تقارير وملفات إضافية

هل الصراع الأمريكي – الصيني إعادة للحرب الباردة مع الاتحاد السوفييتي؟ كلا وهذه هي الأسباب

وَصْف الصراع بين الولايات المتحدة والصين على أنه حرب باردة جديدة هو من قبيل الكسل أو التضليل، فلا يوجد وجه للشبه بين الحرب الباردة بين المعسكرين الغربي والشرقي بزعامة واشنطن وموسكو، وهذا التقرير يفسر ذلك.

موقع Responsible Statecraft الأمريكي نشر تقريراً بعنوان: “هل الصراع مع الصين إعادة للحرب الباردة؟”، رصد طبيعة الحرب الباردة بين الولايات المتحدة من جهة والاتحاد السوفييتي المنهار من ناحية أخرى وكيف أن الصراع الحالي مع الصين مختلف تماماً في جميع جوانبه ومسبباته.

أعلنت واشنطن الحرب على الصين. إذ تأمل الإدارة الأمريكية وحلفاؤها بأن الحرب ستكون “باردة”، لكن لا توجد استراتيجية لإبقائها باردة. نلاحظ أن الأعضاء الأشد عداوةً للصين بمجلس الشيوخ هم أصغر أعضائه. فقد بلغوا الرشد بعد انتهاء الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، ولم يجربوا القلق والمخاوف المصاحبة لتلك الفترة، ويعتبرون الانتهاء المفاجئ للحرب على أنه قدرٌ مكتوب منذ البداية. وخبرتهم العسكرية، إن وُجدت، هي المعادل المعاصر للحروب الهندية في القرن التاسع عشر، أي الحرب ضد مزارعين يحملون البنادق، وليس لديهم قوات جوية أو بحرية أو صواريخ موجهة أو أسلحة نووية.

الحرب الباردة كانت مختلفة جذرياً عن هذا التصور. لقد كانت صراعاً عالمياً بين تكتلين أيديولوجيين متنافسين، بين مركزي قوة مسلحين بالأسلحة النووية، قادرين على تدمير ليس بعضهما البعض فقط، بل الحياة على كوكب الأرض بالكامل.

وقد بدأ الأمر بمجموعة من النزاعات على غنائم الحرب العالمية. وسعى كل جانب إلى ترسيخ مناطق النفوذ السياسي العسكري والاقتصادي وطرد الجانب الآخر. لكن كل جانبٍ تعلم كيف يتجنب المواجهات التي قد تؤدي إلى قتالٍ مسلح، وكل جانب اقتصرت تحركاته على حروبٍ بالوكالة تستهدف الحفاظ على أو فرض أيديولوجيا في مكانٍ لا يُسيطر عليه الجانب الآخر، وكلاهما سعى إلى تقليل أو احتواء التعامل مع الجانب الآخر.

الصراع الذي بدأته الولايات المتحدة الآن مع الصين لا يحمل أياً من هذه الصفات. ومقارنته بالحرب الباردة ليس فقط من باب الكسل، بل هو تضليلٌ عميق. إن الشقاق بين الصين والولايات المتحدة ليس الجزء الثاني من حربٍ عالمية دموية، بل هو سباق بين تصورات ذاتية وطموحات قومية، وليس بين أيديولوجيتين متناحرتين. الصراع مع الصين تنافس بين طرفين قد تختار فيه أطراف ثالثة الانحياز إلى أيهما من عدمه، وليس صراعاً بين تكتلين من الدول الملتزمة بالدفاع عن بعضها البعض. والصين أقل عدوانية وأكثر قوة بكثير من الاتحاد السوفييتي المنهار.

إن محاكاة ديكتاتورية الصين عبر إغلاق الولايات المتحدة في وجه السلع والخدمات والأشخاص والأفكار القادمة من الخارج، كما تفعل الولايات المتحدة الآن، يضر بالولايات المتحدة أكثر. فالنزاع مع الصين الصاعدة لا يمكن إدارته بطريقة الحرب الباردة. فهو لن ينتهي، كما انتهت الحرب الباردة، باستسلام طوعي من الخصم الساخط والمنهك أيديولوجياً.

في الأدب الصيني، هناك وحش يُدعى “ليس”. رأسه ووجه نحيفان مثل الحصان، لكنه ليس بحصان.  قرونه أشبه بقرون الغزال، لكن القرن ليس قرن غزال. له رقبة جمل، لكنه ليس بجمل. وذيله ذيل حمار، لكنه ليس بحمار. إن وصف “ليس” بأنه ليس كالحيوانات التي رأيناها سابقاً لا يُساعدنا في فهم ماهيته.

الصين هي “ليس” في المشهد الجيوسياسي اليوم. يحكمها حزب شيوعي، لكنها تُشارك بنشاطٍ في النظام الرأسمالي العالمي، وتلتزم بمبادئ التجارة الحرة، والتوسع في الاستثمارات الأجنبية، واقتصاد السوق الذي يتبع سياسات التصنيع وليس التخطيط المركزي. والصين مسلحة بالأسلحة النووية، لكنها خفضت حجم ترسانتها وجهزتها لضربة انتقامية استجابةً لهجومٍ من قوة نووية أخرى، لا لإطلاق الضربة الأولى، وهي إمكانية تخلت الصين عن جاهزيتها لها. والصين تهديد للأفضلية الأمريكية على الساحة العالمية، لكن في المجالين الاقتصادي والتكنولوجي، وليس من الناحية السياسية أو العسكرية، حيث هي بلا شك أدنى من الولايات المتحدة. والصين عادت المركز الاقتصادي والثقافي لمنطقتها، في حين أن الولايات المتحدة منذ 75 عاماً هي السيد المقيم لهذه المنطقة، لكن الصين لا تسعى إلى كسب أي “حلفاء” وليس لها دول خاضعة سياسياً أو تابعة عسكرياً.

من المهم توضيح أن الصين ليست الاتحاد السوفييتي، فالصين ليس لديها أيديولوجيا تسعى للتبشير بها أو تصديرها، والصين لا تشارك في عمليات لتغيير الأنظمة لخلق نطاقٍ من النفوذ الأيديولوجي. علاقات الصين بالدول الأجنبية علاقات معاملات خالية من المشاعر والتوجهات، واقتصاد الصين أضخم بكثير من اقتصاد الاتحاد السوفييتي، وهي تضم بالفعل ربع القوة العاملة العلمية والتكنولوجية والهندسية والرياضية في العالم. ومُبادرة الحزام والطريق استراتيجية جغرافية اقتصادية لتأسيس نظام جديد، ليس لها مثيل عند السوفييت. تُنفق الصين 2% فقط من إجمالي الناتج المحلي على الجيش، بالمقارنة بنسبة 9 إلى 15% أنفقها الاتحاد السوفييتي وفق التقديرات، ولا تمتلك الصين ترسانة نووية تضاهي ترسانة الولايات المتحدة أو روسيا.

ومن المهم بالقدر نفسه ملاحظة أن الولايات المتحدة في 2020 غير الولايات المتحدة في أوائل الحرب الباردة. فمع بداية الحرب الباردة، كانت الولايات المتحدة تنتج نصف السلطة المصنعة في العالم، مقارنة بالسدس الآن. وأثناء الحرب الباردة، كانت الولايات المتحدة هي زعيمة تكتل من الدول التابعة يُسمى “العالم الحر”، ولا يُنازعها في زعامتها دولة أخرى. أما الآن، فهذا التكتل يتفكك يوماً بعد يوم. والتحالفات القديمة التي كونتها الولايات المتحدة من أجل احتواء الاتحاد السوفييتي لا أهمية لها في الصراع الأمريكي مع الصين، والتحالفات بين الولايات المتحدة وأوروبا مثل حلف الناتو تتراجع، ولا يوجد شريك من الشركاء الأمنيين للولايات المتحدة في آسيا على استعداد للاختيار بين أمريكا والصين.

إن الولايات المتحدة معزولة في قائمة واسعة من المشاكل. وقد انسحبت أو أقصت نفسها من عددٍ متزايد من أدوات الحوكمة العالمية والإقليمية متعددة الأطراف، ولا يمكنها بعد الآن قيادة المجتمع الدولي. وقد رفض الأمريكيون مرارًا إعادة تمويل أو التعاون في إصلاح المؤسسات المالية العالمية من أجل تلبية متطلبات الاستثمار الإقليمي والعالمي الجديدة. وأدى هذا بالصين والهند وعددٍ آخر من القوى الصاعدة إلى تأسيس جهات قراضٍ مثل البنك الآسيوي لاستثمارات البنية التحتية وبنك التنمية الجديد.

قبل أربعة أعوام، قررت الولايات المتحدة من طرفٍ واحد أن الوضع الجيوسياسي تحركه الخصومة العسكرية بين القوى العظمى، وأنه لا مكان للتعاون. هذا الموقف المشاكس الجديد من الولايات المتحدة يشرعن الخوف من الآخر ويبرر المقاربات الثنائية للعلاقات الأجنبية، التي تتجاهل قضايا مثل الإرهاب العالمي والجوائح والتغير المناخي والهجرة والانتشار النووي والتوترات الإقليمية، بما يضعف الحكومة العالمية والتنسيق الدولي المطلوب لحل هذه المشاكل. وتحرص الولايات المتحدة على إظهار أنها لا تكترث لمصالح وحساسيات شركائها السابقين والمحتملين. فهي تنسحب من المنظمات الدولية التي لا يمكنها الهيمنة عليها، وهذه التحركات تؤدي إلى نزع الأدوات الدبلوماسية من طرفها وخلق فراغات سياسية اقتصادية تملأها أطراف أخرى، فضلاً عن الصين نفسها.

وسيتحير المؤرخون في المستقبل عن سبب اختيار الأمريكيين تفكيك الروابط والإمكانات التي مكنت الولايات المتحدة من توجيه مسار الأحداث في أغلب الساحات العالمية والإقليمية. وحين يحلون ذلك اللغز، سيتعين عليهم تفسير الانهيار الذي تزامن مع ذلك في هيكل الفصل بين السلطات الذي تأسست عليه الجمهورية الأمريكية وقامت عليه الحريات. لكن لحسن الحظ لأمريكا ما بعد الدستورية، فإن النظام السياسي الصيني، رغم الاستقرار والرخاء الذي تحقق في عهده، يلقى قبولاً أقل خارج حدود الصين من النظام السياسي الأمريكي. كلا البلدين ينفر الدول الأخرى الآن.

والجانب العسكري ستتفوق فيه الولايات المتحدة، لكنه ليس العنصر المركزي في المواجهة المحتملة مع الصين. إن انسحاب الولايات المتحدة من دورها التقليدي في وضع القواعد وفرضها على مستوى عالمي يحرمها من النفوذ المهيمن الذي مارسته عبر المؤسسات التي صنعتها بعد الحرب العالمية الثانية. تظل هناك قوى عظمى أخرى ملتزمة بالنظام الذي تقوده الولايات المتحدة ويعبر عنه ميثاق الأمم المتحدة، لكن إعفاء أمريكا نفسها من التزاماتها نحو جمعية الأمم وتحولها التلقائي من قائدة للعالم إلى منسحبة من الاتفاقيات تركها عاجزة من مراكمة قوتها مع قوة الأمم الأخرى.

إن لجوء واشنطن إلى اللهجة العنيفة والتهديدات والإجراءات الجبرية زاد بالقدر نفسه الذي تراجعت به قدرتها على استعمال قوتها الناعمة، ما يقلل من حلفائها وشركائها وأصدقائها المحتملين، الذين قد يعبرون عن استعدادهم للانضمام إلى جانب الولايات المتحدة في أي مواجهة قادمة.

المصدر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى