تركيا ، مما أظهر لتركيا أن هؤلاء حلفاء لا يمكن الاعتماد عليه، وزاد الأمر سوءاً الموقف الأوروبي المتخاذل عن التصدي للانقلاب الذي شهدته تركيا في عام 2016.

تسببت هذه المواقف في خسارة كبيرة للغرب وحلف الناتو.

فعلياً فقدت أوروبا وأمريكا ثقة تركيا كحليف مهم يمثل قوة عسكرية وسياسية وأيديولوجية إقليمية، ويمتد نفوذه من ليبيا حتى آسيا الوسطى وشبه جزيرة القرم، مروراً بالمنطقة العربية والقرن الإفريقي.

والأهم أن أوروبا تركت قوى الربيع العربي نهباً للتحالف الروسي الإيراني.

ولكن في ليبيا كان أداء أوروبا أسوأ.

تركت أوروبا والناتو الثورة السورية تهزم على يد التحالف الإيراني الروسي، رغم ما يمثله هذا التحالف من مخاطر على أوروبا والعالم العربي معاً.

ولكن في ليبيا لم تترك أوروبا الربيع العربي لأعدائه، بل إن فرنسا عراب السياسة الأوروبية والدولة التي تقدم نفسها أنها زعيمة الليبرالية في العالم تحالفت مع القوى المضادة للربيع العربي ممثلة في مصر والإمارات وحفتر ضد الثورة الليبية.

المفارقة أن الحجة الفرنسية المعلنة كانت محاربة الإرهاب، رغم أن الجميع يعلم أن الدور الرئيسي لمحاربة الإرهاب في ليبيا كان لحكومة الوفاق والقوى الموالية لها مثل عملية البنيان المرصوص التي قضت على تنظيم داعش في سرت وحررت المدينة منه.

ورغم أن إيطاليا كانت أقرب لحكومة الوفاق، فإن الثقل  الفرنسي مدعوماً بالتواطؤ الألماني مع باريس جعل سياسة أوروبا أقرب لتأييد حفتر الجنرال الذي يباهي بانقلابه على المؤتمر الوطني المنتخب في ليبيا.

وظهر ذلك في العملية البحرية “إيريني” التي تسعى لمنع وصول السلاح من تركيا لحكومة الوفاق بحراً، بينما تعترف أنها لاتستطيع منع تهريب السلاح من مصر براً.

فرنسا الماكرونية التي بحثت عن مصالحها الضيقة سواء ما يتعلق بشركاتها النفطية أو صفقات السلاح مع مصر والإمارات، لم تكتفِ فقط بدعم جنرال يفاخر بأنه انقلابي، كما أنه مشهور بنقضه للاتفاقات والعهود حتى التي رعتها الأمم المتحدة، ولكنها فعلياً بددت استثمارات أوروبية وضعت في الجانب المؤيد لحكومة الوفاق لمحاربة الهجرة غير الشرعية والإرهاب.

ولكن الأهم أن سياسات فرنسا أدت إلى إيجاد بوتين لموطئ قدم في ليبيا، وفي الوقت ذاته أدت السياسات الفرنسية الألمانية العدائية تجاه تركيا ليس فقط إلى اقتراب أنقرة من موسكو، بل  أصبحت أنقرة تدير سياستها الخاصة في المنطقة، سواء فيما يتعلق بقضية التنقيب عن الغاز في شرق المتوسط أو ترسيم الحدود البحرية وصولاً إلى دعم حكومة الوفاق.

ورغم أن المصالح الأوروبية أقرب إلى تركيا في كل هذه الملفات، ولكن الطريقة الفرنسية الألمانية دفعت تركيا إلى التقارب إلى خصمها القديم روسيا، الأمر الذي أفضى إلى اتفاقات بين البلدين في سوريا، حفظت لأنقرة بعض المصالح في سوريا وقللت وطأة عنف النظام تجاه النازحين السوريين في إدلب.

وبينما تقدم ألمانيا الميركلية وفرنسا الماكرونية أنفسهما على أنهما حكماء الحضارة الغربية، فإنهما في الواقع يستغلان زعماتهما للاتحاد الأوروبي لتوزيع النصائح، والاتهامات.

فسياسات الدولتين تجاه تركيا أو سياسة ألمانيا تجاه خط الغاز الروسي نورد ستريم الذي يأتي من روسيا عبر ألمانيا ويجعل أوروبا أكثر اعتماداً على موسكو في مجال الطاقة أو سياسة فرنسا تجاه ليبيا جميعها أدت إلى تقوية روسيا.

فقد أدى الجفاء مع تركيا إلى تحقيق روسيا مكسباً تاريخياً بالتقارب مع تركيا بوابة أوروبا والناتو الجنوبية، والدعم الفرنسي لحفتر انتهى إلى مكسب لبوتين.

تبدو فرنسا وألمانيا بمثابة طابور خامس لصالح روسيا أكثر منهما قائدين للحضارة الغربية في مواجهة التوسع القادم من الشرق.

كما يبدو أن فرنسا وألمانيا رغم محاضرتهما المتكررة عن الديمقراطية تفضلان التعاون مع الأنظمة الاستبدادية والجنرالات أكثر من الأنظمة المنتخبة ديمقراطياً.   

المصدر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى